تحدث عن الإشراق ومات في عتمة السجن… اليسوع الإيراني شهاب الدين السهروردي

Spread the love
image_pdfimage_print

من هو شهاب الدين السُهْروردي؟ هل هو محيي الفكر الإيراني بعد ظهور الإسلام؟ أم هو الفيلسوف العلماني المسلم ذو الميول الصوفية؟ أم اليسوع الإيراني الذي قُتل في السجن عطشاناً وجائعاً وهو في الثامنة والثلاثين من عمره؟ أم هو أفلاطون الإيراني الذي كان يُعَدّ أحكم الناس في فكره السياسي؟

قد تكون هناك اختلافات كثيرة بين المفسرين في تفسير تراث السهروردي الأدبي والفلسفي، ولكنّ هناك شيئاً واحداً لا يختلف عليه اثنان، هو أن السهروردي كان من أعظم الفلاسفة في تاريخ إيران، وقد تأثر بفلسفته قاطبةُ المفكرين الإيرانيين، وتكمن أهمية فلسفته في تمكّنه من التوحيد والارتباط بين الحكمة الإيرانية القديمة والفلسفة اليونانية والفكر الإسلامي.

قيل عن السهروردي إنه بمثابة الشاعر الإيراني الكبير أبي القاسم الفردوسي، المعروف عنه إحياء اللغة الفارسية. فالسهروردي أيضاً أحيا الفكر الإيراني القديم والحكمة الإيرانية القديمة في العصر الإسلامي الذي كان فيه الفكر الإسلامي مهيمناً. كان السهروردي يؤمن باستخدام العقل، والاكتشاف والحدس عنده هما أعلى مصادر المعرفة؛ وبهذا كان على نقيض الفيلسوف والعالم ابن سينا، الذي لم يعدّ العقل مصدراً للمعرفة.

يعدّ السهروردي حكماءَ إيران قبل الإسلام وبعده، كبوذرجُمهر وزرادشت ومنصور الحلاج وأبي يزيد البسطامي، من بين أولئك الذين أتقنوا الحكمة بشكلها الصحيح، كما كان يرى أن بعض حكماء اليونان والهند والصين كانوا أسياد الحكمة

دافع السهروردي عن نظرية “المُثُل الأفلاطونية”، وبحسب فلسفته هناك جوهرة واحدة من الحكمة يتلقاها الحكماء ويقدمونها للناس، ومن لم يعرف هذه الحكمة ليس عالماً. كما أنه يعدّ حكماءَ إيران قبل الإسلام وبعده، كبوذرجُمهر وزرادشت ومنصور الحلاج وأبي يزيد البسطامي، من بين أولئك الذين أتقنوا الحكمة بشكلها الصحيح، كما كان يرى أن بعض حكماء اليونان والهند والصين كانوا أسياد الحكمة.

والمعروف عن السهروردي أنه ممثل أفلاطون في الفلسفة الإسلامية، ويُعدّ في الوقت نفسه متصوفاً كبيراً جمع بين المنطق والفلسفة والحكمة والتصوف، بعدّه “السلوك الفلسفي” جزءاً من السلوك الصوفي. كما نقل السهروردي الفلسفة القائمة على النور والظلام من الفكر الإيراني القديم إلى الثقافة الإسلامية، وبنى فلسفته على فكرة تعارض النور والظلام.

أفلاطون أو المسيح… السهروردي الفيلسوف والأديب الإيراني

وُلد شهاب الدين عام 1155، في قرية سُهْرَوَرد الواقعه حالياً في محافظة زَنجان، شمال غرب إيران، ولهذا عُرف بشهاب الدين السّهروردي. درس في مدينة مراغة القريبة من زنجان، وشملت دراسته الحكمة والمنطق وأصول الفقه، ثم ذهب بعد ذلك إلى أصفهان التي كانت آنذاك أهمّ مركز علمي وفكري في إيران.

