يكرس الأداء الإعلامي والسياسي الفرنسي صورة نمطية للضواحي والأحياء المهمشة على يد الدولة، وبدلاً من كسر هيمنة نعوت تعميمية إقصائية، يعاد إنتاج صور تجعلها وأهلها خارجين على القانون رغم كونهم ضحايا الفقر والفشل.
– اعتادت العشرينية الجزائرية فرح حاميتوش على رؤية مشهد إيقاف الشرطة الفرنسية لشبان من أصول عربية وأفريقية أثناء المرور في بلدة أرجنتوي، شمال غربي باريس والتي يتركز فيها المهاجرون، “بدون سبب محدد، ولمجرد الشك”، أوضحت حاميتوش التي تقيم في فرنسا منذ ثلاثة أعوام للدراسة أن “المارة عندما يرون خضوع هؤلاء الشبان للتفتيش باستمرار، تترسخ في أذهانهم صورة تصمهم بأنهم خارجون على القانون، والتكرار جعل عقول الناس جاهزة لتقبل رواية أن ضواحي ومدنا برمتها صارت بؤرا للجريمة”.
ومن بين هذه المدن تراب Trappes الواقعة جنوب غربي باريس والتي تتسابق وسائط إعلامية فرنسية على وصفها بأنها باتت “معقلا للجهاديين” أو نموذجا على “تغلب الإسلاموية على الجمهورية” فيما تساءل صحافيون ما إذا كانت قد دخلت في عداد “الأراضي الفرنسية المفقودة” أو هل “تخلت الجمهورية عن تراب دون قتال؟”، وهو ما أكده كتاب الأمين العام لحزب “جمهورية – تضامن” ديديه لومير، الصادر في سبتمبر/أيلول 2021 بعنوان “رسالة فارس من الجمهورية”، والذي حظي بتغطية إعلامية ملحوظة، بعدما أثار المخاوف من “أسلمة المدن الصغيرة” (عدد سكان تراب 33419 نسمة استنادا إلى إحصاء سكاني أجراه المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية عام 2020)، ما يؤدي إلى نشوء جيل غير منتم إلى فرنسا والعبور من الجهاد الفردي إلى الجماعي، رابطا الأمر بتجربته أستاذا للفلسفة في ثانوية “بلان- دو- نوفل” الكائنة في تراب.
كيف بنت الدولة صورة الضواحي في عقول الناس؟
يلمس الفرنسي من أصل تونسي وسام دشراوي، من خلال عمله في مجال العقارات الممتد منذ عام 2010، تعمدا منهجيا لتشويه صورة الضواحي والأحياء التي تقطنها نسبة كبيرة من المهاجرين أو الفرنسيين المتحدرين من أصول أجنبية، سواء من العرب أو الأفارقة، إذ يجري تصويرها إعلاميا على أنها معقل جماعات متطرفة وتحكمها قوانينها الخاصة.
والأخطر أن “الدولة تراها وعاء لمعظم علل المجتمع الفرنسي بسبب تكرار أعمال العنف، رغم ما فرضته على سكانها من ظروف حياتية واقتصادية ومسؤوليتها تجاههم، وهو ما يصب في سياق “التمييز العنصري العرقي”، ومهد لتشكيل الغيتوهات التي تضم السكان الأكثر إقصاء”، في سلسلة من آليات للفصل بناء على العرق والمنطقة والطبقات الاجتماعية”، بحسب ما فصله الباحث سيبريان أفينيل في دراسته بعنوان مشكلة الضواحي “بين الفصل والوصم”، والمنشورة في المجلة الفرنسية للطب النفسي عام 2009، مشيرا إلى أنها أصبحت رمزا للبطالة وأعمال الشغب والانحراف والعنف، وكل المشاكل التي يجري إلصاقها بالمهاجرين.
وخلقت حالة الوصم السابقة مخاوف من الضواحي وسكانها، يعبر عنها الفرنسي من أصول صينية جيل زينغ والذي يعمل سائق أجرة ويقيم في مدينة تراب منذ خمسة أعوام، وحتى اليوم يتجنب دخول أحياء معينة لما يكرره الإعلام حول تفشي تجارة المخدرات وانتشار عصابات السرقة التي تستهدف المحال التجارية والممتلكات الخاصة بها، مستدركا بأن أحياء في المدينة تحولت إلى ما يشبه “الجزر المعزولة” وسكانها في غالبيتهم من المهاجرين مثل ميريزييه Merisiers في وسطها، والذي يخشى دخوله، لارتباطه في ذهنه بالتطرف والمشاكل.
