الحرب المحدودة بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله على الحدود اللبنانية استمرت بشكل متواصل منذ 8 تشرين الأول (باستثناء هدنة بادر بها حزب الله في موازاة هدنة في قطاع غزة في 24 – 30 تشرين الثاني). حزب الله، الذي بدأ فتح النار، يدير المعركة ويراقب ويوجه هجمات الشركاء عناصر جبهة المقاومة الأخرى، في عدة جبهات وعلى رأسها الجبهة اللبنانية، ويسمح بنشاطات حماس من لبنان. يجري منذ ثلاثة أشهر تبادلاً لإطلاق النار كل يوم بين الطرفين في إطار أيام قتال متواصلة. ويحرص الحزب على تحمل المسؤولية عن نشاطاته، وينشر في وسائل الإعلام الاجتماعية يومياً عن عدد هجماته. وحسب ادعاءاته، يهاجم أهدافاً عسكرية باستثناء الحالات التي يرد فيها على المس بالمدنيين عقب هجمات للجيش الإسرائيلي على الطرف اللبناني.
متابعة نماذج عمليات حزب الله تشير إلى محاولته وضع حدود للقتال، مع استثناءات تنبع من ديناميكية التصعيد المتبادلة. يجري القتال في مجال جغرافي مقلص، بضع كيلومترات عن الحدود وعلى طولها، وأمام أهداف ثابتة نسبياً، مع استخدام سلاح قصير المدى. كل ذلك باستثناء حالات متبادلة لمسافة أطول في عمق المنطقة. لا يستخدم حزب الله ترسانة سلاحه كلها، بل يهاجم بصواريخ مضادة للدروع وقذائف مدفعية وصواريخ قصيرة المدى ومسيرات (التي فشلت في الوصول إلى أهدافها في حالات كثيرة). الضرر الأساسي في الجانب الإسرائيلي تسببت به الصواريخ المضادة للدروع الموجهة وقذائف البركان (التي تحمل رأساً متفجراً كبيراً نسبياً). ويحرص الحزب على الحفاظ على معادلة الرد في عملياته ضد الجيش الإسرائيلي في محاولة للسيطرة على ارتفاع اللهب. في الوقت نفسه، من المهم لحزب الله أن يعرض بأن محاربته لإسرائيل أمر مهم وتوقع بها خسائر كبيرة جداً، ويتباهى أحياناً بنجاح أكبر بكثير من إنجازاته الفعلية.
في خطابه في 14 كانون الثاني، قال حسن نصر الله إن إسرائيل هي التي تخفي الحقائق عن الجمهور الإسرائيلي حول حجم الخسائر. وفي تطرقه لمميزات القتال، قال حسن نصر الله في 3 كانون الثاني إن حزب الله يعمل بشكل محسوب جداً، لكن إذا أراد العدو الحرب فسيرد بحزم وسيستخدم كل إمكاناته.
رغم نشاطات حزب الله المحدودة وحذر إسرائيل في ردها، ففي الشهرين الأولين للقتال منذ عاد الحزب للعمل بعد وقف إطلاق النار في غزة، فإنه يظهر توجهاً للتصعيد في حجم وطبيعة القتال بسبب الديناميكية المتطورة بين الطرفين. في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً عقب ازدياد مستوى نشاطات الجيش الإسرائيلي التي انتقلت النشاطات بالتدريج من عمليات الإحباط والرد لغرض الدفاع إلى نشاطات هجومية مع تجاوز قواعد اللعب التي حاول حسن نصر الله إملاءها.