بعد أن أنهى تعليمه في أصفهان، تجول في إيران والتقى بالعديد من المتصوفين، وتعرف على التصوف والباطنية، وهكذا أصبح مفتوناً بالصوفية، فقضى فترات طويلةً في الخلوة والتأمل.

بعد ذلك وسّع السّهروردي أسفاره خارج إيران ووصل إلى الأناضول والشام، وبحسب الوثائق، فإنه كان مفتوناً بمناظر الشام الخلابة، وهذا الأمر تسبب في أن يكثر من تجواله هناك، حتى أنه ذهب في إحدى رحلاته من دمشق إلى حلب، حيث التقى بنجل صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر غازي.

المعروف عن السهروردي أنه ممثل أفلاطون في الفلسفة الإسلامية، ويُعدّ في الوقت نفسه متصوفاً كبيراً جمع بين المنطق والفلسفة والحكمة والتصوف.

كان الظاهر غازي يحب الصوفية والطريقة الصوفية بشكل كبير، وفُتن بالسهروردي منذ البداية، وطلب من هذا الحكيم الشابّ البقاءَ في بلاطه في حلب. بكلّ سرورٍ قَبِل السهروردي، الذي كان يحب المناظر الطبيعية في ذلك البلد، عرضَ غازي وبقي في بلاطه، وفي أثناء مكوثه في مدينة حلب، ألّف كتابه الفلسفي العظيم “حكمة الإشراق”.

كان السهروردي صريحاً لا يخشى من التعبير عن آرائه الفقهية. بلهجته الحادة كان يلذع علماء الإسلام المتزمتين، ما تسبب في إثارة استياء فقهاء الطبقة الشعبية، الذين لم يهتموا إلا بالمسائل الشرعية الظاهرية للدين، إذ عدّوا كلامه مخالفاً لمبادئ الإسلام، إلى درجة أنهم شجعوا الظاهر غازي على قتله، وغازي الذي كان مخلصاً جداً للشيخ شهاب الدين، لم يهتم في البداية برغبات الفقهاء.

بحسب العالم والمؤرخ الإيراني عماد الدين الكاتب، الذي رافق صلاح الدين في الحروب الصليبية، فإن السهروردي سُئل عن مشيئة الله في جلسة المناقشة التي أُعدّت له: “هل الله قادر على اختيار نبي آخر بعد الرسول الخاتم؟”، فأجاب: “إن الله على كل شيء قدير، وقدرته لا تقبل الحدود”. بعد إجابته هذه، تمرّد عليه اثنان من علماء الدين الشافعيين ووصفاه بالملحد، وحرّض هذان العالمان الظاهر غازي على التخلص من السهروردي بسبب الانحراف الفكري، لكن غازي لم يولِ أي اهتمام برأيهما، فخاب أملهم فيه، وأرسلوا تقريراً عن هذه الحادثة لصلاح الدين الأيوبي، فانزعج. وبما أنه كان يحتاج إلى مساندة العلماء لتثبيت حكمه، أرسل أمراً في رسالة إلى ابنه الملك ظاهر، بقتل السهروردي.

سُجن السهروردي وحُرم من الطعام، ومات بعد فترة من الجوع والعطش. موت السهروردي في السجن بهذه الطريقة، يذكّرنا بموت المسيح على الصليب. خرج جثمان السهروردي من السجن في آخر جمعة من شهر ذي الحجة سنة 587 هـ.

فلسفة الإشراق

كان السهروردي يكنّ احتراماً خاصاً للفلاسفة اليونانيين، وعلى وجه الخصوص فيثاغورس وأفلاطون، إذ وصف أفلاطون بأنه “إمام الحكمة” وزعيم الحكماء المستنيرين، كما أشاد بدرجة أرسطو العلمية، عادّاً أفلاطون مصدرَ إلهامه، وأولى السهروردي اهتماماً خاصاً بالحكمة الفارسية والزرادشتية، وأخذ بعض محتويات ومصطلحات الحكمة التنويرية من مصادر كالأفستا والبهلوية، إلى درجة أنه ذكر في كتابه “حكمة الإشراق”، زرادشت، باسم “الحكيم الفاضل” وقدّم نفسه على أنه “مجدد الحكمة الإيرانية القديمة”، وحكيم مسلم له مؤلفات في الفقه الإسلامي وتفسير السور القرآنية.

