بوتين واسترتيجية الإنجازات الروسية أمام العالم

Spread the love
image_pdfimage_print

أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم أول أمس الخميس توجيهاته لإعداد استراتيجية عرض إنجازات روسيا في قطاعات الاقتصاد والثقافة في الفعاليات الدولية الرئيسية.

إلا أن ما طرأ بذهني حين قرأت الخبر هو أن إنجازات روسيا تتخطى القطاعات الاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية وفي قطاع الدفاع والأسلحة المتطورة وغيرها، وعدت بالذاكرة إلى كتابي الذي صدر عام 1987، عن دار “التقدم”، واخترت له عنوان “السوفيت بين اليوم والغد”، وحاولت من خلاله شرح أهمية عملية التغيير التي قررت موسكو أن تقوم بها وسميت “البيريسترويكا” أو إعادة البناء، وكان هدفها الأخذ بزمام المبادرة لبدء إنهاء الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، بين الإمبريالية والاشتراكية، وإنهاء صراع التسلح المميت، والهرولة المجنونة في امتلاك الرؤوس النووية بين قطبي العالم حينها الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية.

كان هدف “البيريسترويكا” الانتقال إلى عالم جديد يسوده السلام والاستقرار والأمن بعيدا عن المجابهة، عالم يسعى لازدهار ورخاء الشعوب والحفاظ على الطبيعة والموارد البشرية والسعي نحو العدالة في توزيعها، ليعم الرخاء الجميع.

ومنذ ذلك الحين كتبت مئات المقالات وأدليت بمئات التصريحات لوسائل الإعلام المختلفة في هذا السياق، حتى ظهر في العام الماضي كتاب جديد لي اخترت له عنوان “من ضدنا”، تناولت فيه تلك النقاط الخفية على جيل ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وربما يكون في الثلاثينات من عمره الآن، ليعرف أهمية الدور العظيم الذي قامت وتقوم به روسيا لإنقاذ العالم بالانتقال إلى أجواء دولية جديدة تخدم البشرية والطبيعة.

وفي “من ضدنا” سعيت إلى فضح محاولات الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لإعاقة مسيرة السعي للانتقال إلى العالم الجديد متعدد الأقطاب، وكشفت عما تعنيه الأحادية القطبية اليوم، وحاجة الشعوب إلى الانتقال إلى التعددية القطبية.

إن إنجازات روسيا في السياسة الدولية هائلة ومؤثرة، وربما لم يحن الوقت بعد لإدراك تأثيرها اليوم، لكن كل شيء بالقطع سيتضح خلال الأعوام المقبلة:

أولا: لقد أفشلت روسيا كافة المخططات التي سعت لإضعافها وتفتيتها والقضاء عليها كدولة عظمى، بغرض نهب مواردها الهائلة، بدءا بتوسع “الناتو”، مرورا بوعود أوكرانيا وجورجيا بالانضمام إلى الحلف في 2008، وحرب أوسيتيا الجنوبية، ثم الانقلاب في كييف 2014، وانتهاء بأحداث أوكرانيا والعملية العسكرية الروسية الخاصة هناك.

ثانيا: إنشاء مجموعة “بريكس”، وتعزيز دور منظمة “شنغهاي للتعاون” اللتان تدعمان الانتقاء إلى أجواء دولية جديدة بعيدا عن سيطرة جهة أو جهات معينة على العالم.

ثالثا: بدء العالم فعليا لعملية الانتقال من هيمنة الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وعمليا يمكننا القول الآن إننا توصلنا إلى أجواء التعددية القطبية مع بقاء بعض التفاصيل التي ستعيد للأمم المتحدة وضعها الطبيعي، الذي يحتم احترام ميثاقها، وتنفيذ قراراتها.

رابعا: لقد تم تفادي الكثير من الصدامات والتوترات بفضل روسيا وسياساتها الرشيدة خلال السنوات العشر الأخيرة، وكان من الممكن أن تزداد رقعة التوترات، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.

