ما من خيارات أمام النساء الحوامل في المناطق المحاصرة في قطاع غزة فينجبن في الأماكن التي يتواجدن فيها بمساعدة النساء النازحات أو الأقارب، وسط غياب الأطباء والمستشفيات والمعدات
في 14 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كانت عائلة بعلوشة على موعد مع ولادة في المنزل وسط الحصار الإسرائيلي الذي يعيشه وسط مدينة غزة واستمرار أصوات القصف واقتحامات الآليات العسكرية والإعدامات الميدانية. لم يتخيل يوسف بعلوشة (أبو جميل)، الذي رأى ولادات خارج المستشفى في الأفلام، أن يعيش تفاصيل مماثلة في أصعب الحروب التي يواجهها قطاع غزة.
عند الساعة التاسعة مساءً، بدأت أعراض الطلق لدى زوجة شقيق بعلوشة. بدأ الأخير وشقيقه إجراء الاتصالات في محاولة للوصول إلى فرق الإسعاف من دون جدوى بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت. وفي النتيجة، لم تنجح محاولات الوصول للإسعاف أو الاتصال بالصليب الأحمر.
ملقط غسيل على الحبل السري
عند بدء العدوان الإسرائيلي، كانت زوجة شقيق يوسف بعلوشة في نهاية الشهر السادس من الحمل، وكانت تأمل الولادة في مجمع الشفاء، الأقرب جغرافياً إلينا، إلا أن المجمع خرج عن الخدمة بعد اقتحامه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. وكانت خلال الشهر الأخير تعاني بسبب قلة الغذاء المتوفر. يقول بعلوشة لـ “العربي الجديد”: “نحن محاصرون ولا نستطيع الحركة، بل إن أي حركة في المساء تعد خطراً علينا وعلى الأم الحامل. استسلمنا للأمر الواقع وبحثنا عن أي معقمات أو وسائل تساعد على إتمام الولادة في المنزل. والمياه المتوفرة قليلة، وليس لدي أي اطلاع على كيفية إجراء الولادة”.
يضيف بعلوشة: “استجمعت زوجتي قواها وجهزنا غرفة للولادة، وسعينا إلى إغلاق النوافذ في ظل البرد الشديد، وبدأنا تحضير المياه الساخنة بصعوبة مستعينين بالحطب. سحبت زوجتي الجنين وربطت الحبل السري بملقط للغسيل. ولد آدم وأتمنى أن أبقى حياً لأروي ما حدث له”.
زوجة بعلوشة هي جدة لعدد من الأطفال، وكانت ترافق بناتها خلال زياراتهن إلى الطبيبات. كما رافقتهن خلال عمليات الولادة وخلال العناية بأطفالهن بعد الولادة. وخلال الولادة الأخيرة، حاولت تذكر كل ما كانت تسمعه.
بعلوشة هو أحد الذين بقوا في حي الشيخ رضوان رغم المجازر الإسرائيلية في الحي وتوغل قوات الاحتلال في مناطق وأطراف منه، عدا عن الاعتقالات والمجازر والإعدامات الميدانية فيه. يتواجد داخل مبنى يضم عشرات السكان والنازحين. وكانت زوجة شقيقه تعاني من آلام الحمل خلال العدوان وتترقب موعد الولادة.
تُواجه النساء الحوامل في المنطقة المحاصرة في مدينة غزة وشمال القطاع مشاكل عدة، منها عدم القدرة على متابعة أوضاعهن الصحية مع الأطباء المتواجدين في المناطق الجنوبية. وتزداد الصعوبة بسبب الانقطاع المتكرر للإنترنت وشبكات الاتصال.
وشهد حي الرمال حالة ولادة بمساعدة خمس نازحات من عائلة النجار. كان يفترض بعلا النجار (30 عاماً) أن تنجب في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لكنها بقيت 13 يوماً إضافياً، وصارت تعاني من آلام شديدة استمرت يومين، ولاحظت والدتها الخطر بعد نزول السائل السلوي. تذكرت والدتها أنها تملك أعواداً من القرفة والمريمية الناشفة. أعدت لها القرفة مع المياه الساخنة لتساعدها على الطلق، ثم أجرت بعض الاتصالات بعدما عجز الجميع عن تأمين إسعاف أو الوصول إليها. وكانت الساعة السادسة مساءً فيما القصف مستمر.
تقول عايدة النجار (58 عاماً) لـ “العربي الجديد”: “أعددت القرفة مع المريمية لابنتي وأجبرتها على شربها. وساعدتني مجموعة من النساء النازحات. صرخت كثيراً وكنت خائفة ولا أعلم إن كان هناك جنود إسرائيليون في الشارع. لكن ولدت الطفلة وكان صوت الصراخ جميلاً”. تضيف: “سمينا الطفلة نور لأنها كانت نوراً وسط كل الظلام والقصف والدمار. كانت والدتها خائفة من الولادة أثناء النزوح، وكانت تعاني بسبب ضعف بنيتها الجسدية. كنا قد حاولنا إقناعها بالنزوح برفقة زوجها. ولدت الطفلة في أيام صعبة وأتمنى أن تكون الأيام الصعبة الأخيرة التي نعيشها”.
تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى أن 50 ألف سيدة من الحوامل في مراكز النزوح يواجهن سوء التغذية ومضاعفات صحية لعدم توفر الأساسيات داخل مراكز النزوح في المحافظات الخمس، بالإضافة إلى عدم إدخال المعدات الطبية اللازمة إلى المنطقة المحاصرة والمناطق التي تعمل تحت الضغط في وسط وجنوب القطاع وعدم إدخال كافة المساعدات الطبية اللازمة.
ويشير المتحدّث باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة، في حديثه لـ “العربي الجديد”، إلى تسجيل عدد من النساء الحوامل من ذوات الحمل الخطر نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء. ويقول إن مخازن وزارة الصحة في غزة تعجز عن توفير المقويات أو بعض العلاجات لهن.
يضيف القدرة أن “أقسام الولادة داخل المستشفيات القليلة العاملة في جنوب قطاع غزة ووسطه هي الأخرى مكتظة، وانتقلت عمليات الولادة من شمال قطاع غزة ومدينة غزة إلى الجنوب ووسط القطاع. عدد كبير من النساء الحوامل انتقلن مع النازحين، ما زاد الضغط على أقسام الولادة وجعلها تعمل بطاقة استيعابية أعلى من اللازم بأكثر من أربع مرات. وبقيت عدد من الحوامل في مدينة غزة وشمال القطاع يواجهن ظروفاً خطيرة جداً”.
حالات ولادة بالمنطقة المحاصرة
إلى ذلك، تقول طبيبة التوليد وأمراض النساء خديجة السماك، وهي من بين الطبيبات النازحات إلى جنوب قطاع غزة بعدما دمّر الاحتلال الإسرائيلي عيادتها في حي النصر غرب مدينة غزة، كما توقفت عن إجراء عمليات الولادة في ثلاثة مستشفيات بعدما خرجت عن الخدمة، إنها تطوعت لعلاج بعض النساء الحوامل وخصوصاً في مدينة رفح حيث تتواجد.
وتشير إلى أنها تتلقى يومياً عشرات الاتصالات من نساء حوامل من اللواتي كن يتلقين العلاج في عيادتها وداخل عدد من المستشفيات، منهن نازحات أو محاصرات. دمر الاحتلال الإسرائيلي عيادتها في 22 أكتوبر/ تشرين الأول، وكانت قد استقبلت عدداً من النساء الحوامل قبل يوم من تدمير العيادة.
وتؤكد أن خمسا من الحوامل اللواتي كن يُعالجن استشهدن في حي النصر وحي الرمال وحي تل الهوا، إحدى هؤلاء هي سيدة كان يفترض أن تنجب في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، لكنها استشهدت في 12 نوفمبر. وتلفت إلى أن جميع الحوامل ينقصهن الكثير من العقاقير المقوية والفيتامينات غير المتوفرة.
كما أشرفت السماك على عملية ولادة في مخيم جباليا في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الشهر الماضي، بعدما وصل الطلق إلى مرحلة متقدمة لدى إحدى السيدات من قريبات والدتها. لم يكن هناك طواقم إسعاف أو طواقم إغاثية، ونجحت العملية رغم انقطاع الشبكة، وساعدت النساء بمعدات قليلة وولدت طفلة حملت اسمها.
تقول السماك لـ “العربي الجديد”: “هناك حالات إجهاض لنساء لم يكنّ يعرفن أنهن حوامل، وقد نزح بعضهن ونقلن أغراضهن. الولادة السليمة في هذه الأيام إنجاز عظيم. تطوعت لتقديم استشارات للنساء الحوامل لأننا في مرحلة خطرة، وأعمل ما يقارب 10 ساعات يومياً. وهناك حالات ولادة تتم بشكل خطير، وتخضع عدد من النساء لعمليات ولادة قيصرية نتيجة خوفهن وعدم حصولهن على غذاء جيد”.
وفي وقت سابق، أعلنت مؤسسة “أكشن إيد فلسطين” أن عشرات الآلاف من النساء الحوامل يعانين من الجوع الشديد بسبب الأزمة الغذائية المتصاعدة في غزة، كما تعاني الأمهات من سوء التغذية، ما يحد من قدرتهن على إرضاع أطفالهن حديثي الولادة من خلال الرضاعة الطبيعية. أضافت، في بيان، أن 71 بالمائة من سكان غزة يعانون حالياً من الجوع الحاد، في حين أن 98 في المائة من السكان ليس لديهم ما يكفي من الطعام، حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
وأشارت إلى أن هذه الأزمة تؤثر على النساء الحوامل والأمهات وأطفالهن الصغار بشكل حاد، مبينة أن هناك 50.000 امرأة حامل، و68.000 مرضعة في غزة، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة الأخيرة، وهن بحاجة إلى تدخلات وقائية وعلاجية وغذائية فورية منقذة للحياة. كما يعاني 7685 طفلاً دون سن الخامسة من الهزال الذي يهدد حياتهم، مما يجعلهم عرضة لتأخر النمو والمرض والوفاة في الحالات الشديدة، في حين يتم تصنيف أكثر من 4000 طفل يعانون من حالات الهزال الشديد، وهم بحاجة إلى علاج منقذ للحياة.
أمجد ياغي
المصدر: صحيفة العربي الجديد