رغم كل الدعاية السلبية التي تقوم بها منظومة دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، للتقليل من أهمية تكتل “بريكس”، إلا أنه لم يعد بالإمكان إنكار تزايد تأثيره على العلاقات الدولية، حيث بدأ تكتل “بريكس” يتحول تدريجياً في السنوات الأخيرة الى فاعل جيوسياسي واقتصادي يستقطب اهتمام الدول والاقتصادات، ولا سيما دول الجنوب العالمي المغبونة، بما يشكل تهديداً جدياً للهيمنة الأميركية على النظام العالمي، حيث يرفع تكتل “بريكس” شعار الانتقال الى نظام عالمي أكثر عدالة ومساواة على قاعدة المشاركة.
تكتسب القمة السنوية لتكتل “بريكس” 2024 التي تستضيفها مدينة كانازن الروسية بين 22 – 24 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أهمية متزايدة، انطلاقاً من الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في المواجهة الجيوسياسية الكبرى التي تخوضها مع أميركا، فضلاً عن الأولويات التي تركز عليها موسكو خلال فترة رئاستها للتكتل، والتي ستسهم في إحداث نقلة نوعية على صعيد الاقتصاد العالمي. وتعتمد موسكو على توظيف سياساتها الخارجية الفاعلة، والتي طورتها كثيراً في السنوات الأخيرة مع مختلف الدول والقوى في آسيا وأفريقيا، وخصوصاً في الشرق الأوسط، من أجل تطوير آليات عمل تكتل “بريكس”، والتي ترمي الى تعزيز التعاون والمشاركة مع دول الجنوب العالمي.
عوامل القوة والجذب
من بعد انضمام 5 دول مطلع العام الحالي، السعودية والإمارات ومصر وأثيوبيا وإيران، من بينها 3 دول في الشرق الأوسط، صار عدد أعضاء “بريكس” 10 دول، وبات يعد المنظمة الأكبر في العالم من ناحية عدد السكان والمساحة والناتج الإجمالي، حيث تبلغ مساحة دول “بريكس” 43 مليون كلم2، بما يشكل نحو 26.7 % من إجمالي مساحة العالم. فيما ينوف عدد السكان على 3.5 مليار نسمة، بما يشكل نحو 43.5 % من سكان العالم. يضاف الى ذلك، امتلاك دول “بريكس” أكبر احتياطات من الموارد الطبيعية، الأمر الذي يحفز إمكانية تحقيق نمو اقتصادي كبير يعد عامل جذب للعديد من الدول في العالم.
بيد أن النقطة الأكثر جذباً في “بريكس” تكمن في التركيز على سياسات التعاون بين الدول الأعضاء، وبينها وبين الدول الأخرى، على قاعدة عدم خرق السيادة أو التدخل في الشؤون الداخلية. وهو نهج جديد على مستوى العلاقات الدولية يتيح لجميع الدول المشاركة في عملية صنع القرارات الجيوسياسية، بمعزل عن قدراتها الاقتصادية.
علاوة على ذلك، تدفع روسيا بالشراكة مع الصين الى تطوير نموذج اقتصادي جديد يرتكز على التسويات المتبادلة بالعملات الوطنية، فيما يعكس محاولة جدية للتخلص من هيمنة الدولار الأميركي اقتصادياً، والأهم جيوسياسياً، بعدما حولته واشنطن الى أداة لتعزيز هيمنتها على الدول والأسواق والمؤسسات المالية. خلال السنوات القليلة الماضية، نجحت كل من موسكو وبكين في التوسع بتطبيق هذا النموذج على التجارة البينية، حتى وصلت التسويات المتبادلة بينهما بالعملات الوطنية الى 95 %، حسب الأرقام الصادرة عن الحكومتين الصينية والروسية.
