تتناول هذه الورقة تداعيات اتفاقية الإطار التعاوني المعروفة اختصارا بعنتيبي بين ست من دول منبع نهر النيل وتقدم قراءة لمختلف السيناريوهات التي من الممكن أن تحدد الموقف المصري من هذه الاتفاقية.
في خطوة مفاجئة، صادق برلمان جنوب السودان في الثامن من يوليو /تموز 2024 وبالإجماع على اتفاقية الإطار التعاوني Cooperative Framework Agreement (CFA) المعروفة اختصارا بعنتيبي، لتصبح سادس دولة تصادق عليها بعد كل إثيوبيا، ورواندا، وتنزانيا، وأوغندا، وبوروندي، ولتدخل الاتفاقية حيز النفاذ بموجب المادة 43 منها التي تنص على أن يتم ذلك بعد 60 يوما من إيداع سادس دولة تصديقها لدى الاتحاد الإفريقي.
هذه المصادقة تطرح تساؤلات عن تأثير قيام مفوضية لحوض النيل بموجب الاتفاقية، على الموقف المصري المتحفظ عليها لرفض دول المنبع “لا سيما إثيوبيا” التعامل بإيجابية معها، خاصة ما يتعلق بحصة مصر السنوية من المياه والتي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب بموجب اتفاقية 1959، كما تطرح تساؤلا ثانيا عن تأثير هذا التصديق على ملف سد النهضة الشائك، ثم البدائل “السيناريوهات” المصرية للتعامل مع هذا الإطار القانوني الجديد.
أولا: التحفظات المصرية على اتفاقية عنتيبي
تعد اتفاقية عنتيبي أول محاولة لوضع إطار قانوني مؤسسي لدول حوض النيل مجتمعة اتساقًا مع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لاستخدام المجاري المائية الدولية في غير أغراض الملاحة لعام 1997، والتي طالبت الدول المعنية في كل حوض بوضع إطار قانوني يتضمن تفاصيل عملية استخدام الموارد، وآليات فض النزاعات فيما بينها، كما أن الاتفاقية الجديدة ستكون بمنزلة البديل لمبادرة دول حوض النيل التي تم التوقيع عليها عام 1999، وكانت بمثابة منتدى غير ملزم للدول الأعضاء.
وبالرغم من نبل الهدف والغاية، إلا أن الخلافات السابقة بين دول المنبع، وفي مقدمتها إثيوبيا، والمصبِّ، وفي مقدمتها مصر، ألقت بظلالها مرة أخرى على الاتفاقية التي استغرق الإعداد لها قرابة عقد (2000-2010)؛ إذ دارت الخلافات بينهما بالأساس حول جزئيتي الاتفاقيات السابقة سنة 1902 ثم سنة 1929 وأخير 1959، والحقوق المكتسبة؛ إذ لم يتغير الموقف بالنسبة لهما، وإن كانت مصر ومحاولة منها تقديم اقتراحات بديلة للتغلب عليها، وذلك عبر طرح بعض المصطلحات الجديدة التي ربما تحمل ذات الدلالة، ومنها مفهوم الأمن المائي كبديل عن مفهوم الحقوق المكتسبة والاتفاقيات التاريخية.
لكن حتى هذه المحاولة باءت بالفشل أيضًا، وكان واضحًا مدى تحدي دول المنبع لما تعتبره الهيمنة المصرية تحديدًا على حوض المياه، والرغبة في وضع نظام قانوني جديد يحدُّ من هذه الهيمنة، ويعيد توزيع الحصص المائية في إطار مبدأ الاستخدام العادل والمنصف.
ويمكن القول بوجود أربع قضايا خلافية أساسية، تحفظت عليها مصر والسودان، على النحو التالي:
1- مبدأ الحقوق المكتسبة والاتفاقيات التاريخية
لقد كان واضحًا منذ بداية المفاوضات مطلع هذه الألفية، مدى الحرص المصري/السوداني على إقرار مبدأ الحقوق المكتسبة والاتفاقيات التاريخية، فقد طالب الجانبان بضرورة النص على عدم تعارض الاتفاقية الجديدة مع الاتفاقيات السابقة، وهو ما رفضته دول المنبع. هذا الرفض يمكن تلمُّسه في ديباجة المعاهدة، التي أكدت مبدأ الاستخدام العادل والمنصف كبديل لمبدأ الحقوق التاريخية، مع الاسترشاد بالمعايير الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة في هذا الشأن.
فلقد نصت المادة 3/ بند 4 على مبدأ الاستخدام العادل “المنصف” والمعقول لمياه نهر النيل، والذي فصَّلته المادة الرابعة في بندين(1):
البند الأول: نصَّ على أن “تستخدم دول حوض النيل الموارد المائية داخل أراضيها بطريقة عادلة ومعقولة، وعلى وجه الخصوص، تستخدم هذه الدول الموارد وتطورها لتحقيق الاستخدام الأمثل والمستدام لها والاستفادة منها، مع مراعاة مصالح دول الحوض المعنية، بما يتفق مع الحماية الكافية لتلك الموارد. ويحق لكل ولاية حوض الحصول على حصة عادلة ومعقولة من الاستخدامات المفيدة لموارد المياه في نهر النيل.
أما البند الثاني، فوضع بعض الأسس والمعايير على سبيل المثال لا الحصر، التي يتم وضعها في الحسبان لتحديد هذا الاستخدام، حيث نصَّ على “لضمان أن يكون استخدامها لموارد مياه نظام نهر النيل منصفًا ومعقولًا، يجب على دول حوض النيل مراعاة جميع العوامل والظروف ذات الصلة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
(أ) العوامل الجغرافية والهيدروغرافية “قياسات المياه” والهيدرولوجية “دورة وخصائص المياه” والمناخية والإيكولوجية “البيئية” وغيرها من العوامل ذات الطبيعة الطبيعية.
