هل يمكن أن تصبح النفايات الصلبة فرصة استثمارية في لبنان؟

Spread the love
image_pdfimage_print

تعدّ النفايات الصلبة من أخطر القطاعات التي تتهدد لبنان، دون إيجاد حل جذري لأزماتها المتتالية على مر العقود، فلجأت الحكومات المتعاقبة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى اعتماد المطامر كحل غير علمي وغير صحي لمعالجة هذا الملف، لكنها امتلأت بنفايات غير معالجة واستنفدت قدراتها الاستيعابية، ومع كل إغلاق لمطمر كانت تتكدّس النفايات في الشوارع وبين المنازل، حاملة معها كل أشكال التلوث والأمراض.

من منا لا يذكر الحراك الشعبي عام 2015 عقب أزمة النفايات التي أغرقت شوارع العاصمة بيروت كما العديد من شوارع البلدات، وعجزت فيها الحكومة عن حل المشكلة وكان الرأي حينها أن تصدّر نفايات لبنان إلى الخارج مقابل مبالغ مالية تعود لخزينة الدولة، إلا أن هذا الطرح سقط بسبب المناكفات السياسية.

هذه المحنة الطويلة مع النفايات الصلبة، وضعت اللبنانيين أمام مسؤولية كبيرة، ودفعت بالحكومة إلى تبني مشاريع إعادة التدوير، أما المجتمع المدني والمحلي فوجد في هذه المشاريع فرصة للاستثمار، وشيئاً فشيئاً بدأت بيروت على وجه الخصوص تحتضن كل عام معارض متنوعة حول المباردات التي تعنى بالفرز وإعادة التدوير وإدارة النفايات، وهذا العام استضافت معرض إعادة التدوير وإدارة النفايات 2024، وقد زاره رصيف22 للاطلاع على الجهود المبذولة في هذا السياق.

إبعاد النفايات الإلكترونية عن الطبيعة

تعد النفايات الإلكترونية واحدة من أعقد المشكلات في لبنان الذي يعاني من غياب المعامل المختصة في إعادة تدويرها، فترمى في المطامر دون معالجة، في حين أنها تحمل مواد كيميائية ومعادن ثقيلة تنتقل إلى التربة.

اليوم، تركز شركة AKS للتجارة والصناعة والتي بدأت نشاطها قبل 50 عاماً في جمع الحديد والخردة والألمنيوم وإعادة تدوير البلاستيك، على النفايات الإلكترونية، وتقول ملاك خليفة من فريق الشركة، بأن لبنان ينتج نفايات إلكترونية بشكل كبير، ففي كل بيت وشركة هناك حواسيب وأقراص مضغوطة وهواتف، تجمعها الشركة من المنازل والشركات والمؤسسات وتصدرها إلى الخارج خاصة الصين واليابان لإعادة تدويرها، حيث يُستفاد من المواد الثمينة داخلها.

وتشير الخبيرة إلى أن لبنان يفتقر إلى معامل إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، وهي عملية تحتاج إلى الكثير من الآلات، “لهذا دأبت الشركة على تجميعها وبيعها للخارج”، كما تقول لرصيف22.

بالنسبة لخليفة فإن النقطة الأهم بهذه العملية هي “أننا نحمي الطبيعة من التلوث، فالنفايات الإلكترونية تلوث البيئة خاصة إذا رميت في المطامر أو الطبيعة، وتتفكك مكوناتها وتتسرب للتربة ومنها إلى المياه الجوفية”.

خطورة النفايات الطبية

تعدّ النفايات الطبية من أخطر أنواع النفايات لاحتوائها على نسب عالية من الجراثيم والمخلفات البشرية، لكن هذا لم يمنع جمعية “أركونسييل” من الدخول على الخط بعد دخولها في مجال إعادة تدوير النفايات الصلبة وعلى وجه الخصوص البلاستيك.

يتحدث حليم سعادة الناشط في الجمعية 22 مشيراً إلى أنها أنشئت بداية لمساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة بعد انتهاء الحرب الأهلية، وبعدها تطورّت واستحدث أكثر من قسم، منها مخصص لمعالجة النفايات.

“تغطي الجمعية اليوم 85% من مستشفيات لبنان، فيذهب فريق الجمعية إلى المشافي والعيادات ويستلمون النفايات الطبية من إبر وأكياس دم وأمصال وغيرها، ويضعونها في كيس مع علامة تحذيرية صفراء، وتوضع الأكياس داخل برميل أصفر وعليه علامة تحذيرية أيضاً، وعند وصولها إلى مركز المعالجة تخضع للفرم والتعقيم”، يقول.

