“لسنا على مقاس أحد، وشرعية القيادة الفلسطينية تأتي من الشعب، وصوت الجمهور يُسمع في الانتخابات”، هكذا أوضح أمس رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية، في ختام الجلسة الأسبوعية للحكومة في رام الله. غضب اشتية جاء عقب تقارير نشرت للمرة الأولى في موقع “آكسيوس” حول مضمون المحادثات التي أجراها مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان مع الرئيس محمود عباس الجمعة الماضي. وحسب هذه التقارير، بحث سوليفان مع عباس الحاجة إلى “ضخ دماء جديدة” في السلطة الفلسطينية وتعيين شباب لديهم دافعية وموثوقين، في مناصب رفيعة. وحسب تقرير آخر نشرته “رويترز”، اقترح سوليفان على محمود عباس تعيين نائب عنه ونقل جزء من صلاحياته إليه.
لكن الموضوع الرئيس الذي طرح في المحادثات هو استئناف نشاطات قوات الشرطة والأمن التابعة للسلطة في قطاع غزة. الحديث يدور عن بضعة آلاف من رجال الشرطة والأمن المسجلين في سجل القوة البشرية التابع للسلطة والذين يحصلون على رواتبهم وتدربوا على السلاح. ولكن منذ احتلال غزة من قبل حماس في 2007 هرب عدد كبير منهم إلى الضفة الغربية.
غضب اشتية غير مفاجئ؛ فمن يريد تأسيس سلطة فلسطينية “مجددة” تتحمل المسؤولية عن إدارة قطاع غزة بعد الحرب، لا يمكنه في الوقت نفسه القضاء على بقايا شرعيتها الجماهيرية وتحويلها إلى جهاز يتشكل وفق نموذج تقني، أمريكي أو إسرائيلي. “السلطة المجددة كما تريدها إسرائيل وحلفاؤها ليست سلطتنا. إسرائيل تريد سلطة أمنية – إدارية، في حين أننا سلطة وطنية تناضل لتحقيق الدولة الفلسطينية والاستقلال وإنهاء الاحتلال”، أوضح اشتية.
بخصوص اقتراح تعيين نائب لمحمود عباس، قال المستشار محمود الهباش: “لن نوافق على طلب تقليص صلاحيات الرئيس”. سوليفان، وقبله وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي التقى محمود عباس في تشرين الثاني، تحولا في الأسابيع الأخيرة إلى ضيفين دائمين لدى السلطة الفلسطينية، سواء بلقاءات مباشرة أو بمحادثات هاتفية مطولة. هدف هذه المحادثات واضح؛ فبعد مشاورات بين واشنطن ومصر والأردن وبعض دول الخليج، تبلور اتفاق يقضي بأنه لا يوجد مرشح آخر لإدارة القطاع بعد انتهاء الحرب باستثناء السلطة الفلسطينية.
وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قال في مقابلة مع “سي.ان.ان” قبل أسبوع، إنه “يجب إعطاء السلطة الفلسطينية صلاحية إدارة الأمور في القطاع والضفة الغربية”، ثم أضاف على الفور بأن النقاشات حول هذا الأمر ما زالت سابقة لأوانها، وأنه يجب أولاً وقبل أي شيء العمل على وقف إطلاق النار. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، طرح أفكاراً محددة أكثر. فحسب تقارير في وسائل الإعلام العربية، طلب من الرئيس الأمريكي الضغط على إسرائيل لإطلاق سراح مروان البرغوثي ليتمكن من إقامة سلطة الفلسطينية تحظى بتأييد واسع من الجمهور، في حين يصبح الرئيس محمود عباس رئيساً فخرياً. ولكن السيسي يدرك -وأوضح ذلك للأمريكيين- بأنه لا مناص من دمج حماس في هذه السلطة الفلسطينية. رئيس الحكومة الفلسطيني السابق، سلام فياض، له أفكار خاصة به حول الطريقة التي يجب فيها على السلطة الفلسطينية تحديث نفسها. هذه الأفكار تشمل تشكيل “حكومة خبراء” تعمل مدة ثلاث سنوات، وتعد انتخابات الرئاسة والمجلس التشريعي. يبدو أن الولايات المتحدة غارقة الآن عميقاً في الطاولة على رسم إطار “اليوم التالي”. مع ذلك، يبدو أن الهندسة المعمارية الأمريكية ترسم مساراً تصادمياً بدون شريك إسرائيلي.