(ب) الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لدول الحوض المعنية.
(ج) السكان الذين يعتمدون على الموارد المائية في كل ولاية حوض.
(د) آثار استخدام أو استخدامات الموارد المائية في إحدى دول الحوض على دول الحوض الأخرى.
(هـ) الاستخدامات الحالية والمحتملة لموارد المياه.
(و) حفظ وحماية وتنمية والاقتصاد في استخدام موارد المياه وتكاليف التدابير المتخذة لهذا الغرض.
(ز) توافر بدائل ذات قيمة مماثلة للاستخدام المخطط أو الحالي.
(ح) مساهمة كل دولة في مياه حوض النيل.
(ط) مدى ونسبة منطقة الصرف في إقليم كل دولة من دول الحوض.
ويلاحظ أن هذه المبادئ هي التي تضمنها كل من إعلان هلسنكي، 1966، واتفاقية الأمم المتحدة، عام 1997، باستثناء البندين الأخيرين “ح، ط”؛ إذ تمت إضافتهما لعنتيبي بضغط إثيوبي، وهما يعطيان ميزة إضافية ووزنًا أكبر لدول المنبع في تحديد الحصص المائية لاسيما البند “ح”(2).
كما يلاحظ أنها استرشادية، تستهدف وضع قواعد يمكن الاستناد إليها عند التفاوض حول حصص تقسيم المياه أو عند توقيع اتفاقية دولية، وفي حال عدم الاتفاق الأطراف المعنية بشأنها؛ يعتمد عليها الطرف الثالث سواء أكان وسيطا في عملية التفاوض، أو جهة تحكيم دولي عند إصدار الحكم الملزم.
وإزاء هذا، طرحت مصر تحديدًا فكرتين أساسيتين في البداية لمحاولة إثبات حقوقها بطريقة أو بأخرى دون الاصطدام بدول المنبع:
الأولى: خاصة بالتعريف، هل هو مجرى (حوض النيل) الذي نصَّت عليه قواعد هلسنكي، 1966، أم مجرى (نهر النيل) الذي أقرَّته اتفاقية الأمم المتحدة، 1997، لما لكلٍّ منهما من دلالة خاصة يترتب عليها معرفة حجم المياه المتساقطة والتي يمكن استخدامها بشكل منصف ومعقول بين الدول المشاطئة.
فبحسب بعض الباحثين(3)، فإن المفهوم الأول (مجرى الحوض) أكثر شمولًا من الثاني (مجرى النهر)، لأن الأول يتضمن الحوض المائي وجميع مشتملاته مثل الغابات والمراعي التي تسقط عليها الأمطار، ولا تتوجه إلى المجرى المائي الذي يشكِّل النهر، في حين أن التعريف الثاني يقتصر على المياه التي تجري في النهر وما يتصل بها من المياه الجوفية القريبة فقط، وكذلك الأنهار الجليدية والبحيرات وروافد هذا النهر، أي باختصار يركز على ما يُعرف بالمياه الزرقاء “المحدودة”، ويتجاهل المياه الخضراء الخاصة بالنباتات والغابات والحياة البرية. ووفق هؤلاء الباحثين، فإن منابع النيل وأحواضها المختلفة تسقط عليها أمطار تُقدَّر بـ1660 مليار متر مكعب سنويًّا، في حين أن الذي يجري في نهر النيل ويصل إلى أسوان يقدَّر بـ84 مليار متر مكعب فقط، أي حوالي 5% فقط. هذا الفارق بين المفهومين جعل بعض الدول، خاصة دول المصب مثل مصر، تطالب بالأخذ بتعريف هلسنكي، لأنه الأقرب للاستخدام العادل والمنصف بين دول النهر؛ حيث يضع في الحسبان المياه الخضراء التي تستفيد منها إثيوبيا من نواحٍ عدة منها سياحة السفاري، كما أنه الأقرب لمبدأ عدم الضرر الذي قد يحدث بسبب تلوث المياه نتيجة هذه الاستخدامات التي تحدث في محيط الحوض، كما أنه يعد الأقرب أيضًا لمبدأ التعاون بين الدول المشاطئة، لاسيما أن مصر ليس لها مورد مياه رئيسي آخر سوى النهر، عكس إثيوبيا التي تسقط عليها هذه الكميات الكبيرة من المياه والتي تقدَّر بـأكثر من 930 مليار متر مكعب، ومع ذلك تصرُّ على أن تكون لها حصة في مياه النيل، وربما كان هذا أحد أوجه التباين في وجهات النظر بخصوص عنتيبي.
وقد ظهر هذا التباين المصري-الإثيوبي في مسودة الاتفاق، التي استخدمت المفهومين معًا “الحوض والنهر” في المادة 2/أ، ب، وإن عملت على تضييق نطاق الحوض “وجهة نظر دول المصب”؛ إذ يستخدم وفق الفقرة “أ” فقط في قضايا الحفاظ على البيئة وتنمية النهر وصيانته وليس فيما يتعلق بقضايا المياه وحجمها وبالتالي توزيعها؛ حيث نصَّت الفقرة “أ” على أنه “يُقصد به المنطقة الجغرافية المحدودة بحدود المستجمع المائي لشبكة نهر النيل، على أن يُستخدم المصطلح عند معالجة جوانب الحماية البيئية والصيانة والتنمية”، أما النهر فيُستخدم فيما يتعلق بالانتفاع بالمياه وفق الفقرة “ب” “وجهة نظر دول المنبع”، التي عرَّفت شبكة أو نظام مياه النيل (Nile River System) بأنه نهر النيل والمياه السطحية والجوفية الخاصة به، ويُستخدم هذا المصطلح عند معالجة الانتفاع بالمياه(4).
