تنامي «الإسلاموفوبيا» يدفع بمسلمي فرنسا إلى الهجرة أو التفكير فيها

Spread the love
image_pdfimage_print

قبل نحو أسبوعين، تظاهر عدة آلاف من الأشخاص في شوارع العاصمة الفرنسية باريس «ضد العنصرية والإسلاموفوبيا» وذلك بعد حصولهم على تصريح قضائي بتنظيم هذا الاحتجاج، الذي قوبل في البداية بحظر من السلطات. وقبل نحو أسبوع، قدّم رئيس بلدية (Bourg-en-Bresse) المنتمي إلى الحزب الاشتراكي شكوى ضد «ملصق معاد للإسلام» منشور في مدينته، مستنكراً إياه بأكبر قدر من الحزم، ومشددا على ضرورة أن «يتوقف هذا الانجراف البغيض». يتعلق الأمرُ بملصق كتب عليه: «هل الإسلام يدعو إلى السلام؟». وخلال هذا الأسبوع، كان مسجد مدينة شيربورغ الفرنسية ضحية لتصرف اعتبر «معاديا للمسلمين» من خلال إشعال النار في سيارات كانت متوقفة في ساحة مقابلة للمسجد. وواقع الحال، أن هذه الأحداث وأخرى عديدة مماثلة لها تعكس تصاعداً مقلقاً لظاهرة الإسلاموفوبيا في فرنسا، وفق «التجمع ضد الإسلاموفوبيا في أوروبا « (CCIE) الأمر الذي ألقى بثقله على العديد من الفرنسيين المسلمين ودفع بهم إلى مغادرة البلاد أو التفكير بالقيام بذلك في المستقبل.

في تحليل لها، نشره موقع «أوريان21» الفرنسي، سلطت فيه الضوء على ما وصفتها بالحرب الثقافية على الطريقة الفرنسية بناءً على تجربتها في الولايات المتحدة، اعتبرت الباحثة جوسلين سيزاري، رئيسة قسم الدين والسياسة في جامعة برمنغهام البريطانية ومديرة الأبحاث في مركز بيركلي للدين والسلام والشؤون العالمية في جامعة جورج تاون، اعتبرت أن فرنسا تبدو ممزقة أكثر من أي وقت مضى بسبب انقسامات الهوية، التي تتجاوز حدود اليمين المتطرف والعنصرية الواضحة. وأصبح فيها النقاش حول الإسلاموفوبيا على مدى السنوات الخمس الماضية مريرا للغاية، وأقل أكاديمية وأكثر سياسية، وفق الباحثة.
في الواقع، تشهد فرنسا في السنوات الأخيرة ما أطلقت عليه وسائل إعلام فرنسية «هروب النخب المسلمة» الفرنسية، بمن فيهم أطباء ومهندسون وأساتذة ورواد أعمال وتجار وكوادر في الوظيفة العمومية…إلخ، وذلك بسبب تعرضهم المتزايد للتمييز في سوق العمل والوصم بسبب دينهم أو أسمائهم أوأصولهم، الأمر الذي يدفعهم بشكل متصاعد إلى مغادرة الأراضي الفرنسية من أجل تجربة مغامرة جديدة في بلدانهم الأصلية أو بلدان أخرى. وهو أمر كانت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية قد تحدثت عنه في مقال لها في شباط/فبراير عام 2022 حمل عنوان: «الرحيل الصامت للمسلمين عن فرنسا».

