كيف ساهمت هذه السيدة في ازدهار طريق الحج؟… حكايات مبهجة عن “درب زبيدة”

Spread the love
image_pdfimage_print

على مدار التاريخ الإسلامي، لعب طريق “الكوفة-مكة” دوراً مهماً في نقل الحُجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولاقى اهتماماً كبيراً من قبل الخلفاء ورجال الدولة العباسية. لكن ذلك لم يمنع تعرّضه لعبث قُطّاع الطرق من القبائل وبعض الفرق السياسية الخارجة عن طاعة الدولة.

يذكر محمد المعلم، في كتابه “الدرب السلطاني… طريق الحج البرّي القديم المسمّى درب زبيدة”، أن هذا الطريق عُرف في ما بعد باسم ‘درب زبيدة’، نسبةً إلى زبيدة بنت جعفر المنصور وزوجة الخليفة هارون الرشيد، لقيامها بأعمال كثيرة على مساره، لا تزال آثارها باقيةً حتى اليوم بالقرب من مكة المكرمة، منها حفر بئر مياه ‘عين زبيدة'”.

تعبيد الطريق في عهد الأمويين

وبحسب المعلم، كان طريق “الكوفة-مكة” معروفاً قبل العصر الإسلامي، حيث كانت الحيرة عاصمة المناذرة بالقرب من الموقع الذي قامت فيه الكوفة في ما بعد سنة 14هـ، وربما كانت القوافل التجارية تخرج عبر هذا الطريق من مكة والمدينة وتتجه إلى الحيرة، حيث كانت توجد على الطريق مناهل للمياه قبل الإسلام، وقد توقف في بعضها الجيش الاسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص، قبل دخوله العراق.

يذكر محمد المعلم، في كتابه “الدرب السلطاني… طريق الحج البرّي القديم المسمّى درب زبيدة”، أن هذا الطريق عُرف بهذا الاسم نسبةً إلى زبيدة بنت جعفر المنصور وزوجة الخليفة هارون الرشيد، لقيامها بأعمال كثيرة على مساره

وبعد دخول العراق وانتشار الإسلام في المشرق، انتظم استخدام هذا الطريق، وتحولت بعض مناهل المياه وأماكن الرعي الممتدة على دربه إلى محطات رئيسة، وبدأ الطريق يزدهر بالتدريج منذ عصر الخلافة الراشدة وحتى نهاية العصر الأموي.

ويذكر الدكتور أحمد بن هاشم البدرشيني، في كتابه “دروب الحج إلى الحرمين الشريفين في العصور الوسطى”، أن الخلفاء الأمويين اهتموا بهذا الطريق، ففي سنة 104هـ/722م، أمر الخليفة يزيد بن عبد الملك عامله على الكوفة عمر بن هيبرة، بتعبيد طريق “الكوفة-مكة”، وأن ينشئ فيه المحطات ويحفر الآبار، لأن الحجيج كانوا يجدون صعوبةً في الحصول على الماء.

منارات وبريد وآبار مياه على درب الحج العراقي

وبانتقال مركز الخلافة من الشام إلى العراق في العصر العباسي (132-656هـ)، أصبح الطريق حلقة اتصال مهمةً بين عاصمة الخلافة في بغداد والحرمين الشريفين وبقية أنحاء الجزيرة العربية وحتى اليمن، لذا أعطى خلفاء بني العباس جُلّ اهتمامهم لتأمين هذا الطريق، كما كانت للأمراء والوزراء والقادة والوجهاء إصلاحات أخرى كثيرة عليه.

وبحسب المعلم في كتابه المذكور آنفاً، أكمل كلٍّ من أبي جعفر المنصور (سنوات حكمِه: 136-158هـ)، وابنه المهدي (158-169هـ)، ومن بعدهما هارون الرشيد، ما بدأ ببنائه الخليفةُ العباسي الأول أبو العباس السفاح (132-136هـ)، وذلك بتزويد الطريق بالمرافق المهمة والتسهيلات اللازمة من أجل راحة الحجاج والمسافرين والتجار والجنود والموظفين في الدولة، ومنها بناء أحواض المياه وحفر الآبار وإنشاء البرك وإقامة الأميال والمنارات، كما أقدموا على توسيع مسار الطريق وإخلائه من العوائق الطبيعية والصخرية بحيث يكون صالحاً للاستخدام.