2- مفهوم الأمن المائي
يعد هذا المفهوم من المفاهيم المستحدثة؛ حيث لم يرد في اتفاقيات مماثلة، وإنما طرحه وفد البنك الدولي المشارك في اجتماعات أديس أبابا، يناير/كانون الثاني 2006، كمفهوم بديل عن الاتفاقيات السابقة التي كانت تصرُّ عليها دولتا المصب وتعارضها دول المنبع، وقد وافق الجميع عليه من حيث المبدأ(5)، لكن حدث خلاف بشأنه عند الصياغة النهائية؛ فلقد عرَّفت المادة الثانية في الفقرة (F) الأمن المائي بأنه “حق جميع دول حوض النيل في الوصول الموثوق واستخدام نظام نهر النيل لأغراض الصحة والزراعة وسبل العيش والإنتاج والبيئة”، كما تم النص على ذات المبدأ في البند 9 من المادة الثالثة والتي أكدت على “أنه مبدأ عام لكل دول الحوض”، بينما تم إفراد المادة 14 لذات المبدأ حيث جاء في ديباجتها “مع مراعاة أحكام المادتين 4 و5، تدرك دول حوض النيل الأهمية الحيوية للأمن المائي لكل منها، كما تعترف الدول بأن إدارة التعاون وتطوير مياه نهر النيل ستسهِّل تحقيق الأمن المائي والفوائد الأخرى، لذلك تتفق دول حوض النيل بروح من التعاون على:
أ- العمل معًا لضمان تحقيق الأمن المائي لجميع الدول والحفاظ عليه”.
ب- تُركت فارغة للتفاصيل الخاصة بذلك.
ومناط الخلاف بين دول المنبع والمصب يتعلق بحجم الضرر: هل هو الضرر البسيط “السلبي” أم الضرر الكبير أو “الجسيم ذو الشأن؟”.
وخلال المفاوضات بات هناك تعريفان للمادة 14 (ب):
الأول تبنته دول المنبع السبع استنادًا للمبدأ رقم 6 من مسودة الاتفاقية الخاص بحق دول حوض النيل في استخدام المياه داخل أراضيها؛ حيث أكد هذا المبدأ على أن “لكل دولة في حوض النيل الحق في استخدام مياه نظام نهر النيل داخل أراضيها بطريقة تتفق مع المبادئ الأساسية الأخرى المشار إليها هنا (حُسن النية وتجنُّب الضرر الكبير الذي كان عنوان البند الخامس من المادة 3)، واستنادًا لذلك تبنت دول المنبع هذا التعريف للمادة 14 “ب” وهو “عدم التأثير -أي الاستخدام- بشكل كبير على الأمن المائي لأي دول أخرى في حوض النيل”، لكنَّه حظي باعتراض السودان ومصر، التي قدَّمت صياغة أخرى هي “عدم التأثير سلبًا على الأمن المائي والاستخدامات والحقوق الحالية لأي دولة أخرى في حوض النيل”(6).
لكن هذه الصياغة رُفضت من دول المنبع وبالتالي بات الخلاف حول صياغة عدم التأثير بشكل كبير “جسيم”، أو عدم التأثير السلبي.
وإزاء هذا التباين الذي استمر قرابة تسع سنوات، قرَّر الاجتماع الاستثنائي لمجلس وزراء النيل المنعقد في كينشاسا (22 مايو/أيار 2009)، رفع المادة 14 (ب) من الاتفاقية ووضعها كملحق، على أن تقوم لجنة حوض نهر النيل بحل الخلاف بشأنها خلال ستة أشهر من إنشائها، لكن مصر والسودان رفضتا مرة أخرى هذا الاقتراح، وطالبتا بالاستمرار في المفاوضات لحين التوصل لحل لهذه المادة، واقترحتا إنشاء لجنة النيل بموجب إعلان رئاسي من الدول الأعضاء، لصياغته قبل التوقيع على الاتفاقية، لكن الاقتراح المصري قوبل بالرفض من دول المنبع بدعوى عدم استناده لأي أساس قانوني(7). لذا فإن هذه القضية” الأمن المائي” ستناقشها الاتفاقية الجديدة بعد دخولها حيز النفاذ
3- شرط الإخطار المسبق
حرصت مصر على التأكيد على هذا المبدأ الوارد في الاتفاقيات التاريخية السابقة، وفي المقابل رفضته دول المنبع التي حرصت على عدم تضمينه في مبادئها العامة، أو بنودها. وإزاء هذا التباين، تمت الإشارة إليه بصورة غير مباشرة في المادة 3/البند 8 الذي جاء تحت عنوان “معلومات بشأن التدابير المخطَّط لها”، وتنص على “مبدأ قيام دول حوض النيل بتبادل المعلومات حول الإجراءات المخطط لها من خلال هيئة “مفوضية” حوض نهر النيل”، وهي تشبه إلى حدٍّ كبير ما جاء في المادة 8 تحت عنوان التدابير المخطط لها، وتنص على(8):
1. توافق دول حوض النيل على تبادل المعلومات من خلال هيئة حوض نهر النيل.
2- تلتزم دول حوض النيل بالقواعد والإجراءات التي تضعها هيئة حوض نهر النيل لتبادل المعلومات بشأن الإجراءات المخطط لها.
لكنَّ مصر تحفظت على هذه الصياغة، كما طالبت بإدراج هذا المبدأ في صلب الاتفاقية وليس في ملاحقها.
