حتى الساعة، لا تزال قواعد الاشتباك بين إسرائيل و«حزب الله» على ثباتها رغم مرور ثمانية أيام على عملية «طوفان الأقصى» صباح 7 تشرين الأول/اكتوبر التي شنتها كتائب القسام – الجناح العسكري لحركة «حماس» على غلاف غزة وما أحدثته من إعلان حكومة تل أبيب حالة الحرب.
يخرج «حزب الله» ليُعلن على لسان قياداته الموقف الذي يرى وجوب إعلانه دون زيادة أو نقصان. قال رئيس مجلسه التنفيذي هاشم صفي الدين: «إننا في هذه المعركة لسنا على الحياد». وأضاف نائب الأمين العام لـ»حزب الله» نعيم قاسم في «يوم النفير»: «نحن كحزب الله نساهم في المواجهة ضمن خطتنا ورؤيتنا ونتابع تحركات العدو ومتى يحين وقت أي عمل سنقوم به». وأردف: «إنَّ الحزب يعرف واجباته تماماً، ونحن حاضرون بجهوزية كاملة ونتابع لحظةً بلحظة، ولن تؤثر الاتصالات التي تجري خلف الكواليس من أطراف دولية لضمان عدم تدخلنا في المعركة».
اقترن الموقف السياسي لـ»حزب الله» بعمليات محدودة ومدروسة و«مدوزنة» على جبهة الجنوب اللبناني، لا تُشكِّل انخراطاً عملياً لـ»الحزب» في الحرب وفق مفهوم «وحدة الساحات». هكذا إعلان سيتطلّب بلاغاً جليّا منه سيأتي على الأرجح على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله لضرورات تهيئة بيئته الحاضنة أولاً، ورسالة للاعبين الإقليميين لا لبس فيها لقرار انخراط «محور الممانعة» في الحرب ثانياً، بوصفه «الناطق الرسمي» باسم هذا المحور الذي تقوده إيران ويشمل ساحات العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن.
عقب انتهاء حرب تموز 2006 التي استمرت 33 يوماً في أعقاب عملية خطف جنديين إسرائيليين من داخل الحدود الشمالية لإسرائيل، قال نصر الله جملته الشهيرة: «لو كنت أعلم أنَّ عملية الأَسر ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً». واعتبر أنَّ قيادة «حزب الله» لم تتوقع ولو واحد في المئة أنَّ عملية الأَسر ستؤدي إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم، لأنه وبتاريخ الحروب هذا لم يحصل.
ما يَسُـرُّ به اليوم لصيقون بـ«محور إيران» يُشبه إلى حد كبير «جملة» نصر الله. يسأل هؤلاء: مَن كان ليتصوَّر أن «عملية طوفان الأقصى» التي كان هدفها الأول «فرقة غزة» في «الغلاف» يمكن أن تحقق كل هذا النجاح وتُنزل بالجيش الإسرائيلي هذه الهزيمة الاستخباراتية والعسكرية والأمنية وتُوقع هذا العدد من القتلى في يوم واحد، الذي فاق عدد ما خسرته إسرائيل في أي حرب خاضتها؟ هذا السؤال بذاته يحمل في طياته اقتناعاً بأن الحسابات بُنيت على أن تُحقق «طوفان الأقصى» اختراقاً يهزُّ كيان العدو ويكشف اهتراء منظومته الاستخباراتية ودفاعات جداره ذات التقنية العالية، إنما من دون أن تجرَّ حكومة بنيامين نتنياهو إلى إعلان حالة الحرب للمرة الأولى منذ حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973.
تمدُّد الجبهات
ما شهدته غزة من مواجهات حربية كان يندرج تحت مسمى «العملية العسكرية»، وحتى اجتياح بيروت عام 1982 والحروب مع لبنان لم تصل إلى حد إعلان «حالة حرب» الأمر الذي يدفع «المحور» إلى تقييم التطورات التي يشهدها الميدان في ضوء الأهداف التي أعلنتها إسرائيل.
بالنسبة لإيران وتالياً لـ»حزب الله» – الذي يُشكِّل «الدرَّة « بين أذرعها العسكرية – فإن تقويض حكم حماس في غزة وانكساره الكليّ وتصفيتها يُشكِّل خطاً أحمر، لأن ذلك سيؤول إلى خسارة البندقية الفلسطينية المنضوية في «المحور» بوصفها جزءاً من الأجندة الإيرانية، ما يعني فقدان ورقة إستراتيجية في الصراع الدائر في المنطقة. وبالتالي، فإن تمدُّد الجبهات مرتبط بالحسابات الكبرى لـ»المحور» التي تحددها إيران وفق مشروعها التوسعيّ العقائديّ وطموحاتها الإمبراطورية. ما يهمُّ «حزب الله» هو أن لا يكون هناك قرار أمريكي-إسرائيلي بسحق «حماس» وإخراجها من المعادلة. ذلك أن تدمير غزة يمكن أن يكون «ثمناً مستوعَباً» إذا بقيت «حماس» التي ستكون قادرة – بعد حين – على أن تنهض من بين الرماد.
