يزداد الحضور التركي في منطقة الساحل الأفريقي على كافة المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية، تزامنًا مع ترنُّح النفوذ التاريخي لفرنسا والغرب عمومًا، ما يثير تكهنات عن توجّه أنقرة لأن تحل تدريجيًا محل الوجود الفرنسي والغربي في القارة الأفريقية.
آخر محطات الحضور التركي تمثّلت في الزيارة التي أجراها إلى النيجر وفد رفيع المستوى بقيادة وزير الخارجية هاكان فيدان، الأربعاء والخميس 17 و18 يوليو/ تموز، لتعزيز التعاون مع هذا البلد الذي تديره حكومة عسكرية، ويعاني من استهداف تنظيمات متطرفة.
رافق رئيس الدبلوماسية التركية خلال الزيارة كل من وزير الدفاع يشار غولر، ووزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالن، ورئيس مؤسسة الصناعات الدفاعية التابعة للرئاسة التركية خلوق غورغون، وأوزغور فولكان آغار مساعد وزير التجارة.
حظيَ الوفد التركي باستقبال رسمي من رئيس النيجر الجنرال عبد الرحمن تشياني، ما يدل على الأهمية التي توليها الحكومة العسكرية في النيجر لزيارة الوفد التركي رفيع المستوى.
الجنرال تشياني يستقبل وزير الخارجية التركي والوفد المرافق له
استقبل رئيس الدولة، الجنرال عبد الرحمن تشياني، اليوم الأربعاء، وفدا تركيا رفيع المستوى برئاسة هاكان فيدان وزير الخارجية، برفقة كل من وزراء الدفاع، والطاقة والموارد الطبيعية، ورئيس الاستخبارات.#النيجر 🇳🇪 #تركيا 🇹🇷 pic.twitter.com/o0QuNJDnEP
— أخبار النيجر (@Nigerenarabe) July 17, 2024
وبحسب ما ورد، جرى خلال الاستقبال استعراض العلاقات الثنائية والتعاون المشترك وسبل تعزيزه، إضافة إلى تكثيف التنسيق الثنائي في القضايا التي تهمّ البلدان، كما جرى بحث أوجُه توطيد التعاون الأمني والدفاعي والاقتصادي والتنموي، ومناقشة المستجدات الإقليمية والدولية.
تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا
كانت منطقة الساحل التي استعمرتها فرنسا في السابق قد شهدت موجةً من الانقلابات العسكرية في الآونة الأخيرة (2020-2023)، ويرجّح مراقبون أن تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا أسهم في توفير دعم شعبي كبير للانقلابات التي شهدتها كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر والغابون، لتجد باريس نفسها أمام متغير جديد يُضاف إلى سلسلة نكساتها في القارة السمراء.
القوة الاستعمارية السابقة متهمة بصنع الحكومات في غرب أفريقيا وإفشالها، وإبقاء البلدان تحت وصايتها الاقتصادية من خلال الفرنك الإفريقي، وبأنها غير فعّالة، بل متواطئة مع التنظيمات المتطرفة التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
أتاح خروج فرنسا وما تبعه من انسحاب أمريكي المجال واسعًا أمام الصين وروسيا وتركيا، لملء الفراغ وإقامة شراكات جديدة مع الأنظمة العسكرية التي تحكم الدول الخمس في منطقة الساحل
هذه المشاعر ليست جديدة وتعود جذورها إلى التاريخ الاستعماري المضطرب، وقد تعززت في الآونة الأخيرة بعد تبنّي الحكام العسكريين الذين استولوا على السلطة في الدول المعنية خطابًا معاديًا لباريس.
حيث قال رودريغ كوني، الباحث في معهد دراسات الأمن: “كان هناك دائمًا شعور ضمني معادٍ لفرنسا، بسبب التعالي الفرنسي وغطرسة السياسة الفرنسية في أفريقيا التي لم تشهد تغييرًا عميقًا منذ نهاية حقبة الاستعمار”.
في النيجر بالتحديد، اتخذت الحكومة العسكرية التي تولت السلطة بعد الانقلاب قرارًا بطرد القوات الفرنسية العام الماضي، كما طلبت من الولايات المتحدة سحب عسكرييها وهو ما يتوقع أن يحدث في سبتمبر/ أيلول القادم، وكذلك أنهت حكومة نيامي اتفاقيات أمنية مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى عقود تعدين لدول غربية كثيرة.
وفي الجانب المقابل، أتاح خروج فرنسا وما تبعه من انسحاب أمريكي المجال واسعًا أمام الصين وروسيا وتركيا، لملء الفراغ وإقامة شراكات جديدة مع الأنظمة العسكرية التي تحكم الدول الخمس في منطقة الساحل.