خامسا: حافظت روسيا على استقرارها الاقتصادي برغم حزمات العقوبات والحصار الاقتصادي غير المسبوق في التاريخ، بل وتجاوزت كل تداعيات العقوبات الأمريكية الغربية ضدها، وهو ما شجع دولا كثيرة لإعادة النظر في هيمنة الولايات المتحدة والغرب على الاقتصاد العالمي، وطرح أسئلة كثيرة على آليات الاقتصاد العالمي ومستقبله.

سادسا: تعززت إنجازات روسيا خلال الأعوام الأخيرة في مجال الفضاء، وأعلنت روسيا عدم سماحها لأي جهة باستخدام مجال الفضاء سوى للأغراض السلمية، وهو ضمان هام جدا لحماية الأمن العالمي، ولحماية كوكبنا من الدمار.

سابعا وأخيرا: استعادة قدرات الجيش الروسي من حيث الأفراد والعتاد والتحديث التقني الذي مكّن روسيا ويمكنها من مواجهة “الناتو” بأيدي أوكرانيا، وسيمكنها من هزيمة الحلف حال حدوث أي مواجهة، ضمانا لحماية الأمن القومي الروسي، ودعما لأجواء العالم الجديد متعدد القطبية.

أعرف أن هناك من لا يوافقني الرأي في كتاباتي المدافعة عن سياسة روسيا، وتفكك المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي، ثم حل حلف “وارسو” العسكري، لكني أتوجه لهؤلاء مطالبا بتصور أي وضع خطير كان سيكون عليه العالم والكرة الأرضية الآن لو استمرت سياسة الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب، والتي كانت مصحوبة بسباق للتسلح النووي، وجعلت العالم بأكمله “على كف عفريت” كما يقولون.

نعم، قدمت روسيا تنازلات كثيرة لخدمة الأمن والسلام العالمي، ونعم، قوبلت بعض هذه التنازلات في أحيان كثيرة بدرجة من الاستهتار وعدم الفهم وعدم الإدراك لخطورة الوضع، إلا أنه، وبرغم كل السياسات العدائية التي تنتهجها الولايات المتحدة والغرب ضد روسيا، يبقى الوضع الدولي أكثر أمنا، ومسيرة الانتقال إلى الأجواء الدولية التعددية ماضية في طريقها، ولن يكون هناك أي خيار آخر للولايات المتحدة والمنظومة الغربية سوى الرضوخ لهذه التغيرات التي سيشارك فيها العالم، وهو ما بدأ يحدث برغم عدم وجود أي علاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وبرغم كل المقاومة من الولايات المتحدة وتوابعها.

وفي سياق متصل استمعنا إلى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الذي يزور فينتيان عاصمة لاوس لحضور اجتماع بصيغة “روسيا-آسيان”، ضمن الفعاليات الوزارية للرابطة، وأكد على مواصلة تعزيز التنسيق في مجال الأمن بين روسيا ورابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، حيث تابع: “خلال أكثر من ثلاثة عقود، أصبحت علاقاتنا شاملة حقا، ويجري عمل هادف لتعميق التنسيق في مجالات السياسة والأمن لمواجهة التحديات والتهديدات الحديثة. ونحن نرى ديناميكيات إيجابية في المجالات العملية، بما في ذلك في مجالات الاقتصاد والطاقة والزراعة والتعليم”.

كنا نأمل أن يتحول العالم إلى عالم أكثر أمنا وتعاونا من خلال إنهاء الهيمنة الأحادية عن طريق التفاهم والمشاركة الجماعية، لكن للأسف لم يحدث ذلك منذ ثلاثين عاما، إلا أنه يتحقق اليوم باستعادة روسيا وضعها كدولة نووية عظمى، وبالتعاون مع الصين ومجموعة كبيرة من دول الجنوب العالمي وأمريكا اللاتينية، وهو أيضا يعد من إنجازات روسيا في حشد الجميع وراء قضية واحدة عادلة.

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

روسيا اليوم