يلفت سعادة إلى أنه عندما تعقّم النفايات الطبية تصبح نظيفة وغير ضارة، وبعدها تحمل إلى المطمر حيث تطمر بطريقة علمية وصحية وغير ضارة للتربة والبيئة.

من نشاط فرز النفايات الطبيةمن نشاط فرز النفايات الطبية

من نشاط فرز النفايات الطبية

كما تسعى الجمعية إلى الاستفادة من القطع البلاستيكية الصغيرة الموجودة داخل النفايات المفرومة، من خلال آلة حديثة مجهّزة بعين ذكية تستطيع أن تستخلص القطع البلاستيكية الصغيرة المفرومة وإعادة استخدامها في صناعات أخرى، لأنه يصعب فرز البلاستيك المفروم يدويا نظراً لحجمه الصغير جداً، وبهذه الطريقة يمكن توفير 40% من المواد المطمورة وإعادة استخدامها.

ويرى سعادة أن هناك العديد من التحديات التي يواجهها القطاع، أولها المردود المادي الضعيف، فالجمعية تغطي تكلفة الفرز المنزلي من عوائد فرز النفايات الطبية، وهذا يعد عبئاً على الجمعية، من هنا يركز على ضرورة الوصول إلى استخلاص حبيبيات البلاستيك ذات القيمة المادية المرتفعة، كونها المواد الأولية الأساسية لعشرات الصناعات البلاستيكية.

عبء النفايات المنزلية

أخذت جمعية “اللقاء البيئي” والناشطة في قضاء راشيا محافظة البقاع على عاتقها معالجة النفايات المنزلية، فاستحدثت ثلاثة مراكز لجمع النفايات من 34 قرية. وتتحدث غصون علبي الناشطة في الجمعية لرصيف22 عن نشاط الجمعية الذي بدأ عام 2019، فيجلب الناس مفروزاتهم إلى مراكز التجميع، لتنقلها الجمعية إلى مركز المعالجة، حيث يفرز الكرتون والبلاستيك والثياب والحديد والنحاس.

تؤكّد علبي على أهمية الفرز المنزلي ونشر الوعي بشأنه، وتنوّه إلى تجاوب أكثرية الناس مع المبادرة خاصة بعد حملات التوعية التي أقامتها بالتعاون مع البلديات.

واقع إعادة تدوير وفرز النفايات من المصدر غير مشجع حتى الآن في لبنان، فالمبادرات الفردية لم تتحول بعد إلى قرار حكومي وطني بالفرز من المصدر، ومن يشجع على الفرز من المصدر هي مبادرات تبغي الربح وليست البلديات

بدورها تعمل شركة “نضيرة” تكنولوجي على مشاريع إدارة النفايات وإعادة التدوير، وقد سخّرت خبراتها في مجال التكنولوجيا لتسهّل عملها في مجال النفايات الصلبة. وينوّه أندريه محفوظ من فريق الشركة إلى أنها تستقبل مفروزات المواطنين في مراكزها داخل بيروت وخارجها، ومن خلال تطبيق خاص يستطيع المواطن أن يجمع النقاط التي يحصل عليها حسب وزن المفروزات، ويمكنه استبدالها بالنقود أو يتبرع بها لجمعيات خيرية.

هذا التطبيق لديه مهمات أخرى، منها تعليمية لإطلاع الناس على أهمية البيئة وكيفية المحافظة عليها، وإعلامهم بتأثيرهم على الطبيعة من خلال عمليات الفرز.

بحسب محفوظ فإن قدرة الشركة على استيعاب النفايات المنزلية شهرياً في بيروت فقط تفوق 50 طن، كما أن هناك أماكن حيوية وشركاء من بلديات ومجتمع محلّي لديهم اندفاع للفرز والتوعية، وتم التعاون معهم لفرز النفايات العضوية.

النفايات الصلبة مجال هام للاستثمار

يشير مؤسس شركة “إدارة نفايات لبنان” بيار بعقليني في حديث لرصيف22 إلى أن وزارة البيئة وضعت خطة لإدارة النفايات وأقرتها في الموازنة، وتنتظر التصويت عليها في المجلس النيابي لتصبح مشرعة ودائمة. ويشرح الخطة المبنية على ثلاث ركائز: الأولى استرداد الكلفة، فكل مواطن وكل منزل وفندق ومطعم ومؤسسة يتوجب عليهم دفع اشتراكات لرفع النفايات، والثانية مراكز الاستلام والفرز، فيُحضر الناس مفروزاتهم ويتقاضون ثمنها، ومن بعدها تحمل هذه المفروزات إلى معامل المعالجة.