المساعدة في مكافحة الإرهاب
فيما يتعلق بزيارة الوفد التركي إلى نيامي، عُقد اجتماع للعمل المشترك بين البلدَين برئاسة رئيس وزراء النيجر علي محمد الأمين، شارك فيه من الجانب النيجري وزير الدفاع الفريق سالفيو مودي، ورئيس الهيئة العامة للقوات المسلحة الجنرال صلاح برمو.
NEW: Also from #Turkiye–#Niger meeting of ministers in Niamey:
– 3 working groups on foreign policy + security, energy + mining, economy + trade
Foreign Minister Fidan:
– As in Somalia, we discussed how to help defence industry + intelligence capacity in terrorism fight 🇹🇷🇳🇪 https://t.co/WCS0DtQScg pic.twitter.com/Zg3IJKrzP6— Andrew Hopkins (@achopkins1) July 18, 2024
وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، كشف عن أهداف زيارة الوفد التركي، قائلًا: “تركيا حساسة جدًّا لمكافحة الإرهاب، إنه وضع يزعزع الاستقرار في منطقة الساحل، ونحن مستعدون لمشاركة خبراتنا في مكافحة الإرهاب والتعاون مع النيجر التي هي بلد صديق وشقيق، السلام والأمن والاستقرار في أفريقيا من بين أولوياتنا”.
ولفت فيدان إلى أن علاقات التعاون بين تركيا والدول الأفريقية مستمرة في النمو بمجالات مثل الدبلوماسية والاقتصاد والمالية والأمن والدفاع والتعليم والصحة، وأن تركيا لديها سفارات في 44 دولة أفريقية من أصل 54 بلدًا بالقارة.
وممّا يجدر ذكره أن النيجر اشترت من تركيا 6 طائرات مسيّرة قتالية “بيرقدار تي بي 2” في مايو/أيار عام 2022، بعدما أعلنت البلدان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 عن صفقة تشمل توريد أسلحة للنيجر بينها طائرات “بيرقدار تي بي 2” المسيّرة، وطائرات التدريب “حر كوش”، ومدرعات لتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية في مواجهة الجماعات الإرهابية.
وقد أعلنت الدول الثلاث الأسبوع الماضي إنشاء اتحاد كونفدرالي تحت اسم تحالف دول الساحل (Alliance of Sahel States (AES))، نتج عن مناقشات استضافتها عاصمة النيجر نيامي في القمة الأولى لتحالف دول الساحل، التي شارك فيها زعماء الدول الثلاثة الموقعة على الاتفاق إبراهيم تراوري (بوركينا فاسو)، وآسيمي غويتا (مالي)، وعبد الرحمن تياني (النيجر).
يعني ذلك أن تركيا ستكون شريكًا لا غنى عنه في مجال الدفاع ومكافحة الإرهاب لتحالف دول الساحل، خاصة أن الدول الثلاث قامت بطرد القوات الفرنسية، وإلغاء معظم الاتفاقيات الأمنية مع دول الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة.
اتفاقية في مجال النفط
خلال الاجتماعات وقّعت تركيا والنيجر على إعلان نيات حول التعاون في مجال النفط والغاز الطبيعي، وفقًا لبيان لوزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية الأربعاء.
NEW: #Turkiye and #Niger have signed a Declaration of Intent in the field of oil + gas, during all these multiple ministerial meetings in Niamey 👇
It aims to support + encourage Turkish companies in the development of oil and natural gas fields in Niger #Africa 🇹🇷🇳🇪 https://t.co/7We8SSatRe pic.twitter.com/Ow9WKleqBi
— Andrew Hopkins (@achopkins1) July 17, 2024
وأفاد البيان أن وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، أجرى محادثات مع المسؤولين في النيجر، موضحًا أن الوزراء الأتراك التقوا رئيس وزراء النيجر، علي محمد الأمين زين، خلال اجتماع عمل، وعقب اللقاء عقد الوزير بيرقدار اجتماعًا مع وزير المناجم النيجري عثمان أبارشي، ووزير النفط مهامان مصطفى باركة، ووزير الطاقة أمادو هاوا، قبل أن يلتقي الوفد التركي رئيس النيجر عبد الرحمن تشياني.
وحسب الإعلان الموقّع، من المخطط زيادة الحوار بين المؤسسات والشركات ذات الصلة في البلدَين، وفي هذا السياق يهدف البرنامج إلى دعم وتشجيع الشركات التركية في تطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في النيجر، وستُواصل الأعمال المخطط لها ضمن جدول زمني معيّن.
التدخل العسكري في النيجر
الحفاوة التي اُستقبل بها الوفد التركي من جانب النيجر، تذكّر بالمواقف المتوازنة التي اتخذتها أنقرة من تطورات المشهد في نيامي، والتي قدّرتها السلطات العسكرية الحاكمة.