وفي عام 166هـ، أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد وذلك لأول مرة، إذ لم يسبقه أحد من الخلفاء إلى هذا العمل، وقد استُخدمت الجمال والبغال لهذا الغرض، وكان له أثر كبير في ربط الحكومة المركزية في بغداد بجميع أنحاء الجزيرة العربية عبر طرق مواصلات راقية التنظيم في تلك الفترة.

وعلى المنوال نفسه سار هارون الرشيد (179-193هـ)، وقد قسّم سنوات خلافته بين محاربة الأعداء في سنة، وزيارة الأماكن المقدسة في السنة الأخرى، حسب ما يذكر تقي الدين المقريزي، في كتابه “الذهب المسبوك في ذكر من حجّ من الخلفاء والملوك”. فقد بنى خزانات المياه، وأمر بحفر الآبار وإنشاء الحصون على طول الطريق من الكوفة إلى مكة، وزوّد الطريق بالمرافق المهمة من أجل خدمة الحجاج والمسافرين وراحتهم.

حوائط على جانبَي الطريق

أما زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد، فأسهمت إسهاماً عظيماً في هذا الطريق. تذكر بسمة طه إسماعيل، في دراستها “أوقاف زوجات خلفاء بني العباس في العصر العباسي الأول… السيدة زبيدة أنموذجاً”، أن زبيدة وفّرت كل ما يحتاج إليه الحُجاج من بِرَك وآبار ومنازل وصهاريج مياه وأحواض لحفظ الماء، كما عملت عليه محطات ومنازل وقصوراً للراحة، ومساجد للصلاة زُوّدت بالمياه، وعُرفت هذه المواضع باسم “زبيدة” أو “أم جعفر”، كقصر أم جعفر، وبركة زبيدة وبركة أم جعفر.

وبنَت زبيدة أيضاً حائطاً على الطريق من بغداد إلى مكة، وحفرت آباراً في كل مرحلة، وقيل إنها بنَتْ حائطَين على هذا الطريق، بواقع حائط من كلّ جانب من جانبَي الطريق، بحيث كان الأعمى إذا أراد الحج لمس الحائط وسار، وإذا عطش شرب من الآبار، فلا يقربه شيء من الحيوانات المفترسة، لأن الطريق محصن بالحيطان، كما تروي إسماعيل.

قطع الطريق وضريبة “الخفارة”

برغم اهتمام الخلفاء العباسيين بدرب زبيدة، إلا أن مناسك الحج لم تُؤدَّ عبره بشكل منتظم في فترات غير قليلة من التاريخ الإسلامي، بسبب ما قام به القرامطة (إحدى فرق الشيعة الباطنية)، وبعض القبائل العربية، من أعمالٍ مثل قطع الطريق والسلب والنهب وقتل الحُجاج، حسب ما تذكر الدكتورة هنية بهنوس نصر، في دراستها “خفارة الحج خلال طريق الحج الكوفي إلى مكة المكرمة (327-481هـ/938-1088م)”.

بحسب سامي الصقار، في دراسته “درب زبيدة أبزّ طرق الحج في التاريخ”، استمر الحُجاج في استخدام هذا الطريق حتى أواخر العصر العثماني، لكنه تعطل بعد ذلك وصار حجاج العراق يستقلون البواخر من البصرة إلى جدّة.

وظهرت هذه الممارسات إبان ضعف الخلافة العباسية في عصرها المتأخر، لا سيما خلال الفترة بين 327 و481هـ، وذلك في ظل سيطرة الأتراك (232- 334هـ)، ثم البويهيين (334-447هـ)، ثم السلاجقة (447-591هـ)، حيث شهدت تلك الفترات التي شملت القرنين الرابع والخامس الهجريين فوضى سياسيةً في بلاد المسلمين.

وفي ظل ضعف الخلافة العباسية وهيمنة تلك العناصر عليها، قلّ الاهتمام والعناية بهذا الطريق، وسيطر القرامطة وبعض القبائل على قوافل الحج، وفرضوا عليهم إتاوات وضرائب كانت تُجبى منهم نظير حمايتهم والسماح لهم بالجواز إلى مكة. وبحسب نصر، عُرفت هذه الضريبة بـ”الخفارة”، وكانت تُجبى من الحجاج على مرأى ومسمع من الخلافة العباسية منذ سنة 327هـ حتى سنة 481هـ، حيث أصدر السلطان السلجوقي ملكشاه، قراراً بإسقاطها وأعاد الأمن والنظام إلى طرق الحج.