في القراءة التقييمية لـ»المحور» أن الإدارة الأمريكية بزعامة الحزب الديمقراطي لا ترغب في اتساع الحرب في المنطقة. يرى لصيقون بـ«المحور» أن الحشود والأساطيل الأمريكية التي تحرَّكت هي خطوة في إطار سياسة اللجم أكثر مما هي استعدادات لقرار «الحرب الإقليمية» على أقله في الوقت الراهن. وليس أدلّ على ذلك من التصريحات الأمريكية بأن لا دليل لها على تورّط إيران في «عملية الأقصى» في وقت تعلم واشنطن علم اليقين أن الإعداد والتخطيط والتحضير اللوجستي والدعم التقني والتكنولوجي والعسكري هو من فعل «الحرس الثوري الإيراني» و«حزب الله» وأنَّ لبنان هو مقر غرفة العمليات المشتركة للميليشيات الإيرانية، وأن الساحة اللبنانية أضحت مرتعاً لحركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في مشهد مريع لانهيار الدولة اللبنانية على المستوى السياسي والعسكري والأمني. ولا يمكن اعتبار أي تحرُّك للمنظومة السياسية والعسكرية اللبنانية إلا من قبيل ضرورات الحفاظ على هيكل دولة غير قائمة.
الضغط والتهديد
ما يدور من كلام لدى «المحور» هو أنه إذا حصل اجتياح بريّ لغزة، فإن جبهات أخرى ستُفتح، يبقى في خانة الضغط والتهديد. الرهان عملياً على صمود الفصائل المسلحة في غزة، وتأمين الأرضية لتوسيع الجبهات الأخرى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس وأراضي 48، وإبقاء جبهة الجنوب «جبهة إشغال» إنما تحت سقف مضبوط بما لا يُطيح بقواعد الاشتباك. هذا لا يعني أن قدراً من الاطمئنان يسود الشارع اللبناني الخائف مِنْ أنْ تُورِّط إيران لبنان بحرب جديدة مدمّرة بفعل هيمنتها، من خلال «حزب الله» على قرار السلم والحرب، في وقت لا مقومات داخلية على تحمُّل تبعات هكذا حرب مع الانهيار المالي والاقتصادي والانقسام السياسي الشعبي الحاصل في البلاد.
وتنطلق مخاوف تدحرج الاحتكاكات العسكرية على جانبَي الحدود إلى حرب واسعة النطاق من التوقعات بأن هذه الحرب – إن وقعت – ستفوق حرب 2006 في حجمها وقدراتها على أقله من جانب «حزب الله» وسط اعتبار مقرَّبين منه أن حضور «الحزب» سيكون قالباً للتوازنات، إذ إن ميزان المعركة سيتحوَّل خلال 48 ساعة وليس في غضون أيام طويلة أو أسابيع أو أشهر، انطلاقاً من أن نموذج الحرب المقبلة سيكون مختلفاً، بغض النظر عما يمكن أن يحمله هذا الكلام من مبالغات أو تمنيات، فإن مما لا شك فيه أنَّ توسُّع الحرب ليشمل جبهة لبنان سيكون كارثياً في نتائجه التدميرية ولا سيما أنَّ الحرب لن تقتصر عندها على إسرائيل و«حزب الله» بل ستضطر الأمريكيين إلى المشاركة المباشرة بحسب التحذيرات التي يطلقونها.
تُدرك إيران، ومن خلفها «حزب الله» أنَّ أمريكا تستخدم سياسة العصا والجزرة. هذا يقود إلى تنشيط القنوات الخلفيّة بين واشنطن وطهران، وسيفتح كوَّة، لكن هذه الكوَّة ليست على مسار حل القضية الفلسطينية، على أقله في المدى المنظور، إذ إن لملمة الجراح العميقة التي أفضت إليها عملية «طوفان الأقصى» على الجانب الإسرائيلي خلقت حواجز كبرى وأسَّست لامتداد الصراع لسنوات طويلة، ما يعني أن الثمن الذي يمكن أن تجنيه إيران يرتبط بحساباتها الكبرى بعدما نجحت في استخدام ورقة «حماس» وتجييرها لمصلحة مشروعها الإستراتيجي، وفي إصابة مشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي بندوب كبيرة، وهو المشروع الذي كانت تعوِّل إدارة بايدن على إنجازه في زمن قريب واستثماره في الانتخابات الرئاسية 2024 معطوفاً على «الممر الاقتصادي الجديد» بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي أُعلن في «قمة العشرين» في سياق تطويق التمدُّد الصيني.
جاء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى الساحات التي تُمسك بها طهران في رد على زيارة نظيره الأمريكي لحلفاء واشنطن في المنطقة. أراد «المحور» أن يُظهر أن المواجهة تقوم بين لاعبَين هما أمريكا وإيران، وكل منهما قادر على تحريك أحجار الشطرنج التي لا بدَّ من أن يكون هناك رابح وخاسر فيها!.
رلى موفق
المصدر: صحيفة القدس العربي