وتشاركه الأربعينية آني بارو ذات الهواجس، رغم أنها لم تتعرض لأي مضايقات من جيرانها المهاجرين أو من الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية، لكن ما يثير قلقها “تعاظم قوتهم الاجتماعية، وتغلغل هذه الشريحة في تراب ما غيّر من وجهها بعد انتشار أنشطة تجارية تعكس ثقافة مغايرة مثل محال الجزارة الحلال، في المقابل، عزف الفرنسيون عن الاستثمار فلم يعد بالمدينة متجر لبيع الأجبان الفرنسية على سبيل المثال”، وهو ما تربطه بتضخيم صورة إعلامية محددة لتراب مرتبطة بتنامي الأفكار المتطرفة، ما حدّ من جاذبيتها على الصعيد التجاري، “لتنقسم المدينة إلى مجتمعين قابلين للتصادم في أية لحظة”، على حد تصورها.
تبعات الوصم والتهميش
ما يتعرض له أبناء الضواحي المهمشة من وصم له تبعات خطيرة، وفق تقديرات الأستاذ في معهد العلوم السياسية بمدينة ليون جنوب شرق البلاد، والباحث المتخصص في دراسة علاقة الدولة الفرنسية بالإسلام والمسلمين حواس سينيغير، مبينا لـ”العربي الجديد” أن بروز التطرف وارد وغير مستبعد ولكنه ليس سلوكا تلقائيا، إذ يمكن أن تنمو داخل الفرد رغبة بتحدي الدولة ومؤسساتها لا سيما الأمنية ما يدفعه إلى سلوك طريق الإجرام، أو قد يتعزز انتماؤه إلى محيطه الجغرافي ويستكمل حياته على نحو مسالم داخل “مجتمع مواز”، والسيناريو الآخر، الخروج من هذا المحيط وإثبات الذات مثل أي فرنسي ترعرع خارج الضواحي، “لكن يبقى الإحساس بالمرارة القاسم المشترك بين كل تلك الحالات”.
ويعطي الباحث سينيغير أمثلة متعددة على وصم أبناء الضواحي، على يد سياسيين وإعلاميين يشاركون في السجالات المستمرة حول البوركيني والأغذية الحلال ومنع ارتداء العباءة في المدارس، والأخطر ربط الرئيس ماكرون بين ارتفاع معدلات الجريمة والهجرة. والقاسم المشترك بين تلك الحوادث، انتهاج الدولة الفرنسية سياسة “الشك بالمسلمين” التي أتى على ذكرها في كتابه الصادر عام 2022 بعنوان “الجمهورية الاستبدادية: إسلام فرنسا ووهم الجمهورية”، معتبرا أن وصم المسلمين القاطنين في فرنسا ليس مؤامرة بقدر ما هو تعبير عن أزمتين، ثقافية لعدم تقبل الآخر المختلف، والثانية سياسية وسببها عجز السلطة عن تشخيص التحديات وتحديد أولوياتها، وبالتالي لم تواجه الرواية القائلة إن المسلمين القاطنين في الضواحي تهديد أمني وهو ما يترسخ في أذهان الفرنسيين من خلال الإعلام والممارسات اليومية لممثلي السلطة.
تناقضات الصور النمطية
عبّد انتشار صورة سلبية للضواحي وسكانها، الطريق أمام وصمها بالإرهاب والتطرف حتى تحولت إلى مصدر خوف وقلق للفرنسيين والدولة، بحسب ما رصده كزافييه كريتييه، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فرساي-سان-كانتان وأحد الباحثين المساهمين في دراسة سوسيولوجيا الجهاد الفرنسي التي أعدت بالتعاون بين مديرية إدارة السجون ومعهد العلوم السياسية (تعليمي بحثي) في بلدة سان جيرمان أون لاي الواقعة في الضواحي الغربية لباريس، وشملت 350 معتقلا بتهم إرهابية، ونشرتها وزارة العدل في ديسمبر/كانون الأول 2022.