زيادة بـ 40 في المئة للحوادث الإسلاموفوبية

«التجمع ضد الإسلاموفوبيا في أوروبا « (CCIE) كان قد سلط الضوء، في تقرير له نُشر بداية شهر آذار/مارس المنصرم، على زيادة مثيرة للقلق في الأعمال المعادية للإسلام في فرنسا في العام الماضي 2023 الذي شَهد الإبلاغ عن حوالي 830 حادثة «إسلاموفوبية» مقارنة بنحو 530 في العام الذي سبقه، أي عام 2022 الأمر الذي يشكل زيادة سنوية بنسبة 57 في المئة. ويمكن ملاحظة هذا الاتجاه التصاعدي المثير للقلق في ظاهرة الإسلاموفوبيا في فرنسا بشكل خاص في نظام التعليم، حيث تعرض قانون 2004 الخاص بالرموز الدينية في المدارس للانتقاد لأنه فتح الطريق أمام التمييز ضد الطلاب المسلمين. وقد تم في عام 2023 الإبلاغ عن حوالي 300 من الحوادث المعادية للإسلام في البيئة التعليمية، وهو ما يمثل 40 في المئة من مجمل التبليغات في فرنسا.
كما لوحظت زيادة كبيرة في حالات التمييز، لا سيما التحرش الأخلاقي، والاعتداءات ضد المسلمين، ولا سيما النساء والمؤسسات الإسلامية. وتتعلق هذه الأرقام حصريًا بحالات كراهية الإسلام، وتعكس واقع الإسلاموفوبيا في فرنسا، وزيادة الوعي واستعداد الضحايا والشهود للإبلاغ عن الأفعال المرتبطة بها. وقد أوضح جيرار دارمانان في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي الأشكال التي تتخذها هذه الأعمال المعادية للمسلمين: «المساجد التي تتلقى رسائل تهديد بالقتل، وتهديدات بالهجوم، والعديد من التصريحات المناهضة للإسلام، بما في ذلك على أجهزة التلفزيون». لكن وزير الداخلية لم يحدد نسب هذه الأنواع المختلفة من الوقائع. ويرى العديد من الأشخاص أن «الأجواء الإسلاموفوبية» هذه تزايدت منذ اعتداءات باريس الإرهابية عام 2015 وهو شعور تزايد بشكل أكبر منذ الهجوم المميت وغير المسبوق الذي شنته حركة حماس الفلسطينية، المصنفة جماعة إرهابية من قبل فرنسا، على الأراضي الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/اكتوبر عام 2023.

«مهما فعلت،
سأظل مسلماً وعربيا»

في ظل هذا السياق، كشفت صحيفة «لوموند» الفرنسية ذائعة الصيت في تحقيق لها نشرته قبل نحو ثلاثة أسابيع، كشفت أن العديد من الفرنسيين المسلمين «المستقرين جيداً» بمن فيهم مصرفيون ومهندسون وموظفون حكوميون وأساتذة وفنانون.. إلخ، باتوا يُفكّرون بشكل متزايد بالهجرة خارج فرنسا، وذلك بسبب التمييز بحقهم على أساس الدين والعرق. وتنقل الصحيفة عن أحد هؤلاء المسلمين قوله: «مهما فعلت، سأظل مسلماً وعربيا». على نفس المنوال، تحدث لـ«لوموند» هارون، البالغ من العمر خمسين عاماً، خريج كلية التجارة المرموقة، بقوله: «مهما فعلنا، ومهما بذلنا من جهود، ومهما كانت مهاراتنا، فنحن مرتبطون بأصولنا وهويتنا المذهبية، وتتم عرقلتنا في حياتنا المهنية. لم أحصل على المهنة التي كان ينبغي أن أتمتع بها».
ويقول يوسف، البالغ من العمر إثنين وستين عاما، وهو موظف حكومي وناشط اجتماعي: «الجمهورية التي نحبها لا تحبّنا. أخبرنا آباؤنا أننا لسنا في بلدنا، وأننا مجرد ضيوف، لكننا لم نرغب في تصديقهم. ومع ذلك، يجب علينا اليوم أن نعترف بأننا غير شرعيين في فرنسا». ولا يخفي العديد من المسلمين الفرنسيين انزعاجهم من الخطابات المعادية لهم في بعض وسائل الإعلام. في ظل هذه الظروف، يفكر الكثير من الفرنسيين المسلمين بشكل متزايد في الهجرة، بعد أن غادر الآلاف. ولا يتعلق الأمر بالضرورة بالذهاب إلى المنفى في بلد مسلم، بل باختيار العيش في بلد حيث ستتاح لهم نفس الفرص التي يتمتع بها أي مواطن آخر يتمتع بمهارات متساوية. فما نشهده اليوم هو «هجرة صامتة للكوادر في صفوف الفرنسيين المسلمين» والذين قرروا مغادرة فرنسا بألم جراء التمييز ضدهم، كما يرى باحثون اجتماعيون.