4 – آلية اتخاذ القرارات
لقد كان البند الثالث من المادة 36 والمعنون بـ”عملية التصويت على تعديل الإطار والبروتوكولات الأخرى”، أحد النقاط الخلافية بين دول المنبع والمصب؛ إذ أصرَّت دول المصب على ضرورة اتخاذ القرارات بالإجماع “التوافق”، أو بأغلبية الثلثين المشروطة بموافقتها؛ ما يعني إعطاءها حق الفيتو على أية قرارات، بينما أكدت دول المنبع على أن هناك بعض القرارات تؤخذ بالإجماع، في حين تُبذل الجهود للحصول على هذا التوافق أو الإجماع في قرارات أخرى، وإن تعذر يتم تمريرها بموافقة ثلثي الدول دون وجود حق الفيتو لأي منها. لذا، جاء نص هذا البند في المسودة على النحو التالي “لا يجوز تعديل المواد من الأولى إلى الخامسة، وأيضا الثامنة والتاسعة، وكذلك الرابعة عشرة، والثالثة والعشرين والتي بعدها، ومن الرابعة والثلاثين إلى السابعة والثلاثين من هذا الإطار إلا بتوافق الآراء، وفيما يتعلق بالتعديلات المقترحة على مواد أخرى أو على أي بروتوكول، تبذل الأطراف قصارى جهدها للتوصل إلى اتفاق بتوافق الآراء، وإذا استُنفدت جميع الجهود المبذولة للتوصل إلى توافق في الآراء، ولم يتم التوصل إلى اتفاق، يُعتمد التعديل كملاذ أخير بأغلبية ثلثي الأصوات”(9).
وإزاء استمرار تحفظات مصر والسودان، قررت دول المنبع خلال اجتماع المجلس الوزاري في شرم الشيخ بمصر (13 أبريل/نيسان 2010)، فتح الاتفاقية بصيغتها الراهنة للتوقيع، وفي 14 مايو/أيار 2010، وقَّعت عليها 4 دول، هي: إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا، تلتها كينيا بعدها بخمسة أيام، ثم بوروندي في 28 فبراير/شباط 2011، ثم جنوب السودان 2012، فيما لم توقِّع الكونجو الديمقراطية، بالإضافة لمصر والسودان.
وبموجب القسم السادس من الاتفاقية والذي يتضمن إجراءات التعديلات والتصديق عليها ودخولها حيز النفاذ “المادة 43″، فإن الاتفاقية لا تكون نافذة إلا بعد 60 يومًا على الأقل من تصديق سادس دولة على الوثيقة أو الانضمام إليها وإيداعها لدى الاتحاد الإفريقي، كما أن الدول الموقِّعة عليها غير ملزمة بالتصديق عليها، فالتوقيع بمنزلة خطوة وسيطة تشير من خلالها البلدان إلى استعدادها للتصديق عليها مستقبلًا؛ وإن كان هذا التوقيع يفرض عليها التزامًا بعدم القيام بأي أعمال من شأنها أن تقوِّض هدف وغرض الاتفاقية. ولقد أعطت الاتفاقية المرونة لإعادة النظر في بنودها؛ إذ يمكن إعادة التفاوض بشأنها؛ وإذا نتج عن ذلك تغييرات في النص، فستخضع الوثيقة الجديدة مرة أخرى لعملية التوقيع والتصديق المكونة من خطوتين، وليس للاتفاقية أثر قانوني على الدول التي لم توقِّع أو تصدِّق عليها. ومع تصديق جنوب السودان الأخير دخلت الاتفاقية حيز النفاذ
ثانيا: ماذا يعني دخول الاتفاقية حيز النفاذ “انعكاسات التصديق على مصر”
بالرغم من أن اتفاقية عنتيبي غير ملزمة لمصر، لأنها لم توقع عليها، إلا أن لها مجموعة من التداعيات ” السلبية” عليها:
- إنهاء فكرة الحقوق التاريخية المكتسبة التي تنادي بها مصر وفق الاتفاقيات السابقة، والحديث بدلا من ذلك عن مبدأ الاستخدام العادل “المنصف” والمعقول. وهو ذات المبدأ الذي نصت عليه الاتفاقية الإطارية التي وقعتها مصر والسودان وإثيوبيا في مارس /آذار 2015، ما يعني أن إثيوبيا ودول حوض النيل باتت هي المتحكمة في تحديد حصة مصر المائية (85% منها تأتي من الهضبة الإثيوبية، 15% من بحيرة فيكتوريا) وبالتالي ستخضع حصة مصر لاعتبارات متعددة وفق هذا المبدأ، وما يرتبط به من فترات الجفاف والجفاف الممتد، وهو ما يعني إمكانية تراجع هذه الحصة، أو بمعنى آخر تباينها من عام لآخر.
- ضعف الموقف التفاوضي المصري في مواجهة دول حوض النيل بصفة عامة، التي لا تعترف بالاتفاقيات السابقة التي تحدد الحصص المصرية، وبالتالي فإن التفكير المصري في أي جهود تعاونية مع هذه الدول، قد يجعلها أمام خيارين، إما القبول بشروط عنتيبي، أو وقف مشاريع التعاون المائي التي تحتاج إليها بشدة في ظل حالة الفقر المائي الذ حددته الأمم المتحدة بألف متر مكعب سنويا للفرد الواحد ” حصة المواطن المصري أقل من500 متر مكعب سنويا “، ولا شك أن هذه المشاريع المشتركة من شأنها حسن استغلال مياه النيل، وإمكانية استغلال الفواقد المائية الهائلة التي لا يتم الاستفادة منها، وتحتاجها مصر بشدة، ومما يزيد من تعقيد الأمور إمكانية اتخاذ المفوضية الجديدة قرارات تضر بمصالح مصر المائية.