%32 من الناخبين يميلون إلى أطروحات اليمين المتطرف
وتكشف النتائج عن “وجود عوامل تدفع إلى التطرف لكن لا يمكن تعميمها واعتبارها قاعدة ثابتة، ورغم أن 54% من أفراد العينة ينحدرون من أسر فقيرة، لكن لا يعني ذلك أن سوء الأحوال الاقتصادية مرادف للتطرف، كذلك الحال في ما يخص التهميش السياسي والاجتماعي وقلة اندماج الأجيال اللاحقة من أبناء المهاجرين. ورغم قدوم حاملي الفكر المتطرف من أحياء شعبية ذات كثافة سكانية عالية في باريس وضواحيها، وإقليم فال دو مارن شرق العاصمة، ومدينة ليون، وإقليم ألبيس ماريتميس جنوب شرق فرنسا ومدينة تولوز جنوب شرق البلاد ومدينة ستراسبورغ وضواحيها شرقا، لكن في الوقت ذاته، نجد أن مدنا كبرى مثل مرسيليا الواقعة على ساحل فرنسا الجنوبي ومدناً ساحلية مثل لاروشيل، والتي تضم العديد من الأحياء الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وتتوفر فيها كل الظروف كي تتحول إلى معقل للمتطرفين، سجلت أعدادا أقل من أصحاب الفكر المتطرف، ما يؤكد أن العلاقة بين الحياة في الضواحي ونمو التطرف ليست في تناسب دائما، وأن التطرف تعبيرعن سخط اجتماعي وليس غاية”.
وتكشف الدراسة أن 68% من عينة البحث (238 مسجونًا) فرنسيون، في حين يحمل فقط 32% منهم جنسيات أخرى (112 مسجونًا شاملين الفرنسيين مزدوجي الجنسية).
لكن تلك الدراسة لم تحظ بالانتشار والترويج ذاتيهما اللذين تحققهما أفكار الوصم، ولم يسمع بها عبد العزيز صافتي المولود في تراب والذي تساءل عن “لماذا تستقبل فرنسا الخائفة من العرب والمسلمين سائحين من تلك البلاد بصدر رحب فيما تنبذنا وتصر على تشويه صورتنا، رغم أننا فرنسيون ونتشارك مع هؤلاء السائحين ذات الديانة؟ هل لأنهم مقتدرون ماليا أكثر منا؟” ولم يكد عبد العزيز ينهي مقارنته تلك حتى سارع سفيان بوعناني إلى مقاطعته: أنت مخطئ يا صديقي، الدولة الفرنسية تتعمد تشويه صورتنا ووصمنا بالتطرف للتغطية على فشلها في توفير حياة كريمة لنا”.
ملايين المحرومين والموصومين
منذ عام 2014، حدّدت الدولة 1514 حيا فقيرا عرّفتها بأنها “ذات أولوية” لسياسة المدينة التي تتضمن مشاريع تستهدف السكان المعزولين، وفي 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، صدر مرسوم رقم 1314 المتعلق بتعديل قائمة المناطق ذات الأولوية في المديريات الحضرية، وضمت اللائحة 1362 حيا، يعيش فيها 5.4 ملايين شخص، أي نحو 8.2% من السكان، وهؤلاء يشكلون 13% من الباحثين عن عمل، إذ يزيد معدل البطالة في هذه المناطق بثلاثة أضعاف عن المعدل الوطني، وفق بحث “التشغيل والتنمية الاقتصادية لمصلحة سكان الأحياء”، والذي نشرته وزارة البيئة والتماسك الإقليمي في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
ويتركز عمل غالبية الفئات التي تقطن أحياء الضواحي تلك، في المهن التي تحتاج عمالا غير مهرة، ويعانون من انعدام الأمن المالي بشكل أكبر، وعانت هذه الأحياء في فترة الانتقال إلى اقتصاد الخدمات والابتكارات، وأصبحت الوظائف الجديدة تتطلب مستوى عاليا من التأهيل، ما زاد من استبعاد الأيدي العاملة غير المتخصصة ورفع نسب البطالة في صفوفهم، حتى أمسى الأمر واحدا من الأسباب الرئيسية للفصل الحضري، بحسب دراسة مشكلة الضواحي.
