قالت الصحافية نسرين مالك بمقال نشرته صحيفة “الغارديان” إنه بينما تمتلئ الشوارع في لندن وغيرها بأعداد متزايدة من المؤيدين لفلسطين – ومع احتجاج كبير مخطط له في وسط لندن في نهاية هذا الأسبوع، يبتكر الساسة والمعلقون البريطانيون طرقا جديدة لوصف ما يحدث بـ”مسيرات الكراهية”، على حد تعبير وزيرة الداخلية سويلا برفرمان، لتفريغ المظاهرات من أي مظهر للفضيلة.
ومن جانب آخر، وصف رئيس الوزراء ريشي سوناك بالفعل مسيرة نهاية الأسبوع الحالي، والتي تتزامن مع يوم الهدنة، بأنها “استفزازية ولا تحترم” يوم الهدنة في الحرب العالمية الأولى.
وتعلق الكاتبة أن كل محاولة لتصوير هذه الحركة على أنها تهديد هي في الحقيقة رفض لمحاولة فهم ما يجري. وحقيقة أن عددا كبيرا من الناس في بريطانيا يمكن أن يشعروا بقوة تجاه الوضع في غزة، في حين أنهم ليسوا “مهووسين” بفلسطين أو مدفوعين بالتعاطف مع الإرهابيين.
كل محاولة لتصوير حركة التضامن مع الفلسطينيين على أنها تهديد هي في الحقيقة رفض لمحاولة فهم ما يجري
وتشير إلى أن البعض قد يكونون حذرين من هذه المسيرات بحسن نية، وهذا أمر مفهوم. وتتابع أن حوادث الكراهية المعادية للسامية التي تم الإبلاغ عنها في بريطانيا آخذة في الارتفاع.
وتضيف أن الدعم لفلسطين قد يبدو مشكوكا فيه من الجمهور الذي لا يؤيد العديد من القضايا المماثلة الأخرى.
فلماذا تدفع هذه القضية الكثيرين إلى الخروج إلى الشوارع، في حين أن العديد من المظالم الأخرى حول العالم تقابل بالصمت؟. والجواب ليس واضحا تماما، ولكنه ليس شريرا. ذلك أن قضية فلسطين ليست الظلم الوحيد في العالم، لكنها ذات صدى فريد.
وهناك قوة تاريخية واتساق للصراع – كل تلك السنوات من الاحتلال غير القانوني والتهجير والسلب وإعادة التوطين – مما يمنح القضية شكلا ومكانا في العقل العام تفتقر إليه القضايا الأخرى.
وتمثل أيضا ظلما أقرته ومكنته الحكومات الغربية، التي تسلح إسرائيل في الصراع وترفض إدانة أفعالها. ولا يقتصر الاحتجاج على إسرائيل فحسب، بل على الحكومات المحلية والسياسيين الذين ينظر إليهم على أنهم ليس لهم يد في إخضاع الفلسطينيين عديمي الجنسية فحسب، بل في صياغة إطار أخلاقي كامل لذلك.
ومع اقتراب عدد القتلى في غزة من ما يقدر بنحو 10 آلاف شخص، فإن الادعاء بأن الخسائر في الأرواح أمر يبرره “حق إسرائيل المفتوح في الدفاع عن نفسها” يصبح غير مقبول على نحو متزايد.
وتقول الكاتبة إن القضية الفلسطينية كانت ومنذ فترة طويلة جزءا من صراع مترابط من أجل تقرير المصير والمساواة لليسار الدولي. ولكنها تقع أيضا على نحو متزايد عند تقاطع السخط العالمي والاقتصادي المعاصر ــ وأصبحت مندمجة في حركة العدالة الاجتماعية والعنصرية.
القضية الفلسطينية أصبحت مندمجة في حركة العدالة الاجتماعية والعنصرية
وفي عام 2021، أصدرت حركة “حياة السود مهمة” بيانا أعلنت فيه “التضامن مع الفلسطينيين”. جداريات جورج فلويد ظهرت في غزة والضفة الغربية. لقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأممية أكثر سهولة في الوصول إليها. الجندي أو الشرطي المدجج بالسلاح الذي يضع قدمه على رقبة شخص ما، ونقاط التفتيش والشوارع والأحياء المعزولة – هذه الصور لها صدى في الماضي والحاضر للأشخاص الذين جربوا السلطة التي تتصرف دون خوف أو عقاب، والذين يشعرون في مجتمعاتهم بتفاوت في قيمة حياة الناس.
وتضيف أن هناك بساطة عالمية للصراع الذي يتجاوز الأيديولوجية السياسية – حول حق الإنسان الأساسي في دولة كاملة السيادة، والعيش في بيته بأمان وكرامة.
