قد يبدو خيار المقاومة هو الأصعب في اي معادلة بالحياة، لأن المقاومة تعني السلاح، وتعني التدريب والمواظبة والمراقبة والتعب وفراق الأحبة وصولاً الى الشهادة.
ان جميع الذين اختاروا طريق المقاومة لم يكن خيارهم الاول، فالإنسان يميل الى الراحة والاستقرار والاستفادة من مباهج الحياة دون المساس بقيمه وبحرية الاخرين. ان طريق المقاومة يعني طريق الشهادة لذا فان الذين خطوا هذا الطريق يدركون مخاطره ويضعون في حسبانهم الموت!
ان الله سبحانه وتعالى عندما جعل منزلة الشهداء عظيمة، عرفانا بالتضحيات التي قدموها قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فالشهادة رتبة عالية ليس فوقها رتبة ، يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) في حديثه: فوق كلّ برّ برّ حتى يُقتل الرجل في سبيل الله، فاذا قُتل في سبيل الله عزّ وجلّ فليس فوقه برّ.
وبالقدر الذي عظّم الله سبحانه وتعالى الشهيد كذلك تعظمه الأديان الأخرى، والعقائد الوضعية حيث تُقام لأبطال التحرير النصب والتماثيل، وتوضع فيهم المؤلفات والفنون للتذكير والتعظيم، فيما يتولى الأدباء والشعراء نظم القصائد فيهم. لا يستطيع أحد ان يوقف ماكينة الاعتداءات سواء الفردية او الدولية، فقلما نجد امة لم تجرب حظها في مهاجمة الشعوب الأخرى، وممارسة مهنة القتل والتدمير والحرق والنهب تحت حجج شتى، ربما امبراطورية الصين التي اكتفت بالدفاع عن نفسها على مدى عمرها بالوجود.
حتما هذه الاعتداءات تكون لها ردة فعل داخلية، فالشعوب ترفض العبودية وتبحث عن الحرية والسيادة والاستقلال وهولاء الذين يرفضون الذل ويرفعون سلاحهم بوجهم الظلم ليسوا اناسا عاديين، لأن مواجهة القتلة والظالمين قد تؤدي بصاحبها الى الموت وربما ما يزال في مقبل حياته.. المعادلة الصعبة بين ان يقبل المرء الذل والهوان وبين المواجهة والمقاومة.!
ان الذين كانوا سببا في تحرير شعوبهم من الاستعمار والتبعية وخاضوا الكفاح والمقاومة سواء نالوا الشهادة او استمروا بالحياة، فتضحياتهم موثقة في ضمير الامة والعالم اجمع..
الامام الحسين (ع) استشهد وهو في عمر ال (58) عاما، ولو قبل الرضوخ -لا سمح الله- فربما لا يعيش اكثر من خمس سنوات كما هو عهد اجداده، لكنه ضحى بخمس سنوات وكسب الخلود والبقاء. وفقا لذلك، دعونا نتوقف عند معركة الطوفان والحرب على اهل غزة.
ماذا نسمي هذا الصمود الشعب غزة؟ العالم يتفرج على مقاتلهم وهم يموتون امام اعين الجميع، لكن العالم في خنوع امام سطوة الحاكمين.! هل سمع او شاهد أحدنا ان امرأة او رجلا، او طفلا اشتكى من قسوة الظروف التي يعيشونها تحت وطأة القتل والحصار، والجوع، والبرد، والتشريد.!؟
غزة تغطيها مئات وسائل الاعلام، فلماذا اختفت الشكوى عند أهلها؟ والسؤال الاخر؛ لماذا لا يستسلم المقاومون في غزة؟ بإمكانهم ان يقولوا من اجل سلامة شعب غزة صغارها وكبارها ونساؤها ومرضاها وشيوخها وسلامة اهلها هاكم نحن المطلوبون لكم ودعوا الاخرين؟
لماذا لم يستسلم الامام الحسين (ع) من قبل؟ ولماذا لم يستسلم قادة فيتنام المقاومين، وبوليفار؟ ولماذا لم يستسلم عمر المختار وعبد القادر الجزائري وغيرهم؟ الأمريكان قتلوا ثلاثة ملايين مواطن فيتنامي ولم يستسلم الشعب ولا القادة.
معادلة لابد للأمم ان تفهمها “الذل والموت يتساويان” فالمرء الذي يعيش بذلة وهوان أشبه بالميت وان لبس الحرير
وعاش في رفاه، لان أكبر من ذلك الكرامة، يقول المتنبي “عش عزيزا او مت وانت كريم.. بين طعن القنا وخفق البنود” اذن العيش يساوي العزة، او لا قيمة له، وليس عجيبا ان العشرات من الابطال فضلوا الاعدام على ان لا يوقعوا على التنازل عن عقائدهم!
الملك محمد بن سلمان ينام على فراش وثير ويأكل ما يشاء من الطعام ويحكم دولة هي الاكبر مساحة بالوطن العربي وبتعداد سكاني يصل ل 25 مليون نسمة، ولديه من الاملاك والمال والقصور والنساء والجواري ما يعجز عن عده احد، لكن هو في قاموس الرجال جبان، وطيّع تحت أمرة اسياده الامريكانـ فما قيمة ملكه!؟ المرء يساوي الكرامة ودون ذلك فهو ميت!
السياقات أعلاه تدلنا ان خيارنا الوحيد في مواجهة اعدائنا هو طريق المقاومة، نعم ليس خيارا سهلا ان نواجه امريكا بكل خيلائها وجبروتها وقوتها واقتصادها وسلاحها، ولكن الخيار الثاني المذلة. يؤكد التاريخ ان نساء الكوفة بعد مقتل الامام الحسين (ع) طردن ازواجهن من المنازل حتى يثأروا لدم الحسين (ع) وشتمنهم لأنهم لم ينصروه، فكانت ثورة التوابين وما تلتها من ثورات!
لقد عقل التوابون أرجلهم حتى لا يفروا من ساحة المعركة، فقتل اغلبهم، على أن لا يبقوا في دائرة المذلة والهوان. وأفضل من مثل هذا الموقف بكل جلاء حتى بات للناس سنة ما جاء على لسان الامام الحسين (ع) في واقعة كربلاء حين وضعه عبيد الله بن زياد بين أمرين الحرب او المذلة، موضحاً خياره: “هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”.
يقول أحد كبار الروائيين بعد اعتقاله لمدة سنتين ثم إطلاق سراحه بعد ان وقع على البراءة من الحزب الذي ينتمي له “شعرت بعد إطلاق سراحي بسبب البراءة ان الحياة باتت سجنا كبيرا لي، وان حريتي حيث كنت في السجن”.
اذن عندما اخترنا المقاومة في الصراع مع الصهاينة وامريكا وتنظيم داعش، حرصا على ديننا وقيمنا وكرامتنا وعزتنا، ودون ذلك الموت أولى.
د. محمود الهاشمي
كاتب وباحث عراقي
المصدر: موقع الخنادق