مع كل ذكر لفصيل مقاومة اسلامية بالمنطقة تلصق معه جملة “المدعوم من إيران”! لم تعترض إيران على هذه الجملة، بل العكس تفخر بها، وترى ذلك من واجبها الشرعي، والقيمي. من جهتهم فان قادة فصائل المقاومة لا يترددون في التأكيد على ان إيران داعمة لهم في الإعلام والمال والتدريب، والتصنيع، والتسليح، والدبلوماسية. والاعلام العربي، ايضا اعتقد ان إعلان المقاومة الدائم بالاعتراف بالدعم الإيراني هو أشبه ب”المثلبة”، فراح يطيل بالجمل ويقصرّها حين يورد اسم المقاومة، وأحيانا يبدّل المقاومة بالميليشيا!
ويرى البعض أن المقاومة في بعدها السياسي او العسكري هي العمق الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية، وتؤكد ان هذا العمق لن تتنازل عنه، مهما كان الثمن، والتضحيات، والصبر، والتحمل. يقول السيد القائد الخامنئي “إن الحضور الإقليمي يمنح إيران العمق الاستراتيجي والمزيد من القوة”. هذا النص أورده السيد الخامنئي في لقائه مع رئيس وأعضاء مجلس خبراء القيادة في إيران، وان إيراد هذا النص جاء بسبب مطالبة الغرب بتنازل إيران عن دعمها للمقاومة مقابل امتيازات في القضية النووية ورفع الحظر. من جهتها، فان فصائل المقاومة لن تقبل أن تغيّر من توجهاتها رغم الضغوط والإغراءات التي تقدم لها، لأنها تدرك تماما ان اي تحول عن الدعم الايراني يعني فقدان بوصلة العمل، والتلاشي مع الأيام أسوة بالكثير من عناوين المقاومة السابقة الذين لم يتبق منهم سوى الاسم او مجرد مكتب!
إن واحدة من أهم أسباب استمرار انتصارات المقاومة الاسلامية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، هو ثبات موقف الجهة الداعمة (الجمهورية الاسلامية) حيث لم تغير من موقفها منذ ان انبثقت الثورة الاسلامية عام 1979 واعلان قائدها الامام الخميني (قدس) بالعبارة الصريحة الواضحة ” يجب أن تمُحى إسرائيل من الوجود”، متخذاً مجموعة من الاجراءات في السيطرة على السفارة الأميركية في طهران، وإغلاق السفارة الإسرائيلية، وتحويلها الى سفارة لفلسطين.
إن هذا الثبات في الموقف جعل الدول وفصائل المقاومة، وقوى التحرر بالعالم تثق بانتمائها لهذا الخط والذهاب معه بعيدا، وفي نفس الوقت فان هذا “العمق” ما انفك يمثل مصدر قوة للثورة الإسلامية، وإدامة وجودها وحضورها الدائم على كل الاصعدة، حتى بات من يفكر بالأذى لإيران عليه ان يدرك انها تمتلك عمقا استراتيجيا في عموم منطقة غرب آسيا وصولا الى اميركا اللاتينية.
إن هذا التلازم بين إيران وقوى المقاومة بات يشكل نواة لمشروع “قطبية جديدة” بالعالم، وثقلاً سياسياً وعسكرياً واقتصاديا، فمثلاً لمرات عديدة عندما فكّرت امريكا ان تعتدي على إيران وضعت في حساباتها ان عليها ان تحارب دولاً عديدة، وجبهات وليس دولة بعينها. مثلما فكرت اسرائيل وغيرها ان تعتدي على المقاومة، لكنها تعلم انها ستكون ملزمة ان تواجه إيران بكل ما تملك من مصادر القوة.
معركة طوفان الاقصى التي انطلقت في السابع من اكتوبر للعام الجاري أشّرت إلى تصاعد قوة الردع للمقاومة الاسلامية بالشكل الذي لم تعد فيه عمليات المقاومة مجرد عملية فدائية سريعة، بل هي معركة ترقى الى مستوى دولتين، فقد مضى على المعركة (76) يوما وما زال أوارها متقدا، فيما يعجز الجيش الصهيوني ان يحقق نصراً على المقاومة في غزة رغم سعة امكانياته، وتفوقه في العدد والعدة والتكنولوجيا.
لم يستطع العدو الصهيوني ان يتفرد بغزة وأهلها، فقد وجد لها عمقاً يتمدد من لبنان الى سوريا فالعراق فاليمن حيث تحاصره صواريخهم وطائراتهم، وتدك الأبعد من اراضيه.
