فورين أفيرز: إنكار إسرائيل الهوية التاريخية لغزة سبب الحروب المستمرة.. ورفع الحصار ضروري لعودة السلام

Spread the love
image_pdfimage_print

نشرت دورية “فورين أفيرز” مقالا للباحث بجامعة ساينس بو في باريس، جان بيير فيليو، وهو مؤلف كتاب مهم عن غزة، مقالا تحدث فيه عن أهمية المدينة عبر التاريخ، إذ شكلت المنطقة محاولات السيطرة على السلطة في الشرق الأوسط. فبعد ثلاثة أشهر من الحرب الضارية على القطاع، تجلت مسألة واضحة وهي أن المنطقة أصبحت في مركز السياسة العالمية، وأثبتت خطأ مفاهيم القادة والمؤسسات الدولية أن القطاع المحاصر جوا وبحرا وبرا يمكن استبعاده من السياسة الدولية.

وكشف هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر المفاجئ ضد إسرائيل عيوب هذا الفهم. وبالتأكيد، أعادت الحرب تشكيل المسألة الفلسطينية ووضعت غزة وسكانها في مركز أي مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية في المستقبل. ومع أن القليل يتم تذكره اليوم، فإن تاريخ غزة الذي يعود إلى 4 آلاف عام يجعل من الـ16 عاما الماضية حالة شاذة، ولطالما لعب القطاع دورا محوريا في الحركات السياسية للمنطقة وكذا النزاعات القديمة حول الدين والقوة العسكرية.

وأصبحت غزة ومنذ الانتداب البريطاني في القرن العشرين في قلب الوطنية الفلسطينية. وعليه فأي محاولة لإعادة بنائها لن تنجح لو لم يتم أخذ موقع المنطقة ومكانتها الإستراتيجية بالاعتبار. ويعلق المؤرخ أن نزع سلاح المنطقة لن يتم بدون رفع الحصار الكارثي وتقديم رؤية إيجابية بشأن النمو الاقتصادي. وبدلا من محاولة تهميش غزة سياسيا، على القوى الدولية العمل معا والسماح لها بأن تستعيد دورها التاريخي كواحة ومفترق طرق يربط البحر المتوسط بشمال أفريقيا ودول المشرق. ويجب على الولايات المتحدة الاعتراف بمركزية غزة في أي حل دائم للكفاح الفلسطيني.

يجب على الولايات المتحدة الاعتراف بمركزية غزة في أي حل دائم للكفاح الفلسطيني

الموقع الإستراتيجي لغزة الرابط بين مصر والمشرق هو ما جعلها محل تنافس منذ القرن السابع قبل الميلاد، عندما غزا الهكسوس دلتا النيل من غزة ليهزموا مرارا على يد الفراعنة في طيبة. ولكن الفراعنة تخلو في النهاية عن غزة لناس البحر المعروفين بالفلسطينيين، الذين أقاموا فدرالية من خمس مدن ضمت إلى جانب غزة، عسقلان وأشدود (إسدود) وعقرون.

وفي العصور القديمة اللاحقة أصبحت غزة بموقعها المتميز ساحة نزاع بين القوى التي حاولت فرض هيمنتها، حيث وقعت تحت سيطرة الأشوريين والبابليين. وسيطر عليها الإمبراطور الفارسي كورش العظيم في منتصف القرن السادس.

إلا أن الصدمة الكبرى كانت في 332 قبل الميلاد عندما قام الإسكندر المقدوني بفرض حصار مدمر استمر 100 يوم على غزة في طريقه إلى مصر. وأشار الكاتب إلى هذه السابقة التي التاريخية التي تعلمت منها حماس حفر الأنفاق وتحصين غزة. وفي النهاية حققت قوات الإسكندر ما تريد ولكن بثمن باهظ، وجرح الإسكندر أثناء الحصار، وقرر أن ينتقم من أهل غزة المهزومين، وذبح معظم رجالها واسترق النساء والأطفال.

لكن أهمية غزة تجاوزت موقعها الإستراتيجي، ففي الفترة الهلنستية تحولت إلى “مدينة دولة” وإلى مركز ديني في العصور الأولى للمسيحية ومن ثم الإسلام. وفي 407 قبل الميلاد استطاع أسقف غزة بورفيريوس فرض كنيسة على المعبد الوثني الرئيسي للإله زيوس. والأهم منه كان القديس هيلاريون (291- 371) الذي أقام مجتمعا رهبانيا مهما في غزة وتحول لمركز حجيج شهير.