برز في هذا الإطار هجمات في عمق جنوب لبنان والمس ببنى تحتية استراتيجية وأهداف نوعية لحزب الله على مسافة بعيدة عن الحدود. إضافة إلى ذلك، هاجم الجيش الإسرائيلي (في 2 كانون الثاني) حي الضاحية في بيروت، معقل حزب الله، واغتال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، وستة نشطاء من حماس. كان تحدياً إسرائيلياً تجاوز قواعد اللعب التي كانت عشية المعركة وأثناءها، هذا رغم تهديدات حسن نصر الله بالمس بمن يتجرأ على مهاجمة أهداف في لبنان، من بينها قادة تنظيمات يستضيفهم لبنان. في خطابه بعد عملية الاغتيال (في 3 كانون الثاني)، وعد حسن نصر الله برد على الهجوم في بيروت، فهاجم قاعدة مراقبة لسلاح الجو في جبل ميرون (في 6 كانون الثاني)، حسب قوله، بواسطة 62 صاروخاً (40 صاروخاً و22 قذيفة مضادة للدروع)، تسببت بأضرار مادية للقاعدة، لكن لم يصب أشخاص، رغم ادعاء حسن نصر الله بأن الـ 18 صاروخاً المضادة للدروع أصابت أهدافها. وثمة تصعيد آخر حدث عقب رد إسرائيل، شمل هجمات في العمق وعدداً من تصفيات لقادة في “قوة الرضوان”، على رأسهم وسام طويل، القائد الفعلي للقوة (في 8 كانون الثاني)، بعد يوم تمت تصفية حسين البرجي، قائد الوحدة الجوية الجنوبية في حزب الله، المسؤولة عن إطلاق المسيرات نحو إسرائيل (حزب الله نفى هذا الدور).
من ميزان مؤقت لنتائج القتال، يبدو أنه حدثت أضرار كبيرة للطرفين في البنى التحتية والممتلكات. ولكن يبدو أن الضرر العسكري لبنى حزب الله أكبر منها لدى الجيش الإسرائيلي، الذي دمر جميع مواقع ونقاط مراقبة لحزب الله على طول الحدود، كما دمر قيادات ومخازن سلاح وأهدافاً استراتيجية. في التقرير اليومي (في 7 كانون الثاني) قال المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي إن هجمات الجيش أدت إلى تدمير منظومة “حزب الله” المضادة للطائرات، وأنه يعمل بحرية كاملة في المجال الجوي داخل لبنان. وقال أيضاً إنه تم سحب نشطاء “قوة الرضوان” إلى الخلف، بصورة تعرقل نشاطاتها. على سبيل المثال، في 30 كانون الأول قال المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي إن 80 في المئة من الصواريخ التي أطلقت من لبنان في اليوم السابق سقطت في الأراضي اللبنانية. تكبد حزب الله أيضاً خسائر كثيرة في الأرواح. حتى الآن، أبلغ رسمياً عن قتل 160 من نشطائه (يبدو أن العدد أكبر) مقابل 9 قتلى من الجيش الإسرائيلي. في المقابل، إنجازات حزب الله في الأساس هي في المجال المدني، حيث الإنجاز الأكبر الذي ينسبه لنفسه عند بداية الحرب، وهو إخلاء نحو 60 ألف شخص من سكان المستوطنات القريبة من الجدار في الطرف الإسرائيلي، وآلاف الأشخاص من سكان الشمال الذين أخلوا بإرادتهم، إلى جانب تدمير واسع للبيوت في البلدات و”الكيبوتسات” على الحدود (المطلة والمنارة مثلاً) والأضرار الاقتصادية لسكان الشمال. أما في الطرف اللبناني فتم إخلاء 80 ألف شخص (العدد الرسمي) من سكان القرى الواقعة في المجال القريب من الحدود، وتضرر روتين الحياة أيضاً هناك.
يبدو أنه رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه حزب الله من جراء استمرار القتال، فإن الحديث يدور عن ثمن قابل للتحمل كونه يخدم الدفع قدماً بأهدافه الاستراتيجية وأهداف المحور الذي يقف على رأسه هو نفسه إلى جانب إيران، أهداف كانت تقف وراء قرار فتح الجبهة في الشمال:
1- في السياق الفلسطيني: إلى جانب إظهار التضامن مع الفلسطينيين، فقد استهدف القتال تثبيت الجيش الإسرائيلي في جبهة أخرى ومنعه من تدمير سلطة حماس في قطاع غزة، أو على الأقل تقليص إنجازات إسرائيل في الحرب.
2- في المواجهة مع الجيش الإسرائيلي: الحفاظ وتحسين ميزان القوة والردع لصالح حزب الله في “اليوم التالي” للحرب.
3- في صالح إيران: الإسهام في تحقيق مصالح إيران، مثل المس بإسرائيل وإضعافها، لا سيما إزاء استعداد إيران المحدود بالرد بشكل مباشر على النشاطات الإسرائيلية ضدها.
