بالتوازي مع ما تشهده الضفّة الغربية من تغوّلٍ في المشروع الاستيطاني الهادف إلى تحقيق الضم الفعلي لها، وما يتبع ذلك من بلوغ ذروة عملية مصادرة الأراضي والبناء الاستيطاني، وعنف المستوطنين المفضي إلى التهجير وسياسات الخنق الاقتصادي، والتعطيش والتدمير والهدم؛ فإنّ هناك ضرورةٌ لتحركٍ شعبيٍ عاجلٍ، يترافق مع دعواتٍ ومبادراتٍ، لتفعيل ما يسمى “المقاومة الشعبية” في مواجهة المخاطر الوجودية التي تتهدد الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربية.
لكن من المهمّ أنّ نعود ونكرر ونذكر بما يقال دائمًا حول أسباب تراجع الفعل الشعبي في الضفّة الغربية، ولا سيّما أنّ هذا الفعل لم يرقَ إلى مستوى الحدث، سواء في ما يتعلق بالضفّة نفسها أو بفصول الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزّة، التي كان تفاعل الضفّة الغربية معها هامشيًا بالمجمل.
بطبيعة الحال، لا يمكن أن يحدث فعلٌ شعبيٌ منظمٌ في ظلّ عملية تدمير المؤسسات الوطنية الشعبية وتفكيكها والهيمنة عليها، وتحوير مساراتها. فلا وجود لاتحاداتٍ شعبيةٍ وطلابيةٍ ونسويةٍ وعماليةٍ، ولا لجان عملٍ تطوعيٍ، أو نقاباتٍ أو نوادٍ أو غيرها من الأوعية المؤطرة للناس. أما المؤسسات الموجودة حاليًا، تحت مسميات مجتمعٍ مدنيٍ واتحاداتٍ ونقاباتٍ ومؤسساتٍ شعبيةٍ وما إلى ذلك، فبعضها مكونةٌ من طواقم بيروقراطيةٍ برجوازيةٍ مرتبطةٍ بتمويلٍ أجنبيٍ، وبعضها مجرد أسماءٍ في الإعلام كالقوى الوطنية والإسلامية، وما هو موجودٌ منها على الأرض ملاحقٌ ومطاردٌ منذ سنواتٍ طويلةٍ من الاحتلال والسلطة الفلسطينية، كالحركات الطلابية. أما النقابات الموجودة حاليًا، فهي تلك التي تمثّل مهن الطبقة الوسطى، الأطباء والمهندسين والمحامين، وليست نقاباتٍ للعمال والفلاحين وغيرهم من الفئات الشعبية.
مهمّة إعادة تفعيل المقاومة الشعبية طويلةٌ وشاقةٌ ومضنيةٌ، لأنّ هذه العملية تتطلّب إعادة بناء/ إيجاد البنية التحتية التنظيمية
وإذا أراد أحدٌ دليلًا على أن هذه المؤسسات مجرد أسماء لا علاقة لها بالشارع، فليسأل أيّ شابٍ أو شابةٍ فلسطينيةٍ إن كانت له/ لها عضويةٌ في أيّ مؤسسةٍ أو اتحادٍ أو نادٍ أو حزبٍ، ولن أبالغ إن قلت إنّ الإجابة ستكون لا كبيرةً. وبطبيعة الحال، وفي ظلّ عدم وجود هذه البنية التحتية المؤسسية، التي تساهم في تثقيف الناس وتعبئتهم وتنظيمهم وتوجيههم، لا يتوقع أن نشهدَ مقاومةً شعبيةً منظمةً في الضفّة الغربية.
من ناحيةٍ أخرى، وفي السنوات الأخيرة، منذ ما بعد الانتفاضة الثانية على أقلّ تقدير، جرت عملية إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني اجتماعية، التي أدت إلى تراجع البعد الجماعي العام في تكوين الشخصية الفلسطينية، وبروز الفردانية، وتفوق المصلحة الخاصّة على المصلحة العامة، وتقوقع الناس حول ذواتهم، وسعيهم إلى تحقيق الخلاص الفردي على حساب الخلاص الجماعي. من أهمّ مظاهر هذا التحول النزعة الاستهلاكية (التفاخرية) المفرطة المستشرية في المجتمع الفلسطيني، إذ أصبح الاقتراض من البنوك، ومؤسسات الإقراض والتقيسط لتمويل سلعٍ استهلاكيةٍ بالدرجة الأساسية مهيمنًا على المجتمع الفلسطيني. وفي هذا الإطار، على سبيل المثال، أصبحت مسألة اقتناء السيارات، الممولة بالقروض، والتنافس على الأنواع الفارهة منها سمةً بارزةً في الشارع. وأكثر من ذلك، أن الناس أصبحوا يستخدمون القروض والتقسيط لتمويل الرحلات السياحية والكماليات.