استهداف ممنهج

الباحث في الفلسفة السياسية، رامي الخليفة العلي، المقيم في باريس، اعتبر، في تصريح لـ«القدس العربي» أن فرنسا تشهد في الفترة الأخيرة استهدافاً متزايداً ومتواصلاً وممنهجاً ومبرمجا للأقلية المسلمة والعربية، لاسيما من قبل السياسيين خاصة في الفترات الانتخابية. كما رأى الباحث أن وسائل الإعلام الفرنسية تلعب دورا كبيرا في تشويه صورة العرب والمسلمين، وبشكل شبه يومي، وهو ما كان له تأثيره على العديد من المواطنين الفرنسيين. هذا الوصم المتزايد للمسلمين والعرب من الطبيعي أن يدفع بالبعض منهم، لاسيما أولئك الذين لديهم القدرة والإمكانيات، إلى ترك البلاد أو التفكير بالقيام بذلك مستقبلا.
من بين هؤلاء إبراهيم، وهو فرنسي من أصول سنغالية، يعمل كمهندس في المعلوماتية. هذا الأخير، البالغ من العمر 40 عاما، غادر قبل نحو سبعة أشهر مع زوجته وأبنائه الثلاثة إلى العاصمة السنغالية دكار، مغتنما فرصة العمل عن بعد التي توفرها له الشركة الخاصة التي يعمل لديها. يروي لـ«القدس العربي» أنه وزوجته، ذات الأصول السنغالية هي الأخرى، «تعبا من الخطابات السياسية والإعلامية اليومية المعادية للإسلام» وقررا مغادرة البلاد، حيث ولدت الزوجة ودرس هو بعد حصوله على الباكالوريا.
علاوة على الانزعاج المتزايد من الخطاب السياسي والإعلامي، يَظل العمل إحدى نقاط التوتر الرئيسية بسبب عوائق التطوير والتدرج. فمثلا، في مداخلة على شبكة RMC أوضح أحد المستمعين (غريغوري) أنه ذهب إلى حد تغيير اسمه العربي، قائلا وبمرارة: «إذا كنت تريد التقدم في الوظيفة، فلا يجب أن تكون مسلماً».

« فرنسا تحبها ولكنك تتركها»

أثار صدور كتاب «فرنسا تحبها ولكنك تتركها» يوم السادس والعشرين من شهر نيسان/ابريل المُنصرم ضجة في فرنسا، في سياق سياسي يتميز بصعود قوي لليمين واليمين المتطرف. يستند هذا العمل، الذي كتبه الباحثون جوليان تالبين وأليس بيكار وأوليفييه إستيفيس، إلى مئة وأربعين مقابلة متعمقة مع فرنسيين مسلمين، اختاروا الاستقرار في الخارج بعد أن عانوا من مختلف أشكال التمييز المرتبطة بدينهم. جمع المؤلفون الثلاثة مئات الشهادات المشابهة لهذه. ومع ذلك، يعترف أوليفييه إستيفيس قائلاً «لقد وضعنا أصبعنا على واقع يصعب قياسه لأنه لا توجد أرقام رسمية». فقد اشتكى العديد منهم عن مناخ سياسي وإعلامي فرنسي يساهم في ارتفاع كراهية الإسلام والعنصرية بشكل عام. وتحدث 71 في المئة ممن شملتهم الدراسة عن «العنصرية والتمييز» و63 في المئة منهم طرحوا بشكل عفوي «صعوبة ممارسة وعيش دينهم بسلام».
بالنسبة إلى أليس بيكار، المؤلفة المشاركة والباحثة، فإن الأمر عبارة عن «جو إسلاموفوبي». إذ تعتبر هذه الأخيرة أنه حتى لو أخذنا النتائج بقدر من الشك، فيمكن الحديث عن أن العنصرية ضد العرب، كما هي معممة، إلى حد أن هذه الأقلية يجب أن تبقى في مكانها. فهناك انطباع بأنه عندما يصل هؤلاء الأشخاص إلى مناصب عليا فإنهم يواجهون أكبر قدر من التمييز، على حد قول الباحثة. وتلك هي حالة إدريس، المقيم حاليا في مونتريال، بكندا، والذي تنقل عنه صحيفة «20 دقيقة» الفرنسية، قوله: «عندما كنت أعمل في بلدي فرنسا، أدركت بسرعة أنني سأبقى عالقاً في مستوى معين، على الرغم من مستوى دراستي. لم أتعرض للتمييز، لكن كانت هناك تعليقات مستمرة حول أصولي. كنت أشعر دائمًا بنظرة مشبوهة». هذا الأخير، من الجيل الثالث لعائلة جزائرية. وقرر في عام 2020 مع كوفيد-19 الهجرة إلى كندا ولم يندم على ذلك: «أعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات وأتحمل مسؤوليات كبيرة. في فرنسا، لم يكن هذا ممكنا أبدا، ولا حتى في الحلم» كما يروي لصحيفة «20 دقيقة».