وتوفي أحد أجداد النبي محمد، هاشم بن عبد مناف، وهو في رحلة تجارة للمدينة. ويشير المسلمون للمدينة بغزة هاشم. وقام العثمانيون في القرن التاسع عشر ببناء مسجد حول قبر هاشم. وفي العصور الوسطى تأرجحت السيطرة بين القوى المتصارعة، فقد كانت محل نزاع بين المدافعين المسلمين والصليبيين في القرن الثاني عشر، ثم سيطر عليها المماليك والغزاة المغول في القرن الثالث عشر، وشهدت في القرنين ونصف من حكم المماليك- الأتراك عصرها الذهبي حيث تم إنشاء المساجد والمكتبات والقصور، وازدهرت كطريق تجاري.

وتم إنشاء خان مهم في جنوب القطاع في 1387، حول مدينة خان يونس. وفي 1517 دخلت غزة تحت الحكم العثماني، باستثناء فترة قصيرة احتل فيها نابليون بونابرت المدينة في 1798، وظلت غزة معروفة بهوائها الطيب وسكانها المتجانسين ومستوى الحياة الجيد. ووصفها سائح فرنسي في 1659 بأنها “مكان مفرح ومقبول للغاية”، وبعد قرنين كتب الرحالة الفرنسي بيير لوتي عن “حقول الشعير الواسعة المغلفة بالخضرة” في غزة. وعندما تم رسم الخط الفاصل مع مصر الخاضعة لبريطانيا والإمبراطورية العثمانية في 1906 مر عبر رفح بشكل خلق منطقة تجارية فعلية بين الإمبراطوريتين.

وأثناء الحرب العالمية الأولى، تنافست القوات البريطانية والعثمانية على المدينة، ولم تستطع القوات البريطانية تدمير خطوط دفاع العثمانيين إلا في المرة الثالثة، حيث دخل الجنرال إدموند المدينة المدمرة في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، وهو اليوم الذي أعلن فيه عن وعد بلفور، الذي أعطى اليهود دولة في فلسطين. وتحولت غزة التي لم تستهدفها الحركة الصهيونية والاستيطان إلى مركز للوطنية، وبخاصة أثناء الثورة الكبرى ما بين 1936- 1939. وفي تشرين الثاني/نوفمبر قدمت الأمم المتحدة خطة لتقسيم فلسطين حيث جعلت غزة ضمن الدولة العربية.

وما أصبح يعرف بقطاع غزة تشكل بالصدمات في 1948، فبعد فشل خطة التقسيم التي رحبت بها الحركة الصهيونية ورفضتها الحركة الوطنية الفلسطينية والدول العربية، بشكل أدى إلى نزاع مسلح بين العرب واليهود، وهو ما أدى لأول موجة لاجئين، وبخاصة من يافا، وفي تذكير مر للمعضلة الحالية، اقترح البريطانيون أن المنطقة مناسبة لوصول المساعدات الإنسانية من القاهرة.

وبعد إعلان بن غوريون في أيار/مايو 1948 عن دولة إسرائيل، دخل 10 آلاف جندي مصري غزة، لكنهم لم يصلوا أبعد من أسدود حيث صدتهم عملية إسرائيلية جريئة. وفي ذلك العام، شردت إسرائيل 750 ألف فلسطيني فيما عرف بالنكبة. وجعلت الهدنة التي وقعتها مصر مع إسرائيل برعاية الأمم المتحدة غزة تحت الإدارة المصرية وتبنت خط 1906 باعتباره الحد الفاصل. وبعد قرون من كونها مفترق طرق للتجارة تم تحويل غزة إلى مجرد “قطعة” من الأرض.

وفهم بن غوريون التهديد طويل الأمد لغزة، ففي مؤتمر السلام بلوزان اقترح ضم القطاع واستيعاب 100 ألف من اللاجئين، لكن المقترح رفض في إسرائيل ومصر حيث أصبح الدفاع عن غزة قضية وطنية. واعترفت الأمم المتحدة بعجزها عن حل المسألة الفلسطينية، حيث أوقفت مؤتمر لوزان وتحولت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) إلى أهم مشغل للاجئين في غزة منذ ذلك الوقت. ولم تمض سنوات قبل أن تبدأ المقاومة في المخيمات، حيث حاولت مصر وإسرائيل السيطرة على عمليات الفدائيين ومحاولة اختراقهم إسرائيل إلا أن جمال عبد الناصر وفي بداية الخمسينيات استخدم المقاومة كحركة وكيلة للرد على إسرائيل.

وأصبحت السيطرة على القطاع أولوية لبن غوريون ورئيس هيئة الأركان موشيه دايان دايان، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1956 سيطرت إسرائيل على القطاع مدة أربعة أشهر ضمن العدوان الثلاثي، حيث قتل الآلاف من الفلسطينيين بما في ذلك في مذبحتين وثقتهما الأمم المتحدة واحدة في خان يونس قتل فيها 275 شخصا على الأقل وأخرى في رفح قتل فيها 111 شخصا.