إن ادارة معركة طوفان الاقصى معقدة وتحتاج الى غرفة عمليات مشتركة، وصرامة بالقرار سواء في قطاع غزة او بقية مناطق تحرك المقاومة، فليس من السهل ان تكون النيران المشاركة بهذا الانضباط العالي، وان تكون ادارة الاعلام والتصريحات والمؤتمرات الصحفية بهذه المهنية!
ليس هنالك من يشك بأن جميع الاعلام العالمي وحتى العربي، ما انفك يتهم إيران بأنها وراء هذه المنازلة، وادارة المعركة وتوزيع الأدوار، كلاً حسب مهمته الموكلة إليه، وحين تشعر القيادة في إيران ان أمريكا تريد ان تتمدد أكثر للتدخل في المعركة ترسل رسائلها الى امريكا وخاصة فيما يخص بوارجها الحربية.
لاحظْ ان جميع القمم العربية التي انعقدت بعد معركة طوفان الاقصى، لم تخرج بما ينفع لصالح القضية الفلسطينية ولا لصالح المعركة، بل بدت في حال من الشده دون اي قرار فاعل، فمثلا دولة مصر تقول “ان اسرائيل تمنع دخول المساعدات الى غزة عبر معبر رفح” رغم ان إحصائيات موقع “غلوبال فاير بور” يؤكد على ان مصر تتقدم دول المنطقة بالجيش والتسليح والانفاق العسكري. والسعودية تحمّل امريكا مسؤولية الفيتو ضد قرار وقف إطلاق النار، وعدم الضغط على إسرائيل، فيما تمتلك أكبر ميزانية تسليح في الشرق الأوسط وهي 56 مليار، أما الاردن فإنه يكرر تعاطفه مع اهالي غزة نتيجة ضغط الشارع الاردني، وقطر طبّابة خير لا غير، وباقي الدول العربية بين مطبع ومتخاذل، وآخر يرى في التظاهر تفريغا لشحنات الدعم.
قد يبدو الموقف صعبا في غزة، حيث الموت والقتل والهدم والترويع والتجويع ليصل عدد الشهداء من الضحايا (20) ألف حتى اليوم ال 72، معظمهم من الاطفال والنساء والشيوخ والمرضى، وحيث نقص المؤونة وغيرها، لكن سياق المعركة يؤكد ان المقاومة تصّعد من ضرباتها، وتزيد من عدد قتلى العدو، ومازالت تدّخر الكثير.
أمام المقاومة في غزة امران، اما الرضوخ والاستسلام وبذا (تنتكس القضية الفلسطينية كما شهدت من قبل سلسلة الانتكاسات ونبدأ نحن العرب بجلد ذاتنا -وكم نحسن ذلك – او الاستمرار بالمعركة ورفع منسوب القتال، وايقاع الخسائر بالعدو، متحملين ألمَ الخسائر بالمدنيين من أبناء غزة والضفة الغربية.
المعادلة صعبة وتحتاج الى ادارة ببصيرة عالية ايضا، بين ان تواصل الحرب وانت محاصر من جميع الجهات سوى التخندق وادارة المعركة داخل الخنادق، وبين جموع الضحايا من حولك وهم بين مقتول وجريح، ومريض، ونازح، وجائع.
هناك غرفة عمليات مشتركة تدير ملف المعركة في بعدها العسكري، والسياسي، والاعلامي، والاقتصادي. قد تكون حماس اجتهدت في معركة طوفان الاقصى دون تنسيق مع بقية الفصائل، ولامع الدولة الراعية للمقاومة، وقد يكون هذا الاجتهاد قد عجّل في معركة من المخطط لها ان تُخاض في وقت آخر، كما كان قد اكد ذلك السيد حسن نصر الله في الشهر الثالث من العام الجاري بالقول “لقد اكملنا الاستعدادات للحرب الكبرى”، لكن ادارة المعركة دخلت الى الميدان، وما زالت تدير المعركة وحيثياتها بكل مهارة ودون التنازل عن اي حق من حقوق الشعب الفلسطيني، وكما أوضح وزير خارجية ايران أمير حسين عبد اللهيان “اهدافنا تحرير ارض فلسطين من البحر النهر”، وليس كما يروج العرب بالرضا بحدود عام 1967.
محمود الهاشمي
المصدر: موقع الخنادق