“طوفان الأقصى” وغياب اليسار الفلسطيني المؤلم

Spread the love
image_pdfimage_print

عكست تداعيات “طوفان الأقصى“، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، على كلّ المستويات، الفلسطينية، والإقليمية، والدولية، الدور القيادي الحاسم الذي تلعبه حركة حماس اليوم، ميدانيًا وسياسيًا، في سياق النضال الوطني الفلسطيني. مقابل ذلك، كانت سلطة رام الله، المنبثقة عن اتّفاقيات أوسلو، وما زالت، تراهن على هزيمة حماس عسكريًا، ومن ثمّ موافقة كيان الاحتلال على تمكينها من استعادة حكم قطاع غزّة، وهو الأمر الذي أكد كثيرٌ من قادة العدو الصهيوني، في أكثر من محطةٍ، استحالة تحقيقه.

في خضم هذا التباين التناحري بين الموقف المقاوم، الذي تنتهجه حماس اليوم، وبين استسلامية “سلطة أوسلو” وخضوعها المطلق لإملاءات “العم سام” في واشنطن، يتخذ اليسار الفلسطيني موقفًا ضبابيًا، فهو من ناحيةٍ يدعم ويمارس نهج المقاومة خطابيًا، ومن ناحية أخرى لا يزال متمسكًا بتبعيته السياسية لسلطة رام الله، تحت شعاراتٍ مضللةٍ، من قبيل تحقيق “المصالحة الوطنية”، و”إعادة بناء منظّمة التحرير على أسسٍ ديمقراطيةٍ”.

في خضم حالة الاستقطاب تلك، كان اليسار الفلسطيني يعيش في جلباب منظّمة التحرير، التي تهيمن عليها فتح هيمنةً شبه مطلقةٍ

لا يعني مفهوم المصالحة الوطنية الحقيقي، على الإطلاق، تحقيق الوفاق والاتّفاق بين فصيلٍ يستند إلى نهج الكفاح المسلح لتحقيق أهدافه السياسية، وآخر لا يزال متمسكًا بمبدأ التنسيق الأمني مع العدو، وملاحقة المقاومين والنشطاء، واستجداء الإمبريالية لتثبيت سلطته على أقلّ من 20٪ من أرض فلسطين التاريخية. مثل هذا الوفاق، إن تحقق، ستكون ترجمته على أرض الواقع هي خلق “قيادةٍ موحدةٍ” تستند إلى سياسةٍ توفيقيةٍ مائعةٍ، تتبنّى المقاومة خطابيًا، في الوقت الذي تستجدي فيه الحقوق من العدو وحلفائه.

كان الأجدى باليسار الفلسطيني، عوضًا عن تبني خطاب “المصالحة الوطنية”، العمل على تحقيق الوحدة الشعبية، تحت ظلّ قيادةٍ مقاومةٍ، يلعب فيها الدور الذي يفترض بالفصائل الثورية لعبه على المستويين الميداني والسياسي، ويستبعد تمامًا أيّ فريقٍ مهادنٍ وضع كل أوراق رهانًا على طاولة العدو. لكن الغياب الواضح لدور هذا اليسار ميدانيًا، وميوعة مواقفه السياسية هي نتيجةٌ طبيعيةٌ لحالة التشوه الأيديولوجي التي عصفت به، ابتداءً من تبعيّته للستالينية، التي اختلقت منظور المرحلية والتحالف مع ما يسمى بالبرجوازية الوطنية، مرورًا بتبنّيه الماوية الصينية، التي آل بها المطاف إلى بناء أعتى الدكتاتوريات الرأسمالية في يومنا هذا، وانتهاءً بالشعبوية “القومية اليسارية” التي بات يتسم بها.

يقول القيادي البلشفي ليون تروتسكي: “إذا كان القادة يسعون إلى الحفاظ على أنفسهم فقط، فإنّ كلّ ما سيصبحون عليه هو كونهم مجرد معلباتٍ مجففةٍ”.. وهذا ما آل إليه حال قيادات اليسار الفلسطيني بعد مهادنته لما يسمى بالحلّ المرحلي، نتيجة التشوه الأيديولوجي الستاليني، الذي يضع مصالح البيروقراطية الحزبية فوق مصالح الطبقات الشعبية المناضلة. مع الأسف، التصالح مع سلطة أوسلو، وهو الموقف الذي لا يزال اليسار الفلسطيني مصرًا عليه حفاظا على مصالحٍ ذاتيةٍ ضيقةٍ، وضعه في موقفٍ يتناقضٍ تمامًا مع الأدبيات التي طرحها في سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال يمعن في تحييده شعبيًا وسياسيًا.

صحيحٌ أن أيديولوجيا حركة حماس ليست ثوريةً بالفهم الماركسي للمصطلح، لكن هذا الفصيل لا يزال متمسكًا بنهج المقاومة والكفاح المسلح، وهذا السبب الأساسي الذي جعل من الحركة الجسم القيادي الحقيقي لنضال الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة التاريخية المفصلية. وفي حال عمدت حماس إلى التخلي عن هذا النهج، والرهان على طاولة المفاوضات، والحلول التسووية فحسب، فحتمًا سيؤول بها الحال إلى ذات الوضع الذي حيَّد كلًّا من الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب عن لعب أيّ دورٍ قياديٍ فاعلٍ. لكن في هذه الحالة سينجب الشعب الفلسطيني بلا شكٍّ قيادةً بديلةً تعبّر عن تطلعاته النضالية.

تأسست حركة حماس خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987؛ تلك الانتفاضة التي استغلتها قيادة منظّمة التحرير لتحقيق مكاسب سلطويةٍ آلت إلى حلولٍ تسوويةٍ تتوجت باتّفاقيات أوسلو، ثمّ بدأت بشق طريقها إلى صفوف الطليعة القيادية الوطنية، منذ تشكيل السلطة الفلسطينية وعودة الراحل ياسر عرفات إلى الضفّة الغربية المحتلة، إذ طرحت الحركة نفسها باعتبارها بديلًا عن منظّمة التحرير، التي اعترفت بما يسمى بدولة إسرائيل، عبر تصعيدها العمليات العسكرية، التي قادها القيادي في كتائب عز الدين القسام، يحيى عياش، في أواخر العام 1992.

كان الأجدى باليسار الفلسطيني، عوضًا عن تبني خطاب “المصالحة الوطنية”، العمل على تحقيق الوحدة الشعبية، تحت ظلّ قيادةٍ مقاومةٍ

في ظلّ هذا الاستقطاب الحاد بين نهج التسوية السياسية والمقاومة المسلّحة، بدأت حركة حماس بتحقيق التفافٍ جماهيريٍ متسارع حولها، حتّى كادت تتفوق على جماهيرية حركة فتح، إلى أن اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، التي أعادت صياغة التوازن بين الفصيلين لصالح حركة فتح نسبيًا، إثر عودتها لنهج الكفاح المسلح. وفي خضم حالة الاستقطاب تلك، كان اليسار الفلسطيني يعيش في جلباب منظّمة التحرير، التي تهيمن عليها فتح هيمنةً شبه مطلقةٍ.

بعد ذلك، توالت التطورات السياسية، في ظلّ استمرار تمسك حماس بنهج المقاومة، مقابل إصرار محمود عباس على الحلول الاستسلامية، إلى أن جاءت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في 25 يناير/كانون الثاني عام 2006، التي تمخضت عن تحقيق حماس لانتصارٍ انتخابيٍ كبيرٍ، تمثّل في فوزها بـ74 مقعدًا مقابل 45 مقعدًا لحركة فتح، في حين لم تحصل الجبهة الشعبية سوى على ثلاثة مقاعد.

النتيجة كانت مضي حماس باعتبارها بديلًا شرعيًا عن منظّمة التحرير، الأمر الذي أفضى إلى ما يصفه اليسار الفلسطيني، المتمسك بتلك المنظّمة، بالانقسام الوطني، في حين أن الأمر في الواقع يعبر عن التناقض الطبيعي بين نهج الكفاح ومسار التسوية الاستسلامية واستجداء الحقوق. كان الأجدى باليسار الاستمرار في النهج الذي سنه خلال مرحلته الثورية في سبعينيات القرن الماضي، ولعب الدور القيادي الذي يفترض أن ينخرط فيه، باعتباره المعبر الثوري الحقيقي عن الجماهير المضطهدة، على الأقلّ من وجهة نظرٍ ماركسيةٍ، عوضًا عن الوقوف في ظلّ البرجوازية الوطنية، سواء أكانت ممثلةً بحركة فتح أم حركة حماس.

هنا نستحضر مقولةً من أهمّ ما قاله الشهيد غسان كنفاني، الذي كان الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتّى اغتياله في الثامن من يوليو/تموز عام 1972: “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين.. لا أن نغير القضية”. وهذا ما قام به الشعب الفلسطيني طيلة مراحل ثورته المستمرة. الالتفاف الشعبي حول حركة حماس، والذي تحقق نتيجة استمرار تمسكها بالكفاح المسلح، كان يمكن أن يحققه اليسار لولا تأرجح مواقفه بين “ريتا، وعيون البندقية”!

تامر خرمه

صحيفة العربي الجديد