رسائل إلى لمار
“هل تودين شرب كوب من الماء يا عمتي؟” تعلمين كم أحب شرب الماء يا لمار، كنتِ دائماً تعلّقين على شربي للماء بكثرة، لذا فالسؤال لا يحتمل إلا إجابة واحدة.
النوم في الممرات بين غرباء
كان قد مضى على وجودنا في مستشفى القدس أنا وجدك وجدتك وبعض أعمامك 12 يوماً يا لمار، لم أذق فيها طعم الماء الذي يذكرني بآدميتي، الماء هنا إمّا ماء صنبور غير صالح للشرب، أو ماء البئر غير المفلتر، ورغم الخطر فهذا لا يمنع اصطفاف الناس لتعبئة زجاجات وأوانٍ منه، حين يصطف أبناء عمومتك ساعات أحياناً من أجل ملء “غالون” وبضع زجاجات منه.
اللمسة الأولى للكوب أذهلتني، يا لحلاوة تلك اللمسة يا عمتي، كوب من الماء المفلتر البارد أشبه بمعجزة في غزة اليوم، ملمس الكوب الكرتوني في تلك اللحظة أدخلني جنة بعيدة، فبكيت، بكيت لأن نفسي عزّت عليّ، هل يدهشني كوب ماء بارد؟ هل يبكيني؟
اللمسة الأولى للكوب أذهلتني، كوب من الماء المفلتر البارد أشبه بمعجزة في غزة اليوم، ملمس الكوب في تلك اللحظة أدخلني جنة بعيدة، فبكيت، بكيت لأن نفسي عزّت عليّ، هل كوب الماء البارد هو سبب مشروع للبكاء؟
البرودة دخلت أصابعي التي بدأ جلدها بالتقشر، جعلت الملح يسيل من عيني بصمت، بعد 12 يوماً في المستشفى والمكوث في ممر ضيق أمام عيون أناس لا أعرفهم، أصبت خلالها بتصلب في عظامي، أنام يا حبيبتي على الأرض مباشرة، ولا يفصل بيني وبين برودتها إلا غطاء صوفي.
كأس ماء بارد في غزة
بكيت لأن الماء كان بارداً، هل هذا من أسباب البكاء المشروعة؟ لكن وكما هو حال من يعانون من عزة النفس، بكيت بصمت.
تساقطت بضع دموع تجمعت في نهاية المطاف على ذقني داخل الكوب الكرتوني، لم أكترث بطعمها، لكن كفاي بقيتا تمسكان ببرودة جدار الكوب، تعلمين معنى تلك البرودة التي نذوقها على مدار العام في البلاد التي ارتحلنا إليها بحثاً عن الأمان، البرودة هناك كانت مجانية.
نزلت الرشفة الأولى في فمي، وتذوق لساني طعم البرودة في صيف كصيف غزة الذي طال هذا العام على غير العادة، المياه وهي تنزل في جوفي تدفع معها مزيداً من الملح إلى عيني، أنظر إلى الكوب وإلى الماء المتبقي فيه حتى لا يكتشف أحد ممن حولي مدى هشاشتي في تلك اللحظة، وحتى لا أضطر لمواجهة التساؤلات التي تقفز من الأفواه والعيون ولا طاقة لدي للإجابة عنها عن سبب بكائي.
عيون غريبة وفضولية تحيط بي طوال الوقت، تسألني أسئلة لا أفهمها ولا أعرف لم يوجهونها إلي، تعلمين يا لمار كم يستفزني تحديق العيون فيّ، وكم أبدو عدوانية حينما التقط نظرة فضولية، لكننا هنا متاحون ومستباحون طوال الوقت أمام بعضنا البعض، مستباحون للأسئلة ومتاحون للأحاديت السخيفة، ومتاحون للنميمة وتأويل كل شيء ولا رفاهية لدى أحد منا في اقتناص لحظة خصوصية واحدة.
جلدي يتقشر من ماء البحر
هل قلت لكِ إن جلد أصابعي الذي يحيط بالكوب قد بدأ بالتقشر قليلاً؟ ألم أقل لك إن الماء الذي نغسل به وجوهنا يأتي مباشرة من البحر؟ هذه ليست صورة مجازية، فحتى الماء الذي ينزل من الصنبور تنزل معه رغوة زبد البحر، وطعم البحر، ورائحة البحر، وهكذا يمكنني كل يوم ملامسة بحر غزة وشمه.
رشفة أخرى من الماء البارد، أدعها تملأ كل جوانب فمي كي تزيل منه طعم الملح، ثم أتركها تنزل في حلقي بمنتهى البطء والسلاسة، وكأنها أمر بديهي. عيناي مغمضتان وتمتصان كل لحظة من برودة تلك القطرات وحلاوتها.
فاصل قصير… قصف
ربما لا تعلمين محتوى هذه الفواصل القصيرة، حسناً، بضع رشقات صاروخية ومدفعية تتطاير فوق رؤوسنا، طيور رخ لا يعرفها جيلك من الصغار بعد، وربما لم يسمع عنها من قبل، هي طيور عملاقة حينما تملأ السماء لا يمكنك بعدها التمييز إن كنا في ليل أم في نهار حتى لو كانت ساعتك تشير إلى الثالثة بعد العصر.
فاتنة الغرة
المصدر: موقع رصيف 22