في السنوات الأخيرة، بدأت الكثير من الدول النامية تجأر بالشكوى من الهيمنة الغربية على النظام العالمي، وتطالب بإصلاح الخلل البنيوي في مراكز الحوكمة الدولية، مثل مجلس الأمن الدولي وصندوق النقد وغيرها، وبالتحديد بعيد اندلاع الصراع في أوكرانيا. وفي هذا المناخ عاد مصطلح “الجنوب الدولي” الى الظهور، خصوصاً مع نمو وتطور تكتل “البريكس”، الذي أسهم في رفع مستوى الطموحات للوصول الى نظام عالمي جديد أكثر عدالة.
تكتل جيوسياسي
مصطلح “الجنوب العالمي” لا يعبر عن تقسيم جغرافي معين، إنما يقصد به الدول التي تقع خارج منظومة الغرب. وغالباً ما يستخدم للإشارة الى الجزء الأكبر من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي لديها مجموعة من القواسم المشتركة الجيوسياسية والاقتصادية، وتتشارك في الأهداف المستقبلية.
عموماً مصطلح “الجنوب العالمي” ليس حديث العهد بل هو قديم، استخدمه للمرة الأولى الكاتب كارل أوغلسبي في مقالة له في المجلة الليبرالية الكاثوليكية “كومونوييل” عام 1969، اعتبر فيه أن الحرب في فيتنام كانت تتويجاً لتاريخ هيمنة دول الشمال على الجنوب العالمي. [1]
في تلك الحقبة ظهرت العديد من الهياكل والمنظمات الإقليمية في محاولة للتصدي للهيمنة الغربية بدعم سوفياتي، مثل مجموعة دول “عدم الانحياز” و”مجموعة الـ77″ وغيرها.[2] الجدير بالذكر أن “مجموعة الـ77” توسعت بتعاقب السنوات وصارت تضم 134 دولة من جميع قارات العالم، لكنها أبقت على الاسم نفسه لما يحمل من رمزيات تاريخية.
عقب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، سادت الهيمنة الغربية على النظام العالمي ذي القطب الواحد بزعامة أميركا، وراح صناع السياسات في الدول الغربية يمارسون ضغوطاً هائلة على الدول النامية، أي “الجنوب العالمي”، من أجل تحقيق مصالح دولهم تحت ستار تبني النهج الديموقراطي والليبرالية الغربية. [3]
واستمرت الحالة هذه الى أن أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعث الإرث السوفياتي في دعم تحرر الدول النامية من إسار الهيمنة الغربية ومساعدتها مالياً واقتصادياً، بأسلوب حداثي، وعبر سياسات تشاركية تهدف الى بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وهو ما قاده الى التعاون مع الصين، ثم الهند والبرازيل، وجنوب أفريقيا في مرحلة لاحقة، من أجل إنشاء تكتل جيوسياسي جديد هو “البريكس”، ليكون القاطرة التي تقود دول الجنوب العالمي.
تراكم تاريخي
لم تستعجل روسيا ولا شركاؤها حرق المراحل، بل اتبعوا سياسة متوازنة ترتكز على التطور التدريجي والتراكم التاريخي لتكتل “البريكس”، كي يشتد عوده ويصبح أكثر صلابة وتأثيراً. وفي الوقت الذي كان الغرب يسخر عبر قادته ونخبه ووسائل إعلامه من هذا التكتل الجديد، كانت دول “البريكس” تعمل بنشاط على انتهاج سياسات منظمة للحد من الهيمنة الغربية على النظام الدولي.
بدءاً من تأسيس “بنك التنمية الجديد”، مروراً بـ”صندوق احتياطي الطوارئ”، ومن ثم إنشاء “نظام دفع عالمي متعدد الأطراف”، وصولاً الى تأسيس نظام “بريكس بلاس” الذي يتيح لدول جديدة الانضمام الى التكتل لتشكيل قوة عالمية.
بالتوازي مع رفع مستوى التعاون على مختلف الصعد مع الهياكل التنظيمية والتكتلات الإقليمية التي تتشارك وإياها نفس الأهداف. حتى صار تكتل “البريكس” يمثل قوة جيوسياسة لا يستهان بها، تمثل ربع الاقتصاد العالمي، وخمس عمليات التبادل التجاري، ونحو 40 % من سكان العالم، وباتت تشكل منافساً جدياً وحقيقياً لمجموعة الـ”G7″. [4]
عند هذه النقطة بدأت دول “البريكس” تسعى من أجل خلق هوية جامعة للتعبير عن “الجنوب العالمي”، وفتحت الباب أمام انضمام الدول التي تشاركها الأهداف نفسها عام 2023. الأمر الذي أدى الى حصول حالة استنفار بحثي شملت مختلف مراكز الأبحاث الغربية، من أجل دراسة “الجنوب العالمي” وفهم الديناميات العالمية الراهنة.