يشرح السهروردي العوالم القائمة على النور والظلام في كتاب “حكمة الإشراق”، مستلهماً الفكر الزرادشتي، ووفقاً لآرائه، حقيقة الإنسان بسيطة ومضيئة، وأسباب خلقه يجب أن تكون بسيطةً وخفيفةً، بحيث يكون الفرق بين الإنسان والخالق في قوة النور، ومن وجهة نظره، فإن الجسد والأشياء المادية الأخرى هي الظلمة.

ولدى السهروردي، اصطلاح يُسمّى بـ”نور الأنوار”، وهذا المصطلح واجب الوجود، يثبته كالتالي من خلال شرحه؛ “مبدأ الإنسان من النور، وبما أن سطوعه ليس من ذاته، فهو يحتاج إلى غيره، والذي يكون مصدر النور؛ ومن هذا المنطلق فإننا نصل إلى النور الذي لا يحتاج إلى مبدأ آخر، وهنا يمكن القول إن هذا النور هو ’نور الأنوار’”. ومن وجهة نظر السهروردي فإن الله هو نور الأنوار.

الحكمة الخُسروانية أو المشرقية

“الحكمة الخسروانية” (حكمت خسرواني)، أي حكمة الملوك هي فلسفة إيرانية قديمة، يُطلَق على مفكريها اسم حكماء الخسروانية أو ملوك الفكر. تم التعرف على حكمة خسرواني وكشفها في فلسفة التنوير على يد السهروردي في ما يتعلق بالفلسفة الإسلامية، وكلمة “الخُسروان” تعني حكمة الملوك في الفارسية. بحسب السهروردي كان الخسروانيون متصوفين يعبّرون عن الحقائق بعد الفهم بالاكتشاف والحدس، وذلك من خلال لغة الأسرار وتحت ستار “النور والظلام”.

سُجن السهروردي وحُرم من الطعام، ومات بعد فترة من الجوع والعطش. موت السهروردي في السجن بهذه الطريقة، صار يذكّر بموت المسيح على الصليب

وكان السهروردي أول من ذكر مصدر التصوف الإيراني في العصر الإسلامي، ويقول إنه وصل إلى جوهر الفكر الخسرواني من خلال أربعة مفكرين، هم أبو يزيد البسطامي وأبو الحسن الخرقاني ومنصور الحلاج وأبو العباس القصاب الآملي، ووفقاً للسهروردي، تعود جذور الصوفية إلى زمن أقدم بكثير من زمن هؤلاء الصوفيين المسلمين، ويمكن إرجاعها إلى زرادشت واثنين من أتباعه، جاماسب وفرشاد شور.

الفكر السياسي

يعتمد النظام السياسي الذي يرسمه السهروردي، على حُكم الأشخاص الأكثر معرفةً في المجتمع، والذين يكونون على قمة هرم السلطة، ففي مثل هذا النظام يوجد حكيم يفهم متطلبات واحتياجات مجتمعه كافة. نظام السهروردي السياسي يأتي ضمن نظامه الفلسفي، الذي يقوم على حكمة التنوير، وهو في الواقع توسيع لحُكم التصوف في العالم.

والسهروردي يرى أنه إذا كانت القيادة الحقيقية للعالم في أيدي الحكماء، فإن عهد ذلك الحكيم سيكون مشرقاً للغاية، وعلى العكس من ذلك، عندما يخلو العالم من حكمة الحكماء، سيَعمّ الظلام على العالم وشعبه. إن وجهة نظر السهروردي هذه، تذكرنا بوجهة نظر أفلاطون، التي تعتمد على الحكم الشعبي، وترفض الحكم الاستبدادي الذي يسحق المصالح العامة في المجتمع.

فريد قدمي

المصدر: موقع رصيف 22