في السياق ذاته، أصبح مصدر الدخل أو “الراتب” هو المقدس شبه الوحيد لدى الناس، فعندما حاولت حكومة رامي الحمد الله فرض قانون الضمان الاجتماعي، أواخر عام 2018، خرج الناس إلى الشوارع ضدّه، وانخرطت قطاعاتٌ واسعةٌ من الناس في فعاليات الاحتجاج ضدّ القانون. بعيدًا عن تفاصيل القانون، كان محرك الناس الأساسي هو الخوف على المقدس الأخير (مصدر الدخل)، من أن يعبث به أيًّا كان، بعدما جُرّد الناس من قضاياههم الوطنية العامة. وقد حدثت موجات احتجاجٍ وحراكاتٌ مطلبية أخرى في السنوات الأخيرة، كان دافعها الأساسي المطالبة بتحسين الدخل، لكن خلال المرحلة ذاتها حدثت تطوراتٌ مهمةٌ على مستوى القضية الفلسطينية، مثل الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمةً موحدةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ومحاولة تطبيق ما سميَ “صفقة القرن” لإنهاء القضية الفلسطينية. غير أنّ هذه التطورات الخطيرة لم تؤدِّ إلى أيّة تحركاتٍ شعبيةٍ ترقى إلى مستوى الحدث، وسادت حالةٌ من اللامبالاة تجاهها، وكأنّها لا تعني الناس بشيءٍ.
على أيّة حال، كانت هناك دائمًا استثناءاتٌ متكررةٌ، وما زالت تحدث، بعضها يسير نحو تجاوز حالة الاستثناء ليكون القاعدة، مثل ظاهرة معاقل المقاومة في شمال الضفّة الغربية. قبل ذلك شهدت الضفّة الغربية تحركاتٍ شعبيةً، وهباتٍ عفويةً لكنها امتدت مكانيًا وزمانيًا، مثل هبة القدس عام 2015، والهبات المقدسية المتتالية في السنوات الأخيرة، إلى هبة أيار (القدس) عام 2021. وقد دفعت هذه التحركات والهبات الشعبية المتكررة الاحتلال ليحسب حساب ردة فعل الشعب الفلسطيني في أكثر من حدثٍ ومناسبةٍ، خصوصًا في ما يتعلق بالأسرى والمسجد الأقصى.
لكن خطورة الوضع الحالي، الذي تعيشه الضفّة الغربية تحديدًا، على مختلف الأصعدة، الذي يترافق مع تردي الأوضاع الاقتصادية، وانقطاع مصادر الدخل، إذ لا يوجد أحد إلّا وتضرر اقتصاديًا بدرجاتٍ خطيرةٍ؛ لم يؤدِّ إلى تحرك الشارع تحركًا عفويًا أو منظمًا. هنا تبرز عوامل الخوف، والشعور بالعجز والإحباط، وعبيثة الأدوات المتاحة، وضياع البوصلة على اعتبارها عوامل مثبطةٍ للناس، ومانعةٍ لتحركهم تحركًا عفويًا أم منظمًا.
ربّما هنا مدخل الإجابة عن سؤال الآليات. فكلّ ما سبق كان الهدف منه القول إنّ مسألة تفعيل المقاومة الشعبية ليست مسألةً بسيطةً تحتاج إلى بعض الآليات والأدوات والنقاشات في المؤتمرات وما إلى ذلك، وبعدها سنجد الناس في الشوارع. بل على العكس تمامًا، فمهمّة إعادة تفعيل المقاومة الشعبية طويلةٌ وشاقةٌ ومضنيةٌ، لأنّ هذه العملية تتطلّب إعادة بناء/ إيجاد البنية التحتية التنظيمية، بمعناها الواسع، وإعادة بناء مؤسساتٍ وطنيةٍ شعبيةٍ، والأهمّ من ذلك، هدم قيم النيوليبرالية الفردانية، المتمحورة حول الخلاص الفردي في عقول الناس.
لا يمكن أن يحدث فعلٌ شعبيٌ منظمٌ في ظلّ عملية تدمير المؤسسات الوطنية الشعبية وتفكيكها والهيمنة عليها، وتحوير مساراتها
هذه الأمور تحتاج إلى عملٍ مكثفٍ طويل المدى، وإدراك مكامن الخلل وعوامل الهدم المستشرية في المجتمع، وأهمّها السلطة الفلسطينية وبناها الأمنية والإدارية والمالية، التي تحوّلت إلى أهمّ معول هدمٍ، وعائقٍ أمام أيّ إمكانيةٍ لإعادة تنظيم المجتمع، وبناء مؤسساته الشعبية. لا بدّ لهذه المعضلة أن تكون واضحةً لدى من يتساءلون عن لا مبالاة المجتمع الفلسطيني، أو غياب المقاومة الشعبية. فلا يمكن التعويل على كيان ضبط السكان أمنيًا وإداريًا، ولا بوجوده، في شكله الحالي، لتفعيل المقاومة الشعبية.