- حرمان مصر من التمويل الدولي، فالمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، والصندوق الإنمائي للأمم المتحدة ستجعل أولوية التمويل للمشاريع المائية المشتركة مقارنة بالمشاريع الثنائية . وبالتالي فإن هذا التمويل ستحصل عليه دول اتفاقية عنتيبي، مقابل حرمان مصر منه.
- تفاقم مشكلة المياه في مصر بسبب إمكانية تذبذب حصتها، واضطرارها في المقابل للاعتماد على مشاريع إعادة تدوير مياه الصرف الزراعي والصحي والصناعي مرة أخرى، فضلا عن عملية تحلية مياه البحر، وهي عملية مكلفة جدا، فعملية تحلية المتر الواحد من مياه البحر بحسب بعض الخبراء(10)، تتكلف 5 جنيهات مصرية قبل 4 سنوات “الدولار يساوي 15 جنيه، أي أن المليار متر مكعب يتكلف 5 مليارات جنيه، فإذا كانت مصر ستقوم بتحلية 10 مليار متر مكعب، فمعنى هذا أنها تحتاج إلى 50 مليار جنيه”. وربما هذه التكلفة أقل من تكلفة تحلية مياه الصرف الصحي لتكون جاهزة للشرب، حيث تخضع لعملية تحلية ثلاثية المراحل، ما يزيد من تكلفتها، وتبلغ هذه التكلفة بحسب تصريحات سابقة للسيسي قبل 4 سنوات ب 60 مليار جنيه(11)” أي ما يعادل 4 مليار دولار.
ثالثا: عنتيبي وسد النهضة
يمكن القول إن التصديق على اتفاقية عنتيبي سيؤثر بصور أو أخرى على موضوع ملف سد النهضة، من عدة نواح:
- ضعف الموقف المصري في مواجهة الموقف الإثيوبي بشأن سد النهضة.. فإثيوبيا لن تكترث بحقوق مصر التاريخية، وستستمر في عملية الملء الخامس التي بدأت في يوليو بعد التصديق على عنتيبي بأسبوع، حيث يبلغ حجم الملء الخامس المتوقع 23 مليار بنهاية سبتمبر القادم، ليصبح إجمالي ما يتم تخزينه 64 مليار متر مكعب من إجمالي 74 مليار متر مكعب. أي لن يتبق سوى 10 مليار متر مكعب فقط. ومن ثم فإن أية عملية تفاوض محتملة لن تكون ذات جدوى مع قرب اكتمال ملء بحيرة السد، كما أن أديس أبابا لن تكترث بكون موسم الأمطار غزيرا أم متوسطا، أم شحيحا، ناهيك عن عدم إعطاء معلومات بشأنه لمصر. ويؤدي عدم التنسيق المسبق، إلى حدوث ضرر لمصر، حتى في حالة الفيضان العالي أو المتوسط، إذ إن غياب هذه المعلومات المسبقة، يجعلها دائما، تحافظ على المياه المخزنة في بحيرة السد العالي، وبالتالي عدم ضخها للمزارعين العاملين في مجال الزراعات التي تحتاج إلى مياه كثيفة مثل الأرز، ومن ثم حرمان ملايين المزارعين من زراعة أراضيهم، وعندما يأتي موسم الفيضان مرتفعا، تضطر مصر لتصريف جانب كبير من مياه بحيرة السد إلى مفيض توشكي دون استفادة منها، لتوفير حيز في البحيرة لاستقبال مياه الفيضان الجديد. لذا دائما ما تطالب مصر بضرورة التنسيق مع إثيوبيا في مجال توفير المعلومات خلال الملء الأول، ثم عند بدء عملية الملء المتكرر وتشغيل السد بعدها، وهو ما ذهبت إليه المادة 5 من إعلان مبادئ الخرطوم “مارس 2015 “، التي نصت على اتفاق الدول الثلاث على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي للسد، والتي يجوز لمالك السد ” إثيوبيا ” ضبطها من وقت لآخر، مع إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية التشغيل، و لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، ستنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة فيما بينهم”. لكن دائما ما تتهم مصر، إثيوبيا بتعمد إخفاء المعلومات عنها، مما يؤثر على سياسة الري والزراعة المصرية، التي تبنى على تخمينات، تضر المصريين حتى في سنوات الفيضان والفيضان المتوسط(12).
لقد لخص وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري الأضرار المختلفة لسد النهضة على مصر في خطابه أمام مجلس الأمن 1 مايو 2020 “أي قبل الملء الأول”، حيث جاء نصا ما يلي “… يمكن أن تكون هناك آثار كارثية على مصر جراء المشاريع التي تقوم بها إثيوبيا، إذ ستضيع ملايين فرص العمل وستختفي آلاف الهكتارات من الأرضي الصالحة للزراعة وستشهد الأراضي زيادة في الملوحة وتزداد تكلفة الواردات الغذائية بصورة هائلة، وزيادة نسبة التحضر بسبب نزوح مواطني الريف؛ وبالتالي زيادة معدلات البطالة والجريمة والهجرة عبر الوطنية.. أي انخفاض في المياه بمقدار مليار متر مكعب سيؤدي في القطاع الزراعي إلى فقدان 290 ألف شخص لدخلهم، وفقدان 130 ألف هكتار} 320 ألف فدان{، وزيادة قدرها 150 مليون دولار في الواردات الغذائية، وخسارة 430 مليون دولار في الإنتاج الزراعي…… ومع استمرار النقص في المياه على مدى فترة طويلة ستحدث تداعيات لا تحصى ولا تعد على قطاعات اقتصاد مصر وعلى استقرار البلد الاجتماعي والسياسي”(13).