حتى أن صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية قامت بتحديد مصطلح “الجنوب العالمي” على أنه كلمة العام لسنة 2023، [5]ولا سيما أن هذا العام شهد العديد من التحولات التي تعكس تصاعد قوة وتأثير “الجنوب العالمي”، مثل طرد فرنسا من النيجر ومالي والغابون، وانحسار النفوذ الأميركي والغربي بشكل عام في القارة الأفريقية.
يقول الخبير السياسي الأميركي، سارانج شيدور، في مقالة بصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أن “توسع البريكس يشكل تحديا ً كبيراً بالنسبة لأميركا التض تضعف هيمنتها العالمية تدريجياً، والجاذية المتزايدة للبريكس هي أكبر إشارة الى أن الهيمنة الأميركية آخذة في التلاشي”. [6]
جاذبية البريكس الجيو – استراتيجية
وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف قال في تصريحات صحفية: “دول الجنوب العالمي أصبحت تنتهج سياسة خارجية مستقلة، وتسترشد بالمقام الأول بمصالحها الوطنية الخاصة”. وكذلك قال وزير خارجية الصين وانغ بي: “الجنوب العالمي لم يعد الأغلبية الصامتة، بل أصبح قوة رئيسية لإصلاح النظام الدولي، ومصدر أمل في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات عميقة لم يسبق لها مثيل منذ قرون”. في حين قال وزير خارجية الهند، سوبراهمانيام جايشنكار، خلال الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة: “لقد ولت الأيام التي كانت فيها بعض الدول تضع جدول الأعمال وتتوقع من الآخرين أن ينصاعوا لذلك”. [7]
هذه التصريحات وغيرها الكثير، تشكل مفاتيح أساسية وضرورية استراتيجية “البريكس”، ومدى عزم وتصميم دوله على بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، عبر سياسات تشاركية مع دول “الجنوب العالمي”، حيث فتحت باب عضوية “البريكس” أمام دول العالم الراغبة في التخلص من الهيمنة الغربية، وكذلك تلك الراغبة في إحداث توازن في علاقاتها الدولية.
مع أن العديد من الدول قامت بتقديم طلب الانضمام الى “البريكس”، إلا أن قادة التكتل وحرصاً منهم على متابعة مسار التطور التاريخي المنظم، ارتأوا قبول طلبات 6 دول فقط في المرحلة الأولى عبر “إعلان جوهانسبرغ” في أغسطس/ آب 2023: السعودية – الإمارات – مصر – إيران – أثيوبيا – الأرجنتين، والتي تمتلك كل واحدة منها نقاط قوة تتشابه مع باقي الدول في بعضها، وتتمايز في البعض الآخر.
وفيما يعكس حجم التهديد الجيو استراتيجي الجدي الذي يشكله تكتل “البريكس” على الهيمنة الغربية، أفضت الضغوط الغربية الهائلة الى انتخاب رئيس جمهورية في الأرجنتين موالٍ للغرب بالكامل كانت من أولى قراراته الانسحاب السريع من عضوية “البريكس”. لكن تلك الخطوة لم يكن لها أي تأثير عملي على قوة “البريكس” المتصاعدة، حيث جرى قبول طلب الجزائر للانضمام الى التكتل هذا العام. [8]
بيد أن الخطوة الأبرز تتمثل في تقديم تركيا طلب الانضمام الى “البريكس”. [9]ذلك أنه في حال قبول طلبها، ستكون أول دولة تنضم الى تكتل “البريكس” من دول حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة ضربة سياسية قوية لـ”الناتو” خصوصاً أن تركيا من مؤسسيه وتعد قوة بارزة فيه. عملية انضمام تركيا تعكس تراجع قوة “الناتو”، مقابل تصاعد قوة البريكس الجيو – استراتيجية، وهذا ما قد يفتح الطريق أمام دول آخرى في “الناتو” كي تحذو حذو تركيا.
[1] https://www.independentarabia.com/node/470236/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%83%D8%AA%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%AA%D9%87-%D9%88%D9%82%D9%88%D8%AA%D9%87-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%9F
[2] https://www.independentarabia.com/node/496746/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A9-77-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%86%D9%8A%D8%A9
[3] https://www.independentarabia.com/node/470236/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%83%D8%AA%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D8%AA%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%AA%D9%87-%D9%88%D9%82%D9%88%D8%AA%D9%87-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%9F
[4] https://arabic.news.cn/20240108/3f6c0d3e569e479b8321f651836bc71f/c.html
[5] https://arabic.news.cn/20240108/3f6c0d3e569e479b8321f651836bc71f/c.html
[6] https://daraj.media/%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%B3-%D9%87%D9%84-%D9%87%D9%8A-%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7/
[7] https://www.grc.net/documents/6668526ad282eTheglobalsouthwhenillusionintersectswithThetruth2.pdf
[8] https://www.aljazeera.net/ebusiness/2024/9/2/%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%88%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B3%D8%AA%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%A8%D8%B9%D8%AF
[9] https://www.aljazeera.net/ebusiness/2024/6/9/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B6%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%83%D8%AA%D9%84