كانت تركيا قد عارضت الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس محمد بازوم في البداية، وهو موقف مفهوم لكون تركيا بلدًا ديمقراطيًا وعضوًا في حلف الناتو، إلا أن الرئيس أردوغان عبّر بحزم لاحقًا عن معارضته التدخل العسكري الذي هددت به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) لإعادة الرئيس النيجري المخلوع، حيث علّق الرئيس التركي قائلًا: “موقفنا ثابت بشأن الأزمة في النيجر، ولا نصوّب قرار “إيكواس” بخصوص التدخل العسكري”.
وأضاف: “نحن ندرس كيفية لعب دورنا المحوري في النيجر. نرى أن التدخل العسكري في النيجر قد يساهم في نشر حالة عدم الاستقرار في العديد من البلدان الأفريقية”.
وأشار الرئيس التركي إلى أنه “بعد هذا القرار، حذرتُ مالي وبوركينا فاسو أيضًا، من أن مثل هذا التدخل العسكري في النيجر يُعتبر بمثابة إعلان الحرب عليهما”، مؤكدًا أن “تركيا ستواصل الوقوف إلى جانب شعب النيجر”.
بعد ذلك، استقبل الرئيسُ التركي رئيسَ وزراء النيجر، علي محمد الأمين زين، في العاصمة أنقرة، حيث أُقيمت مراسم استقبال رسمية لزين، وذكر بيان رسمي تركي أنه تمّ بحث العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدَين، ومكافحة الإرهاب، وقضايا إقليمية ودولية.
وأعرب أردوغان خلال اللقاء عن “دعم تركيا لخطوات النيجر لتعزيز استقلالها السياسي والعسكري والاقتصادي”، بحسب البيان. وعليه، من المرجّح أن تكون زيارة الوفد التركي إحدى ثمرات اجتماع رئيس وزراء النيجر مع الرئيس أردوغان، وما تم الاتفاق بشأنه بين الجانبَين، فليس من المعتاد أن تقوم تركيا بإرسال مثل هذا الوفد رفيع المستوى دون أن تكون هناك قمة، أو أن تكون هناك زيارة خارجية للرئيس، ما يشير إلى أن تركيا تنظر إلى النيجر كبوابة لترسيخ حضورها في منطقة الساحل الأفريقي.
وربما كانت ليبيا آخر دولة يقصدها وفد تركي بمثل هذا الثقل عام 2022، فقد زارها آنذاك وفد يضمّ وزراء الخارجية مولود تشاووش أوغلو، والطاقة والموارد الطبيعية فاتح دونماز، والدفاع خلوصي أكار، والتجارة محمد موش، إلى جانب رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة فخر الدين ألطون، ومتحدث الرئاسة السفير إبراهيم قالن.
تركيا تنجح في ملء الفراغ
منذ عقدَين من الزمن، تعمل تركيا على توسيع حضورها في أفريقيا التي تمتلك، وفق تقديرات اقتصادية، نحو 65% من الموارد العالمية التي لم يجرِ العمل على استغلالها.
يكفي أن نشير إلى أن النيجر تمتلك خامات اليورانيوم الأعلى جودة في أفريقيا، وهي سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم، لذلك تعتقد الولايات المتحدة أن تقارُب تركيا من النيجر يأتي بهدف تأمين وصول أنقرة لليورانيوم، من أجل دعم صناعة الطاقة النووية الناشئة في البلاد.
وفي السنوات الأخيرة عزّزت الشركات التركية حضورها في النيجر، فقد فازت بعدد من العقود، بينها عقد بقيمة 152 مليون يورو لتحديث مطار نيامي، وعقود أخرى بقيمة 50 مليون يورو لإقامة فندق فخم، و38 مليون يورو للمقرّ الجديد لوزارة المالية النيجرية في قلب العاصمة، كما أنشأت تركيا عام 2019 مستشفى بقيمة 100 مليون يورو في مارادي، ثالث أكبر مدن البلاد والمركز الإداري لمنطقة مرادي.
وبشكل عام، زادت تركيا من تحركاتها في منطقة الساحل بعد موجة الانقلابات التي شهدتها عدد من الدول الفرانكفونية منذ العام 2020، والتي تسبّبت في تراجع النفوذ الفرنسي والغربي في القارة.
تكثيف تركيا حضورها في منطقة الساحل عبر السلاح والتعاون الاقتصادي، يجعلها شريكًا موثوقًا في المنطقة التي تشهد سباق نفوذ بين القوى العالمية، حيث أسفر الاستقطاب الذي تشهده منطقة الساحل عن تشكيل تكتّل جديد سبق الإشارة إليه، وهو تحالف دول الساحل الذي يتكوّن من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وكلها حليفة لتركيا.
محمد مصطفى جامع
موقع نون بوست