هدايا العيد: قنابل وصواريخ على الكنائس والمساجد والقبور

Spread the love
image_pdfimage_print

باتت الآثار والأضرحة التاريخية والأماكن الدينية، تحديداً تلك التي بُنيت منذ آلاف السنين، أهدافاً عسكرية تتعرّض للقصف والتدمير المنهجي، وكأن التاريخ هو العدو الذي يجب أن يُقضى عليه. الخطورة تكمن في العقليّة التي تقف وراء هذا التدمير المتعمّد وليس العرضي. لذلك حظيت أماكن العبادة وغيرها من المعالم التراثية والحضارية بمكانة خاصة في الصكوك الدولية التي أسبغت عليها حماية قانونية أثناء النزاعات المسلّحة الدولية وغير الدولية. وقد أكد إعلان اليونسكو لعام 2003 بشأن التدمير المتعمّد للتراث الثقافي على أهميته والالتزام بمكافحة تدميره المتعمّد بأي صورة من الصور، ليمكن نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة، ووجوب أن تتّخذ الدول جميع التدابير الملائمة أثناء النزاعات المسلحة، وفي زمن الاحتلال على نحوٍ يكفل حماية التراث الثقافي وفقاً للقانون الدولي، وعلى أطراف النزاع التزام بسط الحماية الضرورية للممتلكات الثقافية والحيلولة دون تدميرها أو نهبها أو العبث بها.

الاعتداءات الإسرائيلية على المقدّسات في فلسطين سياسة ممنهجة يتّبعها الكيان المحتل ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية. فمنذ احتلالها عام 1967 للضفة الغربية والقدس، تتواصل الاعتداءات على المسجد الأقصى على نحوٍ متكرر، وأبرزها إحراق المسجد في 21 آب 1969، ومنع المصلّين من الصلاة فيه وتدنيسه من قوات الاحتلال ومستوطنيه واقتحامه على نحو استفزازي مستمر، والتهديد بهدمه والقيام بأعمال حفر وخلخلة أساساته سعياً لبناء هيكلهم المزعوم. كذلك لم تسلم أماكن العبادة المسيحية من الانتهاكات الإسرائيلية، من بينها الاعتداء على كنيسة بئر يعقوب للروم الأرثوذكس وسرقة كنائس عدة والاستيلاء على عقارات تعود لإلى الوقف المسيحي، واحتلال القوات الإسرائيلية للكنيسة اللوثرية في بيت جالا، إضافة إلى إطلاق دعوات يهودية متطرّفة إلى حرق الكنائس والاعتداء على مشاركين في مسيرات شعائرية مسيحية وغيرها.

قصف متعمّد للأماكن الدينية في غزة

أماكن العبادة كانت أيضاً ضمن الأهداف المباشرة للطيران الإسرائيلي الهمجي ضد غزة. يوثّق تقرير صادر عن مبادرة التراث من أجل السلام (منظمة غير حكومية تُعنى بحماية التراث الإنساني المعرّض للخطر مركزها إسبانيا) في السابع من تشرين الثاني 2023، المعالم الأثرية والدينية التي تعرّضت للدمار الكلّي أو الجزئي. من بين هذه المعالم التي دُمّرت بالكامل: كنيسة جباليا البيزنطية، كنيسة برفيريوس الأرثوذكسية، المسجد العمري، مسجد الشيخ شعبان ومسجد الظفر دمري، ومقبرة دير البلح، ودير القديس هيلاريون، ومقام خليل الرحمن، ومسجد السيد هاشم، ومقام الخضر، ومقام النبي يوسف. فماذا نعرف عن تلك المعالم الدينية؟
كنيسة جباليا البيزنطية تعود إلى العهد البيزنطي، بُنيت في عام 444 ميلادية. فيما كنيسة برفيريوس من أقدم الكنائس الأثرية في البلدة القديمة في غزة، وتقع في حي الزيتون. بُنيت عام 425 ميلادية على يد القديس برفيريوس وهي تضم ضريحه. أما مقبرة دير البلح فمن أهم المقابر التاريخية والأثرية، وتعكس تاريخ الشعب الفلسطيني على مدى عصور عدة، وقد كشفت تنقيبات أثرية بين عامَي 1972 و1982 أنّها أهم مقبرة تعود إلى العصر البرونزي المتأخّر، وتُنسب إلى ما يسمى «ملوك الفلسطينيين». ويعود تأسيس مسجد الظفر دمري إلى العصر المملوكي على يد الأمير شهاب الدين أحمد بن أزفير الظفر دمري. وتُعد تلّة أم عامر، وهي موقع القديس هيلاريون (في النصيرات)، من أبرز المعالم الدينية الأثرية وارتبط اسمها باسم القديس هيلاريون الذي عاد إلى غزة بعد رحلة روحية قضاها مع القديس أنطونيوس في صحراء سيناء، وأسّس ديراً للتنسّك في خربة أم عامر عام 329 ميلادية، والموقع كان مسجلاً ضمن اللائحة التمهيدية للتراث العالمي. وألحق القصف الهمجي الإسرائيلي أضراراً بأرضية فسيفساء لبقايا كنيسة أصلان البيزنطية. ويعتبر مسجد السيد هاشم من أشهر المساجد في غزة وأقدمها، وهو يضم ضريحاً تحت قبّته، يُعتقد أنه يعود إلى السيد هاشم بن عبد مناف، الجد الأكبر للنبي محمد(ص)، وبه تُعرف باسم غزة هاشم. المسجد العمري الكبير هو من أكبر مساجد غزة وأقدمها ويقع في مدينة غزة القديمة، وقد أُطلق عليه هذا الاسم تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب، وهو يقع فوق معبد قديم، حوَّله البيزنطيون إلى كنيسة في القرن الخامس الميلادي، وبعد الفتح الإسلامي في القرن السابع حوَّله المسلمون إلى مسجد. وقد وصفه الرحالة والجغرافي ابن بطوطة، في القرن العاشر الميلادي، بـ«المسجد الجميل».

الجيش الإسرائيلي اعتدى على كنيسة جباليا البيزنطية وكنيسة برفيريوس الأرثوذكسية ودير القديس هيلاريون والمستشفى الأهلي المعمداني

إسرائيل بقصفها لكل المعالم التراثية الروحية تُضيف إلى سجلّها الإجرامي جريمة حرب أخرى، وهي تعمد إلى تدمير الأماكن الدينية التي تجسّد البُعد التاريخي والحضاري لفلسطين، بهدف طمس الهوية الثقافية لفلسطين التي تهدّد الادعاءات الصهيونية وتفضح تزييفها للتاريخ.


وقد نجحت فلسطين عندما انضمت إلى منظمة اليونسكو في 31 تشرين الأول 2011، في تسجيل ثلاثة مواقع فلسطينية على لائحة التراث العالمي، هي كنيسة المهد ومسار الحجّاج في بيت لحم (2012). وفي عام 2017 استطاعت أن تسجل البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي في الخليل كتراث ثقافي فلسطيني. وفي أيلول الماضي، صدر قرار عن اليونسكو بإدراج أريحا (تل السلطان) على لائحة التراث العالمي، وكان العمل جارياً لإعلان المواقع الأثرية والدينية في غزة تراثاً عالمياً.

حماية التراث الروحي في الصكوك الدولية

لا جدال في أن الاعتداءات الإسرائيلية على الأماكن المقدسة هو انتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني الذي يمثل المستوى الأول لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلّح. فقد كُرّس أول نصوصه في اتفاقية بروكسل لعام 1874 للنظر في قوانين الحرب وأعرافها، وكان أحد أهدافها حماية دور العبادة من النزاع المسلّح، ونصّ على وجوب اتخاذ كل التدابير الضرورية لتجنيب المباني المخصّصة للعبادة والفنون والعلوم الضرر، وتبعته اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1907 التي تنصّ في المادة 27 على أنه «في حالات الحصار أو القصف، يجب اتخاذ كل التدابير اللازمة لتفادي الهجوم قدر المستطاع على المباني المخصّصة للعبادة»، والمادة 56 التي تنص على أنه «يجب معاملة ممتلكات البلديات وممتلكات المؤسسات المخصّصة للعبادة والأعمال الخيرية والتربوية، والمؤسسات الفنية والعلمية، كممتلكات خاصة، حتى عندما تكون ملكاً للدولة، ويُحظّر كلّ حجز أو تدمير أو إتلاف عمدي لمثل هذه المؤسسات… وتتخذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي هذه الأعمال». كذلك تنص البروتوكولات الإضافية لعام 1977 الملحقة باتفاقيات جنيف لعام 1949 على الحماية ذاتها. كما جاء في المادة 53 من البروتوكول الإضافي الأول أنه «تحظّر الأعمال الآتية: ارتكاب أي من الأعمال العدائية الموجّهة ضد الآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكّل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب».
المستوى الثاني من الحماية تؤمنه اتفاقية لاهاي لعام 1954، وهي الحجر الأساس لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاع المسلّح سواء كان دولياً أو داخلياً. وبموجب هذه الاتفاقية، يتعين على الأطراف حماية جميع الممتلكات الثقافية، سواء كانت داخل أراضيها أو داخل أراضي الدول الأطراف الأخرى، عبر توفير الحماية العامة، وهي أولاً صون ممتلكاتها الثقافية من الآثار التي قد تنجم عن نزاع مسلّح (المادة 3) والامتناع عن استعمالها لأي غرض من شأنه أن يعرّضها للتدمير أو التلف في حالة نزاع مسلّح، وثانياً الامتناع عن توجيه أي عمل عدائي إزاء تلك الممتلكات الثقافية. وثالثاً حظر ومنع أي شكل من أشكال السرقة أو النهب أو التبديد للممتلكات الثقافية ووقف تلك الأعمال وحظر أي عمل تخريبي موجّه ضدها. أما في حالة الاحتلال فقد نصّ البروتوكول الأول لاتفاقية عام 1954 المتعلق بوضع الممتلكات الثقافية تحت الاحتلال في المادة الخامسة منه، على أنه يتعين على الدول الأطراف التي تحتل أراضي إحدى الدول الأطراف الأخرى وقاية ممتلكاتها الثقافية والمحافظة عليها بقدر المستطاع.