ويبين تقرير مشترك صدر في يونيو/حزيران 2020 عن الوكالة الوطنية لتماسك الأقاليم (هيئة حكومية مكلفة بتطبيق سياسة المدينة) ومركز الدراسات والأبحاث حول المؤهلات الدراسية (إدارة حكومية تُعنى بدراسة متطلبات سوق العمل) بعنوان: ماذا يحدث للشباب من المناطق ذات الأولوية بعد الثانوية؟، “أنهم لا يتمتعون بنفس المستوى التعليمي الذي يحظى به أقرانهم في الأحياء الأخرى، إذ تنعكس الخلفية الاجتماعية على التحصيل العلمي خاصة لمن ولدوا في عائلات مهاجرة أو ذات مستوى اجتماعي متواضع كما أن ضعف الموارد في تلك الأحياء يعيق السلطات المحلية عن الاستثمار في القطاع التعليمي على النحو المطلوب”.
“ورغم محاولات الدولة إصلاح الأمر عبر تدخلات من ضمنها سياسة المدينة، لكنها ركزت فقط على تجديد المباني السكنية والبنى التحتية وفشلت في خلق بيئة استثمارية توفر فرص عمل للسكان”، كما رصد حكيم القروي، الباحث السياسي الفرنسي، تونسي الأصل في معهد مونتين، ومعدّ دراسة “الأحياء الفقيرة لديها مستقبل” الصادرة عن المعهد في أكتوبر/تشرين الأول 2020، محذرا مما كشفته نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2022، من أن 32% من الناخبين يميلون إلى أطروحات اليمين المتطرف، التي تُحمِل المهاجرين أو الفرنسيين من أصول مهاجرة مسؤولية “مآسي فرنسا”.
وفي ردها على “العربي الجديد” اكتفت الوكالة الوطنية لتماسك الأقاليم بالقول إن “مكافحة التطرف ليست الدافع وراء إطلاق تلك السياسة بالتالي فهي ليست الجهة المعنية بالرد، بينما تذرعت اللجنة الوزارية لتفادي الانحراف والتطرف (تتبع رئاسة الوزراء) بأنها ليست مخولة بالتحدث باسم الدولة الفرنسية لوسائل الإعلام ويقتصر دورها على التنسيق بين الجهات المختلفة في العمل على ملف مكافحة التطرف.
إعلام يصنع ويعزز الصورة النمطية
يربط بوعناني المقيم في تراب ويعمل فيها، بين الصورة التي أصبحت مترسخة في أذهان الناس عن ضواح معينة بأنها حاضنة للمتطرفين، ودور وسائل الإعلام في تضخيم هذه الصورة والتركيز على أحداث معينة وتكرارها، مستذكرا مثالا على تراب بقوله إنه في إبريل/نيسان 2016، تداولت وسائل إعلام فرنسية تقارير مفادها أنه بين 60 و80 شخصا من سكانها التحقوا بتنظيم داعش، وكان الجميع يتابع ذلك الضخ الإعلامي بكثافة، ومن وقتها ألصقت وسائل الإعلام بهذه البلدة أوصافًا تدلل على التطرف.
وبالتالي ووفق منطق العرض والطلب، بادرت عدة وسائل إعلامية إلى توفير مساحات لهذا الخطاب بغرض مضاعفة المشاهدات، بحسب القروي، والذي ضرب مثالا، بتعاقد منصات إعلامية مع أصحاب الخطاب المتطرف كالمرشح السابق للانتخابات الرئاسية، إريك زيمور Eric Zemmour الذي أصبح ضيفا دائما أو مقدم برامج، لتتحول تلك المساحة الإعلامية الممنوحة له إلى منبر لتسويق أطروحاته لا سيما نظرية الاستبدال الكبير وعمادها أن المسلمين سيشكلون نصف سكان فرنسا في العام 2050 ما سيفضي إلى تلاشي “الشعب الفرنسي الأصيل”.
ولا تعد وسائل الإعلام المتهم الوحيد بتعزيز تلك الصورة السلبية وفق أفينيل، لكن باحثين يساهمون أيضا عن غير قصد في نشر تلك الصورة السلبية لتناولهم المكثف لحال تلك المناطق ما يمنح سندًا أكاديميًا للخطاب الذي يصم الضواحي وسكانها بكل ما هو سلبي، بما فيه الإرهاب والتطرف، حتى أن بوعناني ورفاقه اعتادوا على قراءة وسماع ومشاهدة ما يسيء إلى مدينتهم مدركين الهدف من ذلك وهو التعتيم على تقاعس أجهزة الدولة في توفير الخدمات لهم، ما عرقل اندماجهم في بلدهم التي لم تقم بدورها تجاههم.
حسن مراد
المصدر: صحيفة العربي الجديد