ما زالت إسرائيل عالقة في مستنقع المعارضة الحازمة لأي احتمالية أو حتى أي تلميح، بأن تحصل السلطة الفلسطينية على أي مسؤولية في إدارة القطاع. والسلطة الفلسطينية، لا سيما حركة فتح، تشترط عملية سياسية شاملة حتى لاستعدادها لتحمل المسؤولية عن إدارة القطاع. وشرطها الأساسي، على الأقل حسب محمود عباس، هو عقد مؤتمر دولي لمناقشة حل الدولتين. ولكن عقد هذا المؤتمر تحت العنوان الذي يطلبه الفلسطينيون يعني شرخاً سياسياً مكشوفاً وشديداً مع حكومة إسرائيل، حتى قبل أن يكون واضحاً من هو الشريك الفلسطيني في المفاوضات السياسية.
النتيجة أن واشنطن باتت الآن أسيرة في طريق مسدود يحول طلبها نقل إدارة القطاع إلى يد السلطة إلى أمر غير ممكن عملياً، ليس فقط بسبب موقف إسرائيل المتصلب. فواشنطن لم توفر انتقادها الشديد لإسرائيل حول طبيعة العملية العسكرية في القطاع، وحتى إنها تعمل على إملاء جدول زمني لإنهاء العملية وتحديد إطار لها. وشرعية طلبها هي نتيجة المساعدات العسكرية والسياسية غير المسبوقة لإسرائيل. ولكن أمريكا تجد نفسها الآن مقيدة بشكل كبير عندما تريد إملاء طبيعة إدارة القطاع بعد الحرب على إسرائيل، بالأساس لأنها لا تستطيع حتى طرح بديل فلسطيني، أو أي بديل آخر، عن سيطرة إسرائيل المدنية في القطاع.
بدون مشاركة السلطة الفلسطينية، ستجد الولايات المتحدة نفسها في وضع سيكون عليها الموافقة على احتلال إسرائيل المباشر والكامل للقطاع ولفترة طويلة. عندها ستضطر إلى الاكتفاء بدور المسؤول عن سلوك إسرائيل الإنساني، والوسيط لتوفير الغذاء والأدوية بالكمية وبالحجم المطلوب. وثمة احتمالية أخرى، وهي الانتقال إلى العمل الناجع بروحية اقتراحات سوليفان على محمود عباس، مثل البدء في تأهيل قوة شرطة فلسطينية ونقل ميزانيات للسلطة لتمويل الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، وبعد ذلك في القطاع، وإجراء مفاوضات مستعجلة مع مصر ودول الاتحاد الأوروبي حول استئناف اتفاق المعابر الذي وقع في 2005، وترتيب النشاطات في معبر رفح في الطرف الغزي والمصري، والبدء في العمل مع السلطة الحالية ببنيتها الحالية، بدون انتظار إجراء الإصلاحات المطلوبة من أجل تلبية ما عرفه الرئيس الأمريكي بـ “السلطة المجددة”.
عملت الولايات المتحدة وتعمل مع حكومات كثيرة في الشرق الأوسط وخارجه، حتى عندما كانت هذه الحكومات لا تمتثل لطلباتها في إجراء الإصلاحات، باستثناء إظهار الإخلاص للمصالح الأمريكية. مثلاً، تقوم واشنطن بمساعدة لبنان وتمول رواتب الجيش وتوقع على اتفاقات مع الحكومة اللبنانية المؤقتة، والفاسدة والتي لا تحصل على دعم الجمهور، كل ذلك بوقت تضم فيه هذه الحكومة أعضاء يمثلون “حزب الله”. يمكن القول إنه إذا وافقت هذه الحكومة على البدء في المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية بينها وبين إسرائيل كخطوة قبل تطبيق القرار 1701، فلن تطلب منها الولايات المتحدة إجراء أي إصلاحات أو تشكيل “حكومة محدثة” في البداية. بنفس الطريقة، تدفع الولايات المتحدة قدما بعملية سلمية بين الحوثيين والسعودية وبين شطري اليمن، وهي لا تضع أي شرط لهذا الدعم، أن يبدأ الحوثيون بارتداء البدلات والتوقف عن هجماتهم على السفن في البحر الأحمر.
هناك طريقة أخرى لتجاوز شرط السلطة الفلسطينية الأساسي، التي تطلب عملية سياسية على أساس حل الدولتين قبل تولي المسؤولية عن قطاع غزة. تتعهد الولايات المتحدة منذ اليوم بإطلاق هذه العملية حسب الطريقة التي تم فيها ترتيب مؤتمر مدريد في 1991. ولكن مهمة واشنطن هذه المرة تكون أسهل. بعض الدول العربية أصبحت موقعة على اتفاق سلام مع إسرائيل، وستكون السعودية الكأس الذهبية التي ستعطي لإسرائيل الثمن السياسي الذي تطمح إليه. كل هذه القنوات تضمن تصادماً مباشراً بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن هكذا سيستمر احتلال القطاع.
تسفي برئيل
المصدر: صحيفة هآرتس الإسرائيلية
ترجمة: صحيفة القدس العربي