تنامي اليمين الشعبوي المتطرف

عد هذا الاتجاه المتنامي في فرنسا جزءًا من سياق أوروبي أوسع حيث يكتسب التطرف اليميني والخطاب المعادي للإسلام زخماً وتأثيرًا. فقد أدى صعود اليمين المتطرف إلى زيادة الخطابات والأفعال تجاه الأقليات، وخاصة المسلمين، وفقًا لـ«التجمع ضد الإسلاموفوبيا في أوروبا». وهو رأي يُشاطره الباحث في الفلسفة السياسية رامي الخليفة العلي، معتبراً أنه في سياق صعود الأيديولوجيات اليمينة الشعبوية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية، بات الخطاب العنصري الذي يستهدف الأقليات بشكل عام أمراً اعتيادياً ومقبولاً من قبل جزء كبير من الرأي العام في هذه البلدان بعد أن كان ممنوعا ومرفوضا ويتم استنكاره في السنوات الماضية.
الأسوأ من ذلك هو تحول أحزاب يمين ويَسار الوسط عمليا إلى أحزاب تتبنى أفكار اليمين الشعبوي، يقول الباحث في تصريح لـ«القدس العربي» عازياً ذلك إلى عدة أسباب، في مقدمتها الأزمات الاقتصادية. ويأسف عميد المسجد الكبير بمدينة ليون الفرنسية، كامل قبطان، لانعدام «التواصل».
وكان حزب «فرنسا الأبية» اليساري الراديكالي، بزعامة جان ليك ميلانشون، قد دعا، في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، الحكومة الفرنسية إلى تنفيذ خطة كبرى لمكافحة الإسلاموفوبيا في البلاد «في ظل تزايد الأعمال ضد الفرنسيين المسلمين، بتشجيع من أجواء العنصرية غير المقيدة» كما قال النائب البرلماني عن الحزب توماس بورتس، في بيان صحافي صادر عن حزبه.
في حين، تحدث رئيس الوزراء اليميني السابق، إدوار فيليب، والمرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة، في منتصف شهر أيلول/سبتمبر الماضي، تحدث عن أنه يجب أن يكون هناك «حق وتنظيم خاص بالمسلمين» في فرنسا، «مع التزامات خاصة مفروضة عليهم وعلى المسؤولين عن المجتمعات المسلمة» وذلك بمناسبة صدور كتاب له. وقد استنكر نحو خمسين شخصية فرنسية، بينهم أكاديميون وكتاب، ما وصفوه بـ«الانجراف الخطير» لإدوار فيليب، مشددين على أن قانون 1905 أقام فصلاً مزدوجاً، بين المؤسسات العامة والدين، وبالتالي فإن للأديان حرية تنظيم نفسها كما تشاء، كما يجب مساواة الأديان أمام القانون.

آدم جابر

امصدر: صحيفة القدس العربي