وهنا نذكر بأن القاهرة أعلنت في ديسمبر الماضي توقف المفاوضات بسبب المماطلات الإثيوبية “، فما بالنا مع هذا الزخم الذي حصلت عليه أديس أبابا بتصديق جنوب السودان على عنتيبي، والذي جعل رئيس الوزراء أبي أحمد يصفه بأنه لحظة تاريخية لبلاده. لكن ربما يكون التفاوض مستقبلا بشأن عملية الإدارة المشتركة للسد، وإن كانت أديس أبابا تعتبر هذا أيضا يدخل في إطار سيادتها الوطنية.
- عدم حرص إثيوبيا على التوصل لاتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، خاصة وأن لديها خطة مستقبلية لإنشاء 33 سدا آخر، منها 3 على النيل الأزرق ب بسعة تخزينية إجمالية تقدر ب 138 مليار متر مكعب، لتخفيف الحمل عن سد النهضة من خلال خفض سرعة تدفق المياه إليه، وحجز كمية من الطمي، وبالتالي إطالة عمره. ومعروف أن النيل الأزرق يساهم بـ ٥٠ مليار م3، أي ما يعادل 70% من حجم المياه القادمة من الهضبة الإثيوبية، و60% من إجمالي المياه عند أسوان؛ وبالتالي فهو الأكثر أهمية بالنسبة لمصر التي تعتمد على مياه النيل بنسبة 93%.
هذه السدود هي:
– سد كارادوبي جنوب بحيرة تانا، بسعة تخزينية 40 مليارًا م3، وطاقة كهربائية 1600 ميجاوات.
– سد مندايا غرب كارادوبي، بسعة تخزينية 49 مليارًا م3، وطاقة كهربائية تتراوح بين (1600-2000) ميجاوات.
– سد بيكو أبو الذي اختير بدلًا من سد مابيل، شرق الحدود السودانية، بسعة تخزينية 49 مليارًا م3، وطاقة كهربائية 1600 ميجاوات، وبتكلفة تقدر بـ2 مليار دولار.
هذه السدود تحفظت عليها مصر عندما قدمتها إثيوبيا عبر المكتب الفني الاقليمي لحوض النيل الشرقي “الإنترو” عام 2010، لإبداء الرأي بشأنها، حيث شكلت مصر في حينها وفدا فنيا من مختلف التخصصات لدراستها ؛ وكانت النتيجة التحفظ عليها لآثارها السلبية ليس فقط على حصتها المائية خلال فترة الملء الأول، ولكن على كهرباء السد العالي، وحصة مصر من الزراعة المروية، ونفس الأمر طال سد بوردر أو الحدود “أحد الأسماء السابقة لسد النهضة”، حيث أشارت بعض السيناريوهات لاحتمال انهياره، وبالتالي تدمير سدي الروصيرص وسنار السودانيين، فضلا عن غرق الخرطوم، وصولا لجنوب مصر(14).
رابعا السيناريوهات وطبيعة الخيارات المصرية المتاحة
يشكل التصديق على عنتيبي، تحديا كبيرا أمام مصر والحكومة الجديدة خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في بيان الحكومة أمام البرلمان في شهر يوليو/ تموز 2024، بأن الحكومة ستعمل على حماية أمن مصر المائي، من خلال تعزيز التعاون مع دول حوض النيل والقرن الأفريقي، ولعل صمت مصر الرسمي بعد التصديق، مقابل الترحيب الإثيوبي يحمل دلالة في هذا الشأن. وهنا يدور السؤال حول البدائل أو السيناريوهات المقترحة لمصر لمواجهة عملية التصديق.
البدائل الدبلوماسية.. وهي تتضمن مجموعة من الآليات
- إمكانية إعادة التفاوض مع دول الحوض بشأن البنود المختلف عليها، خاصة وأنها ستناقش البند الخاص بالأمن المائي المتحفظ عليه مصريا خلال ستة أشهر من دخول الاتفاقية حيز النفاذ، لكن هذا التصور قد يصطدم بالرفض الإثيوبي. فإثيوبيا من وجهة نظرنا، ترغب في أن تصبح الطرف الفاعل والمهيمن والمبادر في حوض نهر النيل، وفي منطقة الشرق الأفريقي ككل، ولم يكن سد النهضة تكتيكا عابرا، بل سبقته سدود أخرى تمت بصورة منفردة مثل تكيزي، وتانا بيليس، وسيليه سدودا أخرى “ثلاثة منها في المنظور القريب هي كارادوبي ومندايا وبيكو أبي بسعة إجمالية تبلغ حوالي 138 مليار متر مكعب”، وباقي الثلاثين التي أوصى بها المكتب الأمريكي في خمسينيات القرن الماضي، على المديين المتوسط والبعيد، وبالتالي حرصت أديس أبابا في مفاوضات واشنطن 2020، وما بعدها، على مطالبة مصر أولا بالانضمام إلى اتفاقية عنتيبي، ثم الموافقة على إقامة سدود أخرى دون توضيح ماهية هذه السدود، ودون تقديم الدراسات عنها أولا لتتم مناقشتها وتحديد مدى الفائدة والضرر التي قد يترتب عليها(15).
وقد يسمح السياق الإقليمي والدولي لإثيوبيا، القيام بذلك، لا سيما في ظل علاقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، كما أن إدارة بايدن، لم ترغب في فرض ضغوط عليها لصالح مصر، بل ألغت قرار ترمب الخاص بربط تعليق المساعدات بموقف أديس أبابا من السد، وذلك حتى لا تخسر إثيوبيا كحليف ” ووكيل ” هام لضمان الأمن في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.