لكن وعلى أيّة حالٍ، لا تزال بعض النوافذ مفتوحةً لإمكانية العمل، لكن هذا الأمر يتطلّب استثمارًا جيدًا للظروف، وحالات الغضب الشعبي، أو حالات ردات الفعل الشعبية ردا على اعتداءات الاحتلال في الضفّة الغربية، أو تفاعلًا مع أحداث الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، فأحيانًا تمثّل الفوضى فرصةً لإعادة البناء، في ظلّ تشتت جهود الضبط والمراقبة واستنزافها.
لكن من المهمّ أن تكون الأهداف واضحةً، فمثلًا مفهوم المقاومة الشعبية نفسه غير متفقٍ عليه فلسطينيًا. وإذا ملنا إلى المعاني الدارجة له وأدواتها، كالتظاهرات والمواجهات والحجارة واللجان الشعبية، فهنا يجب أن تكون الحقيقة واضحةً. فهناك جزءٌ، إن لم يكن غالبية الناس، غير مؤمنٍ بجدوى هذه الأدوات في المرحلة الحالية، لأن مستوى التحدي والجرائم الصهيونية قد بلغ عنان السماء.
من ناحيةٍ أخرى، حتّى الراغبون بممارسة هذه الآليات خائفون من عواقبها، إذ إنّ الاحتلال يشن حملات اعتقالٍ شرسةٍ، ويمارس على المعتقلين أقسى أنواع التعذيب والحرمان. إضافةً إلى مجمل اعتداءات الاحتلال، التي تساهم في إحجام الناس عن التفاعل مع الوضع العام سواء على الأرض، أو حتّى على وسائل التواصل الاجتماعي.
يمكن معالجة هذه الإشكاليات بوسائل مختلفةٍ، منها خلق عملية تثقيفٍ بين الأجيال، والعمل على نقل التجارب النضالية من الأجيال السابقة إلى الجيل الحالي، فالنضال الفلسطيني الممتد غزيرٌ بالتجارب والخبرات والتقييمات لمراحل الفشل أو الأخطاء التي رافقت تجارب نضالية معينةٍ. من هنا من المهمّ توعية الجيل الحالي بتجارب الانتفاضة الأولى، على سبيل المثال، كونها الحالة المنشودة عندما نتحدث عن المقاومة الشعبية.
في هذا الإطار أيضًا، من المهمّ توضيح أهمّية المقاومة الشعبية وجدواها للناس، وشرح أشكالها وأدواتها، وفاعليتها في التخفيف عن قطاع غزّة، والدفاع عن الضفّة الغربية في وجه الاحتلال ومستوطنيه. وإضافةّ إلى ذلك، من المهم أن يوضح للناس كيف يحمون أنفسهم، ويتجنبون عواقب انخراطهم في المقاومة، وكيف يمكن لمشاركتهم بالحدّ الأدنى أن تكون فعالةً وآمنةً في الوقت نفسه.
وعليه، فالمهمّة الملقاة على عاتق المثقفين والنشطاء والفاعلين كبيرةٌ، وهم في حاجةٍ إلى التقاء الناس، والتواصل معهم مباشرةً، وعدم الاكتفاء بالمواد المكتوبة، واللقاءات والمؤتمرات الأكاديمية والنخبوية. هنا يجب أن نسلّم بحقيقة أنّ قلةً من الناس تقرأ المقالات والدراسات والتحليلات، فالقراءة ليست ثقافةً عامةً في مجتمعنا. في حين يبحث كثيرون عن المعرفة، وعن إجاباتٍ عن أسئلةٍ عالقةٍ. وحرّي بمن ينتظر من الناس شيئًا أن يبحث عنهم ويخاطبهم بلغتهم الشعبية البسيطة، والناس يتابعون وسائل التواصل الاجتماعي والتكتوك واليوتيوب، ولديهم جلدٌ لمشاهدة حلقاتٍ طويلةٍ نوعًا ما، وعميقةٍ لكن بأسلوبٍ بسيطٍ، قد تكون هذه الوسائل بديلًا ممكنًا لخلق التواصل المفقود. فواجب المثقفين والنشطاء والنخب إنّ كانوا عاجزين عن الالتحام المباشر بالجماهير أن يذهبوا إليهم حيث يكونون.
صحيفة العربي الجديد