وكانت الصدمة عميقة لدرجة طلب فيها الفلسطينيون عودة الحكم المصري بعد خروج الإسرائيليين بدلا من وصاية الأمم المتحدة التي كانت فرصة ضائعة لإقامة كيان فلسطيني مستقل. واحتلت إسرائيل غزة مرة ثانية عام 1967 حيث راهن وزير الدفاع دايان ورئيس هيئة الأركان اسحاق شامير على تذويب الوطنية الفلسطينية من خلال محو الحدود بين غزة وإسرائيل وفتح سوق العمل لسكانها. إلا أن هذا لم ينجح، حيث قام أرييل شارون قائد المنطقة في حينه بهدم أجزاء من مخيمات اللاجئين. ويستخدم الجيش الإسرائيلي اليوم في هجوم على غزة نفس الخرائط التي استخدمها شارون للتفريق بين المحاور الأمنية والقتالية.

يستخدم الجيش الإسرائيلي اليوم في هجومه على غزة نفس الخرائط التي استخدمها شارون للتفريق بين المحاور الأمنية والقتالية

وطالما اعترف قادة إسرائيل بأن مشكلة اللاجئين لن تذهب بعيدا، حيث اقترح شارون في 1974 خطة توطين عدد من اللاجئين داخل إسرائيل وإن بشكل رمزي، لكن الفكرة رفضت. وبدلا من ذلك بدأت إسرائيل لعبة تقسم الحركة الفلسطينية بين فتح والحركة الإسلامية (حماس). ولعبت “فرق تسد” لوقت قصير في غزة، وبنهاية الثمانينيات اندلعت أول انتفاضة وكان مكانها في مخيم جباليا وانتشرت إلى الضفة الغربية. ورد زعيم الحركة الإسلامية في غزة الشيخ أحمد ياسين وحول حركته إلى حماس واتهم فتح بالتخلي عن واجبها المقدس. وحاولت إسرائيل ممارسة اللعبة القديمة، وانتظرت حتى 1989 لسجن ياسين. واستمرت الانتفاضة حتى وصول رابين للسلطة في 1992. ثم جاءت أوسلو عام 1993، وتزايد صعود حماس كقوة، وتم فك الارتباط عن غزة الذي اعتقد شارون أنه سيعلن انتصاره على الانتفاضة بعد مقتل ياسين ورحيل ياسر عرفات.

لكن خطة الانسحاب من غزة عام 2005 تمت بدون التشاور مع محمود عباس وخربت خطة تنمية طموحة لجيمس ولفنسون، المبعوث الخاص للرباعية- الولايات المتحدة، روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.

سياسات إسرائيل أسهمت في صعود حماس وقوّى الحصار من سيطرتها على القطاع

ويرى الكاتب أن سياسات إسرائيل أسهمت في صعود حماس وقوّى الحصار من سيطرتها على القطاع. كما أن الإرث للسياسات التي تبعت فوز حماس في انتخابات 2006، والحرب الحالية بينها وإسرائيل هي نتيجة لإنكار الهوية التاريخية لغزة. وظنت إسرائيل خلال السنوات الـ 16 بأنها تستطيع فصل 2.3 مليون نسمة في غزة عن الفلسطينيين في إسرائيل والقدس الشرقية والضفة الغربية. وفشلت السلطة الوطنية في تخفيف الحصار لأن النزاع مع حماس أعماها، بشكل قاد لإضعاف شرعية السلطة في رام الله. ومنع الخلاف الفلسطيني- الفلسطيني أي جهود لإحياء العملية السلمية، في وقت انخرطت فيه إسرائيل وطوال العقدين الماضيين بعملية “مكافحة إرهاب” أو “جز العشب” حيث شهد القطاع منذ 2009- 2021 حروبا قتل فيها الآلاف الفلسطينيين.

فشلت السلطة الوطنية في تخفيف الحصار لأن النزاع مع حماس أعماها بشكل قاد لإضعاف شرعية السلطة في رام الله

إلا أن فكرة إمكانية إنكار الواقع الإنساني الرهيب انهارت في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وقد قتل بالرد الإسرائيلي 21 آلف فلسطيني وهجر الملايين في تكرار لمشاهد النكبة. وتعتبر أهداف نتنياهو للحرب “محو حماس” ترديدا لأهداف بن غوريون عام 1956 وإن على قاعدة أوسع وتحت سمع ونظر العالم. وحتى لو تحقق هذا، فلا يوجد جمال عبد الناصر لكي يعيد النظام للقطاع، ولهذا يبدو إن إسرائيل على قدر مع القطاع الذي ساعدت على إنشائه عام 1948 وبدورات من العنف والاحتلال ومزيد من التطرف. ولكي يعود السلام إلى المنطقة يجب أن تعود غزة لجذورها التاريخية، وهذا يعني إنهاء الحصار والسماح لها بأن ترتبط مع المحيط بها والعالم، كي تتحول إلى مركز تجارة ومعرفة، تماما كما فعلت في الماضي.

المصدر: مجلة فورين بوليسي

ترجمة: صحيفة القدس العربي