ومعنى هذا أننا قد نكون أمام نظام هيمنة مائية جديدة بقيادة إثيوبية، لم تتضح معالمه الكلية بعد، وأن سد النهضة هو نقطة البداية الحقيقية في هذا الشأن.
- السعي المصري لتشكيل تحالف إقليمي يضم باقي دول الحوض التي لم توقع على عنتيبي الكونغو الديمقراطية وإريتريا، أو تلك التي وقعت ولم تصادق عليها كينيا، كما يمكن أن يتسع التحالف ليضم السودان، وبعض دول الجوار الإثيوبي التي تشهد علاقات متوترة مع أديس أبابا في الآونة الأخيرة مثل الصومال وجيبوتي.
وهنا يمكن القول إن مصر أمام فرصة تاريخية، لمحاولة تشكيل تحالف إقليمي بقيادتها، يضم دول الجوار الإثيوبي، مستغلة حالة السخط العام لدى هذه الدول من الاتفاق الأخير لأديس أبابا مع أرض الصومال أوائل هذا العام للحصول على مساحة 20 كيلو متر في محيط ميناء بربرة لمدة 50 عاما، مقابل الاعتراف بجمهورية أرض الصومال، وحصولها على حصة من شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، ومن ممارسات أبي أحمد بصفة عامة، لا سيما بعد هيمنته بصورة شبه مطلقة على مقاليد الأمور بعد الانتخابات الأخيرة عام 2021، والتحول من سياسة “صفر مشاكل” التي انتهجها في عامه الأول من الحكم ” 2018 “، إلى سياسة إثارة المشاكل مع دول الجوار عبر سعيه لفرض الهيمنة الإثيوبية في الإقليم.
لذا ربما يكون المدخل الأول لمصر في هذا الشأن، هو تقويض التحالف الذي أسسته إثيوبيا عام 2018 مع كل من الصومال، وإريتريا، لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، وتعزيز التنمية الاقتصادية
– فالصومال الآن يرغب في إثبات أحقيته في السيادة على كامل أراضيه، وعدم حصول أي اعتراف بأرض الصومال، لذا لم يقتصر الأمر على رفضه الاتفاق، والتصعيد ضد إثيوبيا، بل لجأ لخصوم أديس أبابا، فكانت أسمره المحطة الأولى للرئيس حسن شيخ محمود “12 يناير الماضي”، ثم القاهرة “21 يناير.
– ونفس الأمر بالنسبة لإريتريا التي ترى أن هذا الاتفاق لن يأتي فقط على حساب موانئها التي تستخدمها إثيوبيا في عملية التصدير” مصوع وعصب”، لكن وهذا هو الأهم تخشى من إمكانية قيام أبي أحمد بمحاولة الاستيلاء على ميناء عصب من جديد في ظل طموحاته التوسعية من ناحية، وبعد البيان الصادر من الحكومة والذي يري أن أديس أبابا فقدت منفذها إلى البحر” المنفذ الإريتري” نتيجة “خطأ تاريخي وقانوني” في إشارة إلى الموافقة عام 1991 على استفتاء استقلال أسمرة عن أديس أبابا، لذا وحسب البيان فإن “الحكومة الإثيوبية تعمل منذ سنوات “لتصحيح هذا الخطأ”. ومما يزيد من تعقيد العلاقات بين الجانبين، رفض أسمرة اتفاق بريتوريا الذي وقعته إثيوبيا مع جبهة تغراي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، لوقف الحرب، وما تردد من دعم أسمرا لجبهة فانو الأمهرية في حربها الأخيرة ضد النظام، علاوة على بداية التقارب “مجددا” بين إريتريا والنظام المصري.
لذا فإن مصر يمكن أن تستغل هذه التطورات في محاولة تشكيل هذا التحالف مع كل من الصومال، وإريتريا، وربما مهدت زيارة الرئيس الصومالي الأخيرة للقاهرة “يناير الماضي”، والدعم المصري للصومال، وكذلك زيارة وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري لأسمرة بعد انتهاء زيارة الرئيس الصومالي لها مباشرة، وتصريحاته بأن إثيوبيا “باتت مصدراً لبث الاضطراب في محيطها الإقليمي”، مؤشرا على إمكانية حدوث تقارب بين الدول الثلاث حول رفض هذه الهيمنة الإثيوبية.
أما بالنسبة لجيبوتي، فهي تعد أحد أبرز المتضررين من الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال لاعتبارين، الأول أنه جاء بعد يومين فقط من الاتفاق التي رعته بين الصومال وأرض الصومال، والذي نص على استئناف المفاوضات السياسية بين الطرفين مع التركيز على القضايا المصيرية” الانفصال أم الوحدة”، وهو ما يعني نسف جهود جيبوتي الدبلوماسية، ونسف فكرة المفاوضات، أما الاعتبار الثاني، فهو أن هذا الاتفاق قد يضر بمصالح جيبوتي الاقتصادية، حيث تمر عبر أراضيها 95% من التجارة الخارجية الإثيوبية، وتحصل في مقابل ذلك على رسوم تتراوح بين مليار ونصف، وملياري دولار. ومن ثم، فإنها تدرك أن أبي أحمد يسعى للبحث عن منافذ أخرى غير منفذها. ويبدو أن مصر تسعى منذ فترة لتوطيد العلاقات مع جيبوتي التي كان السيسي أول رئيس مصري يزورها في مايو/ أيار 2021.