4 – في صالح جبهة المقاومة: قيادة استراتيجية “وحدة الساحات” في القتال أمام إسرائيل، التي كان حسن نصر الله شريكاً مهماً في بلورتها بالتعاون مع إيران ويشكل العامل الرئيسي في تنفيذها.
السؤال الرئيسي الآن هو: كيف يمكن تطبيق المصالح الإسرائيلية، وتجسيد قدرة إسرائيل بالفعل على المس بحزب الله، وجباية ثمن باهظ منه وإبعاد قواته عن الحدود، دون أن يؤدي ذلك إلى حرب شاملة في المنطقة الشمالية؟ هذا السؤال يبرز أكثر إزاء حاجة إسرائيل إلى التمكين من عودة سكان الشمال الذين تم إخلاؤهم، إلى بيوتهم، مع ضمان أمنهم وشعورهم بالأمان، الذي اهتز عقب أحداث 7 تشرين الأول.
في الوقت الحالي، يجري القتال في الشمال بقوة كبيرة، وفعلياً هذه حرب استنزاف متبادلة. ولكنها ليست شاملة حتى الآن، حتى لو بقيت إمكانية التدهور إلى حرب شاملة قائمة. ولكن للطرفين عوامل كابحة من الداخل والخارج، لا سيما الضغط الذي تستخدمه الولايات المتحدة على الطرفين، تحديداً على إسرائيل، ويبدو على إيران أيضاً، لمنع حرب إقليمية، في الوقت الذي تعمل فيه للمضي بحل سياسي يؤدي إلى وقف الحرب. يبدو أن حزب الله غير معني بحرب شاملة في هذه المرحلة، ونعرف ذلك من خصائص قتاله ومن خطابات حسن نصر الله، رغم تهديده العلني بأن حزبه سيعمل بدون ضوابط وبكل الوسائل التي بحوزته وبدون قوانين أو حدود إذا ما اندلعت حرب كهذه. إسرائيل من ناحيتها تتعامل في هذه المرحلة مع الساحة الشمالية كساحة ثانوية نسبياً مقارنة بساحة غزة، التي تقتضي استثماراً كبيراً، في الوقت الذي يعطيه الانتقال إلى المرحلة الثالثة في غزة هامش مناورة لمواصلة نشاطاتها في الشمال.
رغم جهود الولايات المتحدة وفرنسا للدفع قدماً بعملية سياسية، لكن يبدو أن أدوات الضغط السياسية على حزب الله ما زالت محدودة، وليس في اقتراحات الوسيط الأمريكي عاموس هوكشتاين، ما يمكن أن يغري أو يدفع حزب الله إلى وقف إطلاق النار والموافقة على انسحاب قواته من الحدود، خصوصاً مع استمرار القتال في قطاع غزة. على كل الأحوال، يبدو أن الحكومة اللبنانية أيضاً تقوم في هذه المرحلة بملاءمة نفسها مع مواقف حزب الله. فهي تطالب بوقف القتال في قطاع غزة وتتشدد في مواقفها بخصوص المفاوضات مع إسرائيل على ترسيم الحدود البرية.
على خلفية ذلك، ما دام القتال مستمراً على الحدود مع لبنان، فعلى إسرائيل مواصلة أو حتى زيادة نشاطاتها العسكرية بشكل منهجي وحازم من أجل المس بشكل كبير ببنى حزب الله التحتية وبقوة الرضوان، وبذلك ستحقق الثمن الباهظ الذي سيدفعه حزب الله ولبنان بسبب استمرار استفزاز إسرائيل والاقتراب من الحدود والبلدات الإسرائيلية. هذه فرصة لإسرائيل من أجل ترسيخ قواعد اللعب التي هي معنية بها، والتي هي مختلفة عن التي حاول حسن نصر الله إملاءها حتى 8 تشرين الأول الماضي. هذه النشاطات العسكرية قد تؤدي إلى وضع جديد على طول الحدود، يمكّن في المرحلة الأولى من عودة سكان الشمال الذين تم إخلاؤهم إلى بيوتهم، وخلق أساس متفق عليه بخطوات سياسية في المستقبل، وترتيب الوضع على طول الحدود على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه ستبقى إسرائيل في يدها قرار هل ومتى سيتم الدفع قدماً بعملية عسكرية واسعة من أجل إزالة تهديد حزب الله.
أورنا مزراحي ويورام شفايتسر
المصدر: صحيفة القدس العربي