وكما أوضح الصحافي تا- نيهيسي كوتس مؤخرا في مقابلة، بعد أن زار الأراضي الفلسطينية المحتلة، أن ما رآه كشف له “مدى سهولة فهم الأمر في الواقع”. وقال: “لست بحاجة إلى درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط، لفهم الأخلاقيات الأساسية خلف إبقاء الناس في وضع لا يتمتعون فيه بالحقوق الأساسية”.
ولكن لا بد من فهم هذه الاحتجاجات أيضا باعتبارها إرثا من “الحرب على الإرهاب”، التي تم تبريرها على أساس الأخلاق والأمن ــ مصير النساء في أفغانستان، أو التهديد بالإبادة ــ ومع ذلك تم فضحه بأنه لا يزيد عن كونه غضب انتقامي، واستعراض خاطئ للقوة.
فقد كان إرث هذين العقدين بمثابة حصاد مرير – ملايين القتلى، ومنظمات إرهابية تستغل زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وكراهية الإسلام، وتقليص الحريات المدنية، والشعور المستمر بأننا لا نستطيع أن نثق في قادتنا أو النظام السياسي الذي ضمن عدم المساءلة.
وإذن من غير المستغرب أنه عندما تحاول إقناع الناس بأنهم يجب أن يثقوا بحكومتهم فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإنك تقابل باستقبال متشكك.
وتعلق الكاتبة أن الاحتجاج شيء عجيب، إنه مزيج من العقلاني والعاطفي والقبلي. وبعيدا عن كونه علامة على العدوان، فهو غالبا ما يكون تعبيرا عن العجز والإحباط وانعدام التأثير في السياسة.
ويمكنك أن تحاول تحديد القيم المتطرفة من أجل استخلاص بعض التطرف السيء أو الغرور الجاهل، ولكن غالبا ما يكون جوهر كل ذلك هو شعور عام بأن شيئا ما ليس مقبولا، وأن أولئك الذين يطلبون منك العودة إلى المنزل و يعتقدون أنهم يعرفون ما هو أفضل لا يمكن الوثوق بهم. وربما يكون هناك دافع آخر أيضا ــ الشعور بالراحة والطمأنينة في مجتمع مفتت، في العثور على آخرين يسيرون معك ويحملون معتقداتك على محمل الجد، وخاصة عندما لا يتم تمثيلها أو أخذها على محمل الجد في مكان آخر.
إن رفض التفكير في أنه قد يكون هناك شيء يستحق التفاعل معه، عندما يخرج مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع، لا يتعلق فقط بالخلاف أو الخوف مما قد يتم إطلاق العنان له. من السهل عموما الاستهزاء بالاحتجاج في زمن الحرب لأنه لا ينجح على نطاق واسع، وينظر إليه على أنه تافه ولا معنى له في وقت تكون فيه المخاطر كبيرة على الأرض في أماكن أخرى.
وقال كيرت فونيغوت: “خلال حرب فيتنام، كان كل فنان محترم في هذا البلد ضد الحرب. كان مثل شعاع الليزر. وتبين أن قوة هذا السلاح تعادل قوة فطيرة الكسترد التي تسقط من سلم بارتفاع ستة أقدام”. لكن الاحتجاج مهم، حتى لو لم تكن العواقب فورية. والواقع أن الجهر باللاأخلاقية والتهور الذي اتسمت به حرب فيتنام جعل حماقتها تصبح أكثر وضوحا بمجرد انتهائها ــ ولا يمكن الادعاء بأن ذلك كان إدراكا متأخرا. لقد توقع العديد من الناس مآسي حرب العراق بوضوح، وعلى هذا فإن مهندسي هذه الحرب لا يستطيعون تبرير قراراتهم الرديئة بالشكل الذي يريدون.
ولهذا السبب فإن تبسيط أو تجاهل الدعم الشعبي لفلسطين فكرة سيئة. فهو يعتمد، بوعي أو بغير وعي، على دروس الماضي وإحباطات الحاضر.
ربما لا يكونون حاصلين على درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط، ولكن على المدى الطويل، ثبت أن حدس أولئك الذين دافعوا عن ضبط النفس والرحمة والالتزام بالقانون الدولي وعدم جدوى الانتقام الدموي، أنهم محقون. وفي الوقت الذي تتعرض فيه أجزاء من الشرق الأوسط لزعزعة الاستقرار، فقد تثبتت صحة حدسهم مرة أخرى.
المصدر: صحيفة الغارديان البريطانية
ترجمة: صحيفة القدس العربي