“حماس هي داعش”، وسنهزمها كما هزم العالم المتنور “داعش”، هكذا قال رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بانفعال أول أمس. تنظيم “داعش”، للأسف الشديد، لم يُستأصل تماماً، ويجب التذكر بأن “العالم المتنور” لم يسارع إلى العمل ضد “داعش” ما دام هذا التنظيم يركز على احتلال مناطق في سوريا والعراق ولا يضع دول الغرب على قائمة الأهداف.
المقارنة مع “داعش” مريحة الآن بسبب الدلالات التي تظهر في كل مرة يطرح فيها اسم هذا التنظيم والتضامن الدولي الذي يمكن لاسم هذا التنظيم أن يجنده. الأفلام المفبركة جيداً للإعدام وقطع الرؤوس وقطع الأعضاء واغتصاب النساء واختطاف المدنيين… نقشت جيداً في الذاكرة الجماعية وحولت هذا التنظيم إلى رمز مطلق، ليس فقط للشر عديم الحدود، بل للشر الإسلامي الذي أزاحت القاعدة صوره من مكانته السابقة، بعد أن نفذ [القاعدة] عمليات الحادي عشر من أيلول في 2001 فأنستنا مذبحة فظيعة نفذها الروس في غروزني، عاصمة الشيشان، قبل سنة، أو المذابح القاتلة في أوكرانيا.
لكن المقارنة مع “داعش” لا يمكن أن تخفي الفرق الكبير في طبيعة القتال ضد التنظيمين. حلف غير مكتوب وحد الدول الإسلامية ودول الغرب في الحرب ضد “داعش”، من مصر والسعودية وإيران والمغرب وحتى فرنسا وبريطانيا وبالطبع الولايات المتحدة. “داعش” وضع تهديداً وجودياً على أنظمة الشرق الأوسط وعلى الأمن المدني في دول الغرب. فتاوى كثيرة لفقهاء من السنة والشيعة اعتبروا هذا التنظيم تنظيماً إرهابياً، بل اعتبروه تنظيماً يعمل ضد الشريعة وهو مناهض للإسلام. أما حماس، فلها مكانة مختلفة تماماً.
السعودية ومصر اعتبرتا حركة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، لكنهما امتنعتا عن اعتبار حماس منظمة إرهابية (مصر في الحقيقة اعتبرتها هكذا في 2015، لكن المحكمة ألغت هذا التعريف، ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه المنظمة من الشرعي التفاوض معها). أغلق الأردن مكاتب حماس في 1999، لكنه سمح لعدد من قادتها بزيارة الأردن لأغراض شخصية. روسيا والصين وقطر وجنوب إفريقيا وتركيا وبالطبع لبنان وسوريا وإيران، هذه قائمة جزئية لدول حاربت بشكل فعلي أو على الأقل أدانت “داعش”، لكنها لا تعتبر حماس منظمة إرهابية، بل إن يستضيف على أراضيها ممثليات رسمية لهذه المنظمة، وبعضها لها علاقات تتراوح بين عادية ووثيقة معها. حماس رغم أيديولوجيتها الدينية فإنها تعتبر في نظر الجمهور العربي جزءاً لا يتجزأ من النضال الوطني الفلسطيني. “داعش” كان يمكنه أن يحلم بهذه المكانة.
عدد من هذه الدول يشكل جبهة داخلية اقتصادية لحماس، حتى لو لم يكن ذلك بشكل رسمي وممأسس. هي تسمح للمنظمات والجمعيات على أشكالها بتحويل الأموال لها ولا تمنع مواطنيها من تقديم التبرعات ووضعها في حساباتها البنكية. من السهل جداً الإشارة إلى إيران بأنها مصدر التمويل الوحيد لحماس، وأن تُضم بذلك إلى محور الشر الدولي وتجاهل المساعدات التي تحصل عليها حماس من دول ومنظمات في أرجاء العالم. من يسعى إلى تدمير “البنية التحتية” لهذه المنظمة واستئصال حماس مثلما تم استئصال “داعش” فهو بذلك يسهل الأمر على نفسه عندما يقوم بتدمير البيوت في غزة ويقطع الكهرباء عن 2 مليون شخص ويفرض الحصار الشامل، لا يسمح حتى بإدخال السلع الضرورية مثل الأدوية والغذاء. هذا الأسلوب اعتبر في السابق مفهوماً جديداً استهدف استبدال المفهوم القديم القائل بأن الأموال تشتري الهدوء. ولكنه مفهوم ثبت أنه خاطئ في نهاية المطاف. على الفور سنصل إلى ذلك.