بناء عالم أفضل.. بالتعددية والمشاركة
تأسيساً على العوامل الآنفة الذكر، يشارك في قمة كازان ممثلو 32 دولة، بينهم 24 رئيس أو رئيس وزراء، رغم أن واشنطن مارست ضغوطاً هائلة على الدول التي وجهت اليها دعوة، من أجل الاعتذار عن الحضور، أو تخفيض مستوى المشاركة، بهدف إفشال القمة وترويج صورة سلبية عن روسيا ومن ورائها تكتل “بريكس”. كذلك وجهت موسكو دعوات الى زعماء بلدان رابطة الدول المستقلة، ومسؤولي التكتلات والمنظمات الإقليمية، في طليعتهم أمين عام الأمم المتحدة، وأمين عام منظمة “شنغهاي”، وأمين عام الاتحاد الأوراسي الاقتصادي، والدول التي ترأس اتحادات إقليمية في شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
اختارت روسيا عنوان “تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين” ليكون شعاراً لقمة “بريكس” 2024، وفي الوقت نفسه موضوع النقاش الرئيسي في اجتماع الدول الأعضاء العشر ضمن فعاليات القمة. على أن يتبعه جلسة عمل تضم ضيوف القمة وممثلين عن دول أعربت عن رغبتها بالانضمام الى التكتل تحت عنوان “بريكس والجنوب العالمي.. بناء عالم أفضل بشكل مشترك”. هذا وتشير تقديرات روسية الى أن عدد الدول التي ترغب بالانضمام الى تكتل “بريكس” يبلغ 34 دولة.
أهمية العناوين التي تطرحها موسكو للنقاش تكمن في الأفكار التي تدافع عنها وتشكل المحور الأساسي في سياساتها الخارجية، مثل تعزيز التعددية كشرط أساسي لرفع مستويات التنمية الاقتصادية، والارتباط المباشر ما بين مفهوم التعددية والمشاركة من جهة والأمن العالمي من جهة ثانية. لا بد من التوضيح بأن الأمن العالمي هو مفهوم أوسع بكثير من الشكل الكلاسيكي الذي يرد الى الأذهان عند ذكره، ويشمل الأمن الاجتماعي والصحي والغذائي.
وفي هذا الصدد تبذل روسيا ودول “بريكس” جهوداً مكثفة لمواجهة أزمة الغذا العالمي التي تشكل أبرز التحديات الرئيسية للبشرية في عالمنا المعاصر. وهذا ما دفع بروسيا الى توسيع إطار المنتديات والمؤتمرات كي تشمل القارة الأفريقية، التي تعد الضحية الأكبر لأزمة الغذاء وهيمنة الغرب على الموارد الأساسية على حساب دول الجنوب العالمي التي ترزح تحت وطأة استعمار ثلاثي: اقتصادي – مالي – تكنولوجي.
أولويات قمة كازان
صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عدة مناسبات عن أولويات بلاده خلال فترة رئاستها لتكتل “بريكس” عام 2024. هذه الأولويات تشتمل على 4 محاور رئيسية. في طليعتها يأتي الاعتماد على العملات المحلية في التبادل التجاري بين الدول الأعضاء في “بريكس”. وهو ما تنفذه موسكو بشكل عملي ليس مع الصين فقط، بل مع دول أخرى.
ثاني الأولويات إنشاء نظام مستقل للتسوية المالية أو المقاصة “بريكس كلير”، تحدث عنه وزير المالية الروسي باستفاضة منذ أيام قليلة، بما يمكن الدول الأعضاء في “بريكس” والدول الشريكة أيضاً، من الخروج من إسار الهيمنة الأميركية على الأدوات المالية والمصرفية العالمية.
ثالثها، مناقشة فكرة إنشاء نظام إيداع مشترك لتكتل “بريكس”، عبارة عن منصة دفع مشتركة تقترحها موسكو، وترتكز فيها على العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية. وتشمل الخطة إقامة مراكز للتجارة المتبادلة في السلع الأساسية مثل النفط والغاز الطبيعي والحبوب والذهب. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقع في يوليو/ تموز الماضي قانوناً لإطلاق الروبل الرقمي في البلاد، بالتوازي مع إطلاق منصة الكترونية للعملة الرقمية الروسية، بحيث تقدم روسيا تجربة عملانية موثوقة.
رابعها، تأسيس شركة لتقديم خدمات التأمين ضمن إطار العلاقات التجارية بين دول “بريكس”.
هذه الأولويات الروسية الأربعة تسهم في تعزيز استقلالية “بريكس”، وتقدم نموذجاً جذاباً للدول الساعية الى التخلص من هيمنة الغرب الجيوسياسية بسلاح الاقتصاد والأدوات المالية، وفي طليعتها دول الجنوب العالمي. وكذلك الحال بالنسبة لدول الشرق الأوسط التي تسعى الى توظيف قدراتها المالية الهائلة من أجل تعزيز حضورها ودورها في عملية صنع القرار في العالم.
لكن، علينا دائماً أن نتذكر أن “بريكس” هو تكتل لا يزال يافعاً، يعمل على مراكمة النمو في مختلف المجالات، ويفتح أبوابه أمام جميع الدول للاستفادة من المزايا التي يقدمها، والتي تتطور بشكل سريع ومثير.







