شكلت الحرب ما بعد طوفان الأقصى نقطة تحول في إعادة تفعيل برنامج الاغتيالات الأمريكي الإسرائيلي. وشهدت المنطقة مجموعة من العمليات المتتالية التي شكّلت حلقات متسلسلة في استهداف قوى المقاومة. بيد أن اللافت أنها بدأت في الشهر الثالث من الحرب على غزة، أي بعد مضي شهرين على الحرب دون تحصيل إنجاز عسكري ولا أمني داخل فلسطين؛ فكان قرار الاغتيال وتحقيق إنجاز ولو خارج رقعة القتال والنزاع.
ماهي آثار الاغتيال الواقعية؟
يؤشر اللجوء إلى عمليات الاغتيال في الشهر الثالث من الحرب على غزة إلى ضعف رصيد منجزات الكيان في الحرب العسكرية وعجزه عن ردم الهشاشة التي كشفها طوفان الأقصى، وانكشاف دوره الوظيفي في المنطقة. لذا، يسعى الكيان إلى مراكمة النقاط بكل الوسائل المتاحة مستفيداً من القدرات التكنولوجية المتقدّمة والدعم الأمريكي غير المسبوق.
يشير تقييم آثار استراتيجية الاغتيال أو قطع الرأس إلى هشاشة الفعالية. ويعترف المراسل العسكري الإسرائيلي، ألون بن ديفيد، في مقالة له في صحيفة معاريف، أن سياسة الاغتيالات “لا تؤدي إلى إنهاء ظاهرة قيادات المقاومة والنشطاء الفلسطينيين، بل إلى استبدال آخرين بهم”، وأنها قد تقود إلى نتائج عكسية وإلى “تغذية دوامة الدم والعنف وتوسيعه”، بحسب تعبيره.
وفي تجربة المقاومة في لبنان، أثبت اغتيال السيد عباس موسوي، أمين عام حزب الله السابق، والحاج عماد مغنية والحاج مصطفى بدر الدين والحاج حسان اللقيس، وغيرهم من القادة الميدانيين أن الاغتيال قد ينجح في توليد اهتزازات لكنها لا ترقى أن تصبح حالة، بل على العكس تستنفر العزيمة والطاقات والإصرار نحو مزيد من التماسك والتنامي وزيادة القدرات، وفي ذلك يقول ألون بن دافيد لقد حوّل السيد حسن نصر الله الذي خلف السيد عباس، ” الحزب من جماعة صغيرة إلى جيش منظم”. وقد أثبتت تجربة المقاومة على مدى الأربعين عاماً الماضية أنها ظاهرة متجذرة في الفكر والعقيدة والوعي المجتمعي، وأنّ أيًّا من اغتيالات القادة لم توقف المسار التراكمي لبناء القوة والردع.
التأثير التراكمي لمسار الاغتيالات
لم تنجح عمليات الاغتيال في الحدّ من عزيمة المحور على إكمال عملية بنائه، إنّ هذه التجارب هي جزء من مسيرة المحور برمته، لا سيما، استشهاد الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس، وغيرهم من القادة الميدانيين في سوريا والعراق وإيران. واليوم، بدأ الكيان المؤقت ومعه الولايات المتحدة سلسلة الاغتيالات التي قد تستمر وتتجدّد، وفي ساحات جديدة، يتوقعها المحور، لكن نتائجها ستتّسم بعدم الفاعلية والكفاءة، والتجربة هي الدليل.
عندما فقدت المقاومة أمينها العام، السيد عباس الموسوي، في أوائل التسعينيات، كانت المقاومة في جنوب لبنان ما زالت تعيش مقدماتها الأولى، ومع ذلك نمت وتطوّرت، وتجاوزت كل تداعيات الاغتيالات التي تعرّضت لها طوال العقود الماضية، لأنها حركة ترتكز على المسيرة والنهج، كما هو حال بقية حركات المقاومة في المنطقة، التي عزّزت تماسكها والتحامها البنيوي مع الشعب. وفي حين حدّد الإسرائيلي ضمن أهدافه الأولى ما بعد طوفان الأقصى هدف القضاء على حركة حماس متوعّداً باغتيال قادتها وكوادرها، إلا أنه هدف واهم غير واقعي لأن حركة المقاومة الفلسطينية، وكبقية الحركات، حركة فكرية عقائدية سياسية وشعبية لا يؤدي اغتيالات قادتها إلى القضاء عليها، وهل نجحت تجربة برنامج فينيكس الأمريكي في القضاء على المقاومة الفيتنامية أو نجحت الاغتيالات الإسرائيلية في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية؟ واليوم، تختلف العوامل والظروف المحيطة بحركات المقاومة التي تنامت وتطور أداؤها السياسي والعسكري، وباتت أكثر قابلية للتكيف مع المستجدات المتغيرة والطارئة على الأرض، وأكثر امتهاناً للمناورة والاستفادة من نقاط المرونة إلى حد كبير، إضافة إلى تطوير تدابير وتكتيكات مضادة، وفي طليعتها احتضان البيئة المقاومة ومشاركتها استراتيجيات الصمود والتكيف مع الضغوط.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا