الرأي العام… شبح الديمقراطيات!

Spread the love
image_pdfimage_print

تعكس عبارة والتر ليبمان: «بأن الرأي العام شبح الديمقراطية» مدى القيمة الجوهرية لفاعلية الرأي العام، كما أنها تبرز الطبيعة الخفية، وأحيانا المجردة للرأي العام في المجتمعات الديمقراطية ما يضعنا في وضع حساس ودقيق، من حيث توظيف هذا الرأي لغايات محددة.
ومن هنا، ينبغي أن نشير إلى أن ظهور مصطلح الرأي العام بتكوينه المستقر قد ظهر مع المجتمعات المتمدنة أو المتحضرة، على الرغم من أنه كان قائما مع نشوء الإنسان بتشكيل آخر أقرب للعفوية، وتطور مع اليونانيين، حيث كان المواطنون يجتمعون في «الأغورا» لمناقشة القرارات، واتخاذ قرار بشأن الشؤون العامة، غير أنه سرعان ما تشكل مع المجتمعات التي بدأت تعي أهمية التنظيم تجاه السلطة. ومع تعقّد أنماط الحياة بدأت تظهر هرمية السلطة من أجل ابتكار نظام ينهض على مفاهيم تتصل بتحقيق العقد الاجتماعي، أو التنازل عن شيء من الحرية أو السلطة لصالح القوى التي تضطلع بمهمة الحكم، وبسط النظام، عبر نوع من التعاونية المبنية على مركزية العدالة، لكن الأخيرة تبقى معضلة الإنسان، فلا يمكن الجزم بأنها توجد منذ أن وطأ الإنسان على هذه الأرض، فالإنسان كائن مسكون بالطمع، والجشع، والحسد، وهي الخطايا التي كافحتها الأديان كافة، كما الفلسفات.. من أجل كبح جموح تعطش الإنسان للاستحواذ والسيطرة.
يُشار إلى أنه مع تصاعد تعقيد المجتمعات الحديثة ظهر مفهوم الأمم بمعناه الناجز في القرون الأخيرة، ما أضفى على الرأي العام قيمة مضاعفة، فأصبح الصوت الذي يعبر عن آراء الشعوب التي تنازلت عن جزء من رأيها لصالح السلطة التي تتبع تنظيما هيكليا، ونعني بذلك المجتمعات السوية، من حيث توفر ثلاث سلطات، لكن ثمة أيضا الصحافة، ودورها القيمي في تصحيح الاعوجاج الذي يمكن أن يطرأ لدى هذه السلطات. وفي زمن فقد الإعلام مصداقيته بسبب الارتهان للقوى، ومجموعات المال، كما الحرص على تبادل المصالح، ما أنتج التعامي عن الحقائق كما يحصل الآن في الحرب الأخيرة على غزة، حيث نلاحظ عوار وسائل الإعلام، ولا مهنيتها، مما يتطلب قوة جديدة لا تعتمد التواطؤ، ولاسيما عند تعطل السلطات الثلاث، بالإضافة إلى الإعلام ما دفع إلى النظر إلى الرأي العام على أنه سلطة شعبية تلجأ إلى اختصار الوسائل عبر الاحتجاج والمظاهرات، والنزول إلى الشارع، وهو ما تهابه جميع الحكومات، أو تخشى منه.
في عصر التنوير اكتسب مصطلح «الرأي العام» المزيد من الزخم، حيث ناقش فلاسفة مثل جان جاك روسو وجون لوك دور الرأي العام في تشكيل العقود الاجتماعية، علاوة على تشريع السلطة السياسية التي أمست جزءا من طريق حتمي للتطور قبل أن تنتكس الحضارة الغربية بتورط النموذج الحداثي في إنتاج العنف والحروب والموت والإبادة الجماعية، ونعني الحقبة الاستعمارية، والحربين العالميتين. في القرن التاسع عشر لعبت وسائل الإعلام الجماهيرية (الصحف والمجلات) دورا كبيرا في تكوين ونشر الرأي العام، ومن المساهمين أليكسيس دي توكفيل، كما في عمله «الديمقراطية في أمريكا» الذي اكتنه تأثير الرأي العام في المجتمعات الديمقراطية، بينما في القرن العشرين فقد كان لظهور الراديو والتلفزيون، ولاحقا الشبكة العنكبوتية دور في تعديل آليات تكوين الرأي العام، لتصبح دراسة الرأي العام أكثر نظامية مع تطور استطلاعات الرأي، وأبحاث السوق لتظهر مؤشرات جديدة لمقارعة النظم المؤسساتية.
إن بروز وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تفكيك منظومة الإعلام المتحيز؛ ولهذا فإن الأجيال الجديدة بدت أكثر وعيا، فتشكل رأي عام أكثر واقعية، وموضوعية تبعا لقدرته على تحرّي المعلومة، وتجاوز فعل الانتقاء الخطابي الذي تمارسه وسائل الإعلام التقليدية، كما أنه يمكن أن يشكّل عامل ضغط على حكومات فاسدة، أو متحيزة كما نرى الآن في الحكومات الغربية، التي تدعم الكيان الصهيوني على حساب توجهات شعوبها، ومصالحها الوطنية، ما دفع إلى الاحتكام للشارع الذي بدا مزعجا للكثير من الحكومات.
يبرز الرأي العام تقريبا ضمن تعريف يتصل بمجموع الاتجاهات والمعتقدات ووجهات النظر لدى السكان، أو جزء كبير منهم حول القضايا ذات الصلة بالمجتمع. وبذلك فإنه يعدّ مفهوما معقدا ومتعدد الأوجه يتأثر بالعوامل الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، كما أنه يتأثر بالأعراف الاجتماعية، ووسائل الإعلام، وسياسات الحكومة، والخطاب العام، ما يجعله من الحساسية بمكان، مع التأكيد على أهمية العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى تضليل الوعي، في ظل غياب توجيه فعلي للحقيقة.

تعلل محدودية التأثير بغياب أدوات للضغط، نتيجة غياب الديمقراطية، فالجماهير غير قادرة على إسقاط حكومة، أو تغييرها؛ أضف إلى ما سبق وجود فئات تمتلك مصالح عضوية مع السلطة، فتحاول أن تسوق لها، وأن تنتج رأيا آخر يشوش رأي الأغلبية

غير أنّ مفهوم الرأي العام في العالم العربي لطالما كان أشبه بحضور وهمي غير قادر على تحقيق معيارية الأدبيات، التي صاغت مفهوم الرأي العام، فالرأي العام في العالم العربي يبدو متسقا مع حسابات السلطة التي كرست ثقافة قارة بأنها فوق الرأي العام، أو مؤيدة بقوى مقدسة تجعلها فوق النقد أو الانتقاد، كما أنها ترى نفسها الأعلم بمصلحة الشعوب التي يُنظر إليها في دوائر السلطة على أنها جاهلة، وغوغائية، وقاصرة، وغير ناضجة، وفي بعض الأحيان مأجورة، فالسلطة وحدها تحتكر الحقيقة، وتختار الأنسب.. لكن لمن؟
لعل هذا يعود إلى نمط عميق من التراث الذي كرس مفاهيم السلطة المطلقة، والقمعية، ومقولات: ومنها: ولي الأمر، والقائد.. اتكاء على تراث ينهل من مقولات الحاكم بأمر الله، والمؤيد، والعارف، والقديس، التي تبدو محوا لقيم التفكير والعقل، مع تغييب الوعي، وغير ذلك من الممارسات التي تجعل الشعب خاضعا للقيم السلطوية حتى في بعض أشكال الديمقراطيات التي تبدو صورية.. إذ يبقى الرأي العام هامشيا، وإذا ما خرجت بعض المظاهرات، أو شهدت قضية ما ضغطا فإنها تبقى متلاشية في الظل، ولا يمكن أن تحدث تغييرا في الوقائع، على الرغم من وضوح مطالبها وعدالتها..
تعلل محدودية التأثير بغياب أدوات للضغط، نتيجة غياب الديمقراطية، فالجماهير غير قادرة على إسقاط حكومة، أو تغييرها؛ أضف إلى ما سبق وجود فئات تمتلك مصالح عضوية مع السلطة، فتحاول أن تسوق لها، وأن تنتج رأيا آخر يشوش رأي الأغلبية، ولهذا فإن الرأي العام العربي يقسم إلى ثلاثة أقسام: النوع الأول جاهل – تسليم مطلق للسلطة (رأي عام مغيّب) بطابعه العفوي أو المنظم، النوع الثاني رأي عام عفوي، محدود التأثير يجري تكريسه أو تنسيقه أو إنتاجه لامتصاص الغضب الشعبي في قضايا لا يمكن أن نتجاهل عدالتها، وغالبا ما يكون هذا الرأي مصنوعا، ومعدا بعناية لاستهلاك الطاقة العاطفية، والنوع الثالث: رأي عام حقيقي لكنه مقموع، لا يملك الأدوات القادرة على الضغط؛ ولهذا فإن ما يحدث الآن في غزة يكشف هشاشة الوقائع العربية، حيث لا يوجد رأي عام يمكن أن يحدث تغييرا على مواقف السلطة، أو خياراتها، بل إن الشعوب العربية تراقب أثر الرأي العام الغربي بداعي قلة حيلتها، أو بحثا عن تغيير واقع مأساوي نتيجة غياب الفاعلية السياسية المتعلقة باتخاذ القرار في العالم العربي تجاه الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني. ومع أن الرأي العام الغربي قد بدأ يُحرج الحكومات في حالات محددة، ولاسيما في ما يتعلق بالكيان، غير أنها تتجاهل الرأي العام، نظرا لارتهانه لعامل أقوى يتصل بالبقاء في السلطة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تداعيات خطيرة، فمع السقوط الأخلاقي للغرب في اختبار غزة على مستوى الحكومات، بيد أن الشعوب تبقى أكثر وعيا من حيث الإيمان بحريتها التي ترى أنها شيئا مقدسا، علاوة على أنّ المروية التي صاغتها نظم غربية بائدة كانت مسكونة بالإرث الاستعماري، الذي غدا مجالا قابلا للنقض، والنقد بطابعه التقليدي، فالأجيال الجديدة من المواطنين الغربيين هم نتاج ثقافة مغايرة عن كلاسيكية العقول، التي ظهرت مع القرن التاسع عشر، وبدأت آثارها بالانحسار مع الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ومع ذلك، فلا يمكن إنكار حرص المؤسسة السلطوية على تكريس قيم الإرث الكلاسيكي لمفاهيم الإمبراطوريات الكولونيالية في وعي النخب الجديدة التي تضطلع بالمهمة السياسية، وفي مواجهة هذا فإن الرأي العام الشعبي سيبقى متحررا إلى حد ما من هذه الثقافة، ما يعني أنّ الهوة بين الحكومات الغربية كما العربية، وشعوبها قد باتت تتسع، ولاسيما مع مزيد من أكاذيب الساسة والتضليل الذي يمارسونه لا لخدمة مصالح شعوبهم.. إنما لمصلحتهم الذاتية التي تتصل بشبكة قوى تجعلهم قادرين على الاستمرار في العملية الاستعمارية المضمرة عبر تمكين الذيول الاستعمارية التي أنتجتها، وتسعى للمحافظة عليها.

رامي أبو شهاب

المصدر: صحيفة القدس العربي