النقطة الثالثة هي الحوكمة ونظام المعلومات الخاص بالنفايات، مما يتيح تتبع المنتج من لحظة تصنيعه حتى رميه لنعرف إلى أين وصل، إلى المطمر أم إلى مركز الفرز؟ وهل خضع للفرم وإعادة أو لا؟

حملات للتوعية والتشجيع على فرز النفاياتحملات للتوعية والتشجيع على فرز النفايات

حملات للتوعية والتشجيع على فرز النفايات

ويضيف بعقليني: “هذه الخطة حقيقية وواقعية، تبني أساساً لمستقبل مستدام للنفايات وتصلح مشكلة مزمنة عمرها أكثر من ثلاثين سنة. هذا القطاع فيه أكثر من 150 مليون دولار استثمارات، ويمكن خلق أكثر من 30 ألف فرصة عمل للبنانيين في هذا المجال”.

وبحسب البنك الدولي والدراسات التي أجرتها وزارة البيئة أواخر عام 2022، فإن لبنان يفرز 19% من نفاياته فقط، ويبقى 81% منها غير مفروز، فترمى في المكبات أو تحرق أو تطمر.

يشير بعقليني إلى أن العائق الأكبر لهذا القطاع في لبنان هو قلة المحاسبة، فعندما يرمي أحدهم المخلفات من نافذة السيارة لا يحاسبه أحد، ولا توجد أي رقابة على فرز النفايات أو عدمها. ويضيف: “ما يحتاجه لبنان بعد المحاسبة هو التوعية وتطبيق القانون. هذا المسار طويل ويحتاج إلى وقت لكي يأتي بنتائجه المرجوة، لكن لا شيء مستحيل عندما تحضر الإرادة وتتضافر الجهود”.

المبادرات الفردية والقرار الحكومي

أشارت جمعية “الأرض-لبنان” في دليل نشرته في وقت سابق إلى وجود 6 مؤسسات لتدوير الورق، و 9 مؤسسات لدوير المعادن، و15 مصنعاً لتدوير البلاستيك، ومعملين لتدوير الزجاج، و8 معامل لجمع وتدوير القماش والنفايات الالكترونية والاطارات والزيت المحروق.

في هذا السياق، يرى رئيس الجمعية الناشط البيئي بول أبي راشد في حديثه لرصيف22 أن لبنان في وضع صناعي جيد لتدوير المواد كالورق والكرتون والبلاستيك أو تصدير المعادن ولكن هناك مشكلة في تدوير الزجاج بسبب عدم وجود المعامل، فمنها ما أغلق وبعضها دُمّر خلال حرب عام 2006.

العائق الأكبر لهذا القطاع في لبنان هو قلة المحاسبة، فعندما يرمي أحدهم المخلفات من نافذة السيارة لا يحاسبه أحد، ولا توجد أي رقابة على فرز النفايات. ما يحتاجه لبنان بعد المحاسبة هو التوعية وتطبيق القانون. هذا المسار طويل ويحتاج إلى وقت لكي يأتي بنتائجه المرجوة

أما واقع التدوير والفرز من المصدر فيرى أبي راشد أنه غير مشجع، فالمبادرات الفردية لم تتحول بعد إلى قرار حكومي وطني بالفرز من المصدر، شارحاً بأن من يشجع على الفرز من المصدر هي مبادرات تبغي الربح وليست البلديات. ويضيف لرصيف22: “هنا تكمن المشكلة، لأن فشل معالجة النفايات في لبنان سببه الخصخصة والاحتكار وهو ما أدى إلى انفجار القضية عام 2015. واليوم تغيب كل الحلول عن الحكومة والبلديات ويظهر فقط على الشاشة بضعة مبادرات فردية ممولة تخفي وراءها مكبات ومطامر سوف تمتلىء وتلوث البحر والمياه الجوفية والهواء والتربة”.

يؤكد أبي راشد أن لبنان يعيش مرحلة أخطر من مرحلة المطامر، وهي مرحلة الفوضى، فلا فرز قبل الطمر، والمطامر عشوائية في كل المناطق، في ظل اقتراحات لمواقع جديدة لها غير ملائمة للبيئة، هذا عدا غياب دولة القانون والمؤسسات بحجة الحرب وفقر البلديات.

لبنان اليوم مهدد بعودة أزمة النفايات الصلبة مع احتمالات إقفال المطامر المنتشرة على الخارطة اللبنانية، وتبقى المبادرات الفردية كوّة النور في جدار العتمة، إلا أنها بحاجة إلى أن تكون ضمن خطة تنتهجها الدولة بكل مؤسساتها، ليكون الحل جذرياً والمشكلة إلى غير رجعة.

منير قبلان

موقع رصيف 22