وتذكر نصر، أن أسباباً عديدةً دفعت بعض القبائل العربية للاعتداء على قوافل الحج، منها أن الخليفة المعتصم بالله العباسي (218-227هـ)، استكثر الجند الترك على حساب العرب، وأصبح الترك هم صفوة جندِه، فأسقط الأعطيات التي كانت تُصرَف للعرب من بيت مال المسلمين نظير مشاركتهم في الأعمال العسكرية والحربية، وفقد العرب بذلك كثيراً من امتيازاتهم المالية والاجتماعية والعسكرية، لذا لجأ كثير منهم إلى الصحراء وأطراف الحدود، وقاموا بقطع الطرق والسلب والنهب لتحقيق المكاسب المالية، وتعويض ما حُرموا منه من العطاء.

ولمواجهة هذه الاعتداءات، لجأت الخلافة العباسية إلى تعيين “والي الطريق” على درب زبيدة، وكان يتقدم ركب الحج لتأمين الطريق أمامهم من المخاوف والأخطار المحدقة بهم، وكانت هذه المهمة تُسنَد إلى والي الكوفة أو والي الحرمين.

وعُيّن في هذا المنصب عدد من كبار القادة والأمراء الذين تصدّوا للأعراب، وضربوا على أيديهم، وشنّوا الغارات التأديبية عليهم، كما خاضوا المعارك مع القرامطة عندما كانوا يتعرضون للحجيج، ومن أبرز هؤلاء جعفر بن دينار الذي وُلّي طريق مكة سنة (239-244هـ)، من قبل الخليفة العباسي المتوكل، ومحمد بن عبد الله القمي، أحد القادة العباسيين، وقد تولى خفارة الحجيج في كثير من السنوات وتوفي سنة 250هـ، وفي خلافة المعتمد بالله العباسي (256-279هـ) عقد لأخيه وولي عهده الأمير الموفق بالله على الكوفة وطريق مكة والحرمين سنة 257هـ.

درب الحج بعد سقوط بغداد في يد المغول

ومنذ سقوط بغداد في يد المغول سنة 656هـ، وحتى مطلع القرن العاشر الهجري، وهي الفترة التي تقابل العصر المملوكي في مصر والشام، تعاقب على حكم العراق المغول الإيلخائيون، ثم الجلائريون، ثم التيموريون، ثم تركمان قبيلة قراقيونلو، ثم تركمان قبيلة آق قيونلو، وأخيراً الصفويون. وخلال تلك الفترات اتسمت أحوال العراق بكثرة الحروب والفتن الداخلية التي نشبت بين هذه الأسرات المتعاقبة، ما ترتب عليه عدم انتظام خروج قافلة الحج العراقي وانقطاع الحج على هذا الدرب في معظم السنوات، حسب ما تذكر آمنة حسين في دراستها “طرق الحج ومرافقه في الحجاز في العصر المملوكي”.

لم يكن درب زبيدة يُستخدَم إلا عندما كانت تستقر الأحوال في بغداد بما يسمح بتسيير قافلة الحج، مثلما حدث سنة 720هـ، عندما سيّر سلطان المغول أبو سعيد خربندا، قافلةً بعد الصلح بينه وبين سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون

وفي أحيان كثيرة كان حجاج العراق وخراسان وفارس وبقية بلاد المشرق الإسلامي يتوجهون إلى الشام لتضمّهم قافلة الحج الشامي، بحسب حسين.

ولم يكن درب زبيدة يُستخدَم إلا عندما كانت تستقر الأحوال في بغداد بما يسمح بتسيير قافلة الحج، مثلما حدث سنة 720هـ، عندما سيّر سلطان المغول أبو سعيد خربندا، قافلةً بعد الصلح بينه وبين سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون. وما أن مات خربندا سنة 736هـ، حتى اضطربت أحوال العراق مرةً أخرى، وتوقفت قافلة الحج العراقي لمدة إحدى عشرة سنةً متتاليةً.

وتذكر حسين، أنه خلال النصف الثاني من القرن الثامن الهجري والقرن التاسع الهجري، قلّ استخدام هذا الطريق، كما قلّت أعداد الحجاج السالكين له.

وبحسب سامي الصقار، في دراسته “درب زبيدة أبزّ طرق الحج في التاريخ”، استمر الحُجاج في استخدام هذا الطريق حتى أواخر العصر العثماني، لكنه تعطل بعد ذلك وصار حجاج العراق يستقلون البواخر من البصرة إلى جدّة، غير أن الحكومة العراقية أعادت فتحه، وعقدت اتفاقيةً مع الحكومة السعودية سنة 1353هـ/1935م، لاستخدام السيارات عبره، برغم أنه لم يكن مُعبّداً.

محمد شعبان

موقع رصيف 22