أما الدولة الخامسة التي يمكن أن تنضم إلى هذا التحالف فهي السودان، التي شهدت علاقتها توترا مع أديس أبابا، خاصة في ظل دعم أديس أبابا لحميدتي في مواجهة البرهان والقوات المسلحة(16). وإن كانت الزيارة الأخيرة التي قام بها أبي أحمد للبرهان مؤخرا، والتوسط بينه وبين الإمارات المتهمة بدعم قوات الدعم السريع، قد يجعل السودان يقف على الحياد مؤقتا، أو وربما هذا هو الأخطر، قد تدفعه الظروف الحالية إلى إمكانية الانضمام لعنتيبي، خاصة في ظل وجود تيار داخل السودان يرى أن سد النهضة أو عنتيبي لا تضر بالمصالح المائية السودانية.
– أما سادس هذه الدول التي يمكن أن تنضم لهذا التحالف، فهي كينيا، والتي باتت هامة جدا لكونها الدولة الوحيدة التي وقعت على عنتيبي، ولم تصادق عليها حتى الآن، لكن التحرك المصري قد يصطدم بالتحركات الإثيوبية التي تحاول إقناع نيروبي بالتصديق على الاتفاقية، والدخول إليها عبر فكرة التكامل الإقليمي والعوائد من المشاريع الإقليمية المشتركة، ومنها مشروع إنشاء خط سكة حديد كهربائي عالي السرعة “مشروع لابست-(Lapsset) ” الذي يمتد من لامو الكينية حتى أديس أبابا وجوبا بتكلفة ضخمة تقدر بـ13 مليار دولار، وعائد سنوي يقدر ب 12%، ويتم البحث الآن عن مصادر للتمويل من المؤسسات الدولية المانحة(17).
ويمكن لهذا التحالف “المقترح” تقويته عبر إيجاد داعمين إقليميين له، وهنا تبرز تركيا التي ازداد اهتمامها بمنطقة القرن الإفريقي “خاصة الصومال”، وإثيوبيا” دعم أبيي أحمد بمسيرات بيرقدار خلال حربه الأخيرة مع التغراي”، فضلا عن السودان. فالتحركات التركية الأخيرة في منطقة القرن الأفريقي، وهذا النفوذ المتعاظم،، يمكن استغلاله مصريا في ظل التقارب الأخير بين القاهرة وأنقره، في تشكيل تحالف إقليمي مصري مدعوم تركيا ضد إثيوبيا.. هذا التحالف يمكن استخدامه للضغط على أديس أبابا في موضوع سد النهضة تحديدا ” مستغلة الخبرة التركية في مجال مفاوضات السدود”، فضلا عن علاقاتها الوطيدة حتى الآن مع أبي أحمد، علاوة على تقارب الجانبين المصري والتركي مع الصومال، والذي قد يكون أداة لأي منهما في تطويق إثيوبيا وكبح جماحها في المنطقة.
– كما يمكن استغلال التقارب التركي مع الصومال، في قيام الأخيرة بدعم قوى المعارضة المناوئة لأبي أحمد. ونفس الأمر يمكن تصوره بالنسبة لجيبوتي ثاني أكبر متضرر من الاتفاق الأخير بين أديس أبابا وأرض الصومال.
ويمكن لهذا التقارب المصري التركي حال تحققه في القرن الأفريقي، أن يكون مدخلا لتسوية الخلافات بين الجانبين في ملفات أخرى سواء في ليبيا أو بالنسبة لغاز شرق المتوسط.
البدائل القانونية
يمكن القول بوجود عدة بدائل أمام مصر في هذا الشأن:
- طلب مصر من الجمعية العامة للأمم المتحدة أو من مجلس الأمن فتوى استشارية من محكمة العدل الدولية حول مدى قانونية اتفاقية عنتيبي وتأثيرها في الحقوق التاريخية المكتسبة، وهذا يتطلب جهدا دبلوماسيا كبيرا، فضلا عن كون رأي المحكمة الاستشاري غير ملزم، وقد لا يتم الالتفات إليه حال موافقة أطراف النزاع على اللجوء للتحكيم الدولي، ناهيك عن أن دول اتفاقية عنتيبي أعلنت سعيها للبحث في موضوع الأمن المائي “موضع اعتراض مصر “، حيث تم الاتفاق على حل القضية الخلافية المتعلقة بالأمن المائي معالجة المادة 14ب – في غضون ستة أشهر، والتفاوض على شروط مقبولة لجميع الدول الأعضاء، فضلا عن إعلانها بذل الجهود الدبلوماسية لإقناع كل من مصر والسودان، بل والكونغو الديمقراطية وإريتريا بالانضمام للاتفاقية(18)، ما قد يعني رفض الجمعية العامة و مجلس الأمن إحالة الموضوع للمحكمة، ناهيك عن عدم وقوع ضرر حقيقي على مصر من هذه الاتفاقية التي لم تدخل حيز التنفيذ حتى الآن ” يفترض أن يتم ذلك في سبتمبر المقبل بعد 60 يوما من مصادقة برلمان جنوب السودان في 8 يوليو الماضي”.
- إعلان مصر الانسحاب من اتفاق الخرطوم 2015 الخاص بسد النهضة الذي لم يصادق عليه البرلمان حتى الآن. صحيح أن هذا الإجراء لن يغير من الأمر الواقع شيئا، لكنه سيعيد الطعن في مشروعية سد النهضة، أو التأثير على تمويل المؤسسات الدولية للسدود الأخرى المستقبلية.
بدر حسن شافعي – استاذ الدراسات الافريقية وخبير في تسوية الصراعات – مصر
مركز الجزيرة للدراسات