ماذا عن مسؤولية مرتكبي الاعتداء على أماكن العبادة أثناء النزاع المسلّح؟

وفقاً للاتفاقيات السابقة، تتحمل الدولة أولاً مسؤولية مدنية وفقاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقية عام 1954 التي ترتب المسؤولية المدنية على الدولة المعتدية، بوجوب إعادة الحال إلى ما كان عليه أولاً، فإذا استحال ذلك عليها تقديم التعويض المالي وتقديم اعتذار رسمي. أما المسؤولية الجنائية فتترتب على الأفراد مرتكبي الاعتداءات، وهو ما نص عليه القانون الجنائي الدولي، وتحديداً بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي اعتبرت مادتها الثامنة أنه تجوز محاكمة من يقوم بالهجمات التي تستهدف عمداً المباني المخصصة للشعائر الدينية أو للأنشطة التعليمية أو الخيرية والآثار التاريخية والمستشفيات، شريطة ألا تكون أهدافاً عسكرية في نزاع دولي أو غير دولي، وتعتبر هذه الهجمات جرائم حرب.
الجدير ذكره في هذا السياق، أنّ عدم الانضمام لأي من هذه الاتفاقيات الدولية لا يعفي الدولة من الالتزام بما يفرضه القانون الدولي المدوّن، إذ إن كل النصوص المدوّنة في الاتفاقيات السابقة باتت جزءاً من القواعد الدولية العرفية الملزمة للدول.
 

القضاء الدولي ومعاقبة المعتدين

شهدت الحرب التي وقعت في يوغسلافيا السابقة تدمير مئات المواقع الدينية والثقافية بشكل منهجي. وأكدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابق، أن تدمير التراث الثقافي يُعد جريمة بموجب القانون الدولي العرفي. كما قررت أن الجرائم الممنهجة ضد التراث الثقافي يمكن أن ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، «لأن البشرية جمعاء تتأذّى بالفعل من تدمير ثقافة دينية فريدة». ويعتبر حكمها الصادر في آذار 2004 سابقة قضائية، إذ أدانت المحكمة متهمين لارتكابهم جرائم دولية عدة، من بينها التدمير أو الضرر المتعمّد لمؤسسات مكرّسة للدين أثناء حصار مدينة دوبروفنيك الكرواتية عام 1991.
كذلك أدانت المحكمة الجنائية الدولية في حكم صدر عام 2017 المدعو أحمد الفقي المهدي لارتكابه جريمة حرب تتمثل في شن هجمات ضد مبانٍ مخصّصة للأغراض الدينية وآثار تاريخية أدت إلى تدمير مسجد تاريخي، إضافة إلى الأضرحة التراثية بين 30 حزيران و11 تموز 2012. وقد غرّمته المحكمة بمبلغ 2,7 مليون يورو تُدفع لأهالي تمبكتو ومبلغ رمزي آخر قيمته يورو واحد لدولة مالي ولمنظمة اليونسكو.
وشكّل حكم المحكمة الجنائية الدولية سابقة قضائية أيضاً. فقضية أضرحة تمبكتو كانت أول دعوى تنظر فيها المحكمة بشكل مباشر في مسألة الاعتداء على مبان مخصّصة لأغراض دينية. ولكن السؤال: هل ستتكرر مثل هذه الدعوى في المستقبل ضد الكيان الصهيوني؟ فجريمة التدمير المتعمّد للمواقع الدينية، وإن باتت جريمة حرب، فإن توقيع العقوبة مرتبط بالإرادة السياسية للدول المعنية، والقضاء الدولي بأنواعه لا يستطيع التحرّك ما لم تتوافر هذه الإرادة.

لونا فرحات

المصدر: ملحق القوس بصحيفة الأخبار