أسس معادلة “الأموال مقابل الهدوء” وُضعت في 2006 عندما جرت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. كانت حماس فازت فيها بأغلبية 44 في المئة مقابل 41 في المئة لفتح. ولكن بسبب طريقة الانتخابات المختلطة، فإن فوز حماس جلب لها 74 مقعداً في المجلس مقابل 45 لفتح من بين الـ 132 مقعداً. مئات آلاف الكلمات كتبت عن هذه الانتخابات، معظمها مليئة بالانتقاد لمجرد إجرائها وقصر النظر والفشل الاستخباري في تقدير نتائجها. ولا يقل عن ذلك أهمية التشجيع المالي والسياسي للولايات المتحدة لإجرائها. ولكن أصبحت مياه راكدة تحت الجسر. إسرائيل والولايات المتحدة وحركة فتح قاطعت نتائج الانتخابات والحكومة التي حاول إسماعيل هنية تشكيلها. من هنا تدهورت الأمور بشكل سريع. وصلت الذروة عندما احتلت حماس غزة في حزيران 2007، بعد أن انهارت بضجة كبيرة جميع الجهود لتشكيل حكومة فلسطينية موحدة. مرة على خلفية توزيع المناصب والميزانيات، ومرة أخرى بسبب رفض حماس التمسك باتفاقات أوسلو، كما طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس – رغم أن إجراء الانتخابات التي شاركت فيها حماس وفازت فيها بشرعية الجمهور جاء نتيجة اتفاقات أوسلو التي ترفضها.
في إسرائيل، المتضررة من حرب لبنان الثانية واختطاف جلعاد شاليط قبل ذلك بسنة، فإن الحرب الداخلية الفلسطينية في غزة والتي قتل فيها مئات الأشخاص، كانت نوعاً من الراحة. من الصعب استعادة الشعور بالفرح الكبير الذي ساد في وسائل الإعلام الإسرائيلية عندما نشرت صور نشطاء “فتح” الذين تم طردهم من غزة بالملابس الداخلية. فرضت إسرائيل في ذلك الصيف الإغلاق الشامل على غزة، لكن سرعان ما أدركت أنه رغم الانفصال عن غزة في 2005 فإنها ما زالت تحتل غزة من الخارج. من هنا بات المطلوب منها اهتمام باحتياجات سكانها الاقتصادية. وخلال أقل من سنة تحول الحصار إلى رافعة سياسية. في البداية، في 2008، عندما وقعت على الهدنة الأولى مع حماس، تعهدت إسرائيل بتقديم تسهيلات مقابل الحفاظ على الهدوء. بعد ذلك، وفي كل مرة تم فيها خرق الهدنة وكانت هناك حاجة إلى استئنافها عقب كل عملية عسكرية كبيرة، فقد شكلت تسهيلات الإغلاق عملة قابلة للتداول في المفاوضات غير المباشرة التي أجرتها إسرائيل مع حماس بوساطة مصر. ولكن الأموال والتسهيلات في الحصار لم تشتر الهدوء فقط، وبذلك حظيت بشرعية جماهيرية، بل ترجمت إلى أداة سياسية قوية.
من هنا يأتي الخطر الكامن
في نيسان 2011 أعلنت قيادتا فتح وحماس عن اتفاق مصالحة (اتفاق القاهرة)، الذي تضمن تشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات لم يتم تحديد موعد لها في حينه، والتي لم يتم إجراؤها حتى الآن. رأى نتنياهو أن هذا مثل إعلان الحرب. في بيان مسجل نقل رسالة شديدة لعباس جاء فيها “على السلطة الفلسطينية الاختيار بين السلام مع إسرائيل أو السلام مع حماس… لا يمكن صنع السلام مع إسرائيل وحماس معاً”، وكأن نتنياهو كان يقف مع اتفاق سلام جاهز للتوقيع! الشرخ بين حماس وفتح كان هو القاعدة القوية التي أقام عليها نتنياهو سياسته، وهي السياسة التي عرضها على كل وسيط حاول الدفع قدماً بالعملية السياسية. الأسئلة الرئيسية كانت: هل يستطيع عباس السيطرة على حماس؟ هل يمكنه محاربة إرهاب حماس؟ ما لم تتوفر ردود إيجابية على هذه الأسئلة، فلا جدوى من إجراء المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، لأنها لا تمثل كل الجمهور الفلسطيني.
من هنا يأتي الخطر الكامن والملموس في أي مصالحة فلسطينية، الذي قد يقدم الجواب الذي لم يرغب نتنياهو في الحصول عليه. الطريقة هي محاربة حماس، لكن في الوقت نفسه عدم القضاء عليها، ليس لحاجة من يدير الحياة المدنية في غزة فحسب، بل ولإيجاد سور واق أمام أي عملية تقتضي من إسرائيل ثمناً سياسياً.
مفهوم “الأموال مقابل الهدوء” لم يكن مفهوماً انهار بشكل مفاجئ، بل استراتيجية أهدافها سياسية يمكن تحقيقها عن طريق ترسيخ كيانين فلسطينيين شبه مستقلين، واحد في غزة والآخر في الضفة. التكتيك الذي وقف في أساس حملة تصفية قادة حماس في 2004 حل محل الاستراتيجية التي تحدثت عن “تصفية البنى التحتية للإرهاب”، لكن ليس تصفية قيادته. كان يمكن أن يحقق الهدوء الردع العسكري والعمليات واسعة النطاق وكثيرة القتلى والتدمير، أما الأموال والتسهيلات في الحصار كان يمكن أن تضمن حكم حماس وتقوي مكانتها كي تستطيع وقف مبادرات سياسية أخرى. هذه العملية فعلت فعلها؛ فأكثر من 14 محاولة مصالحة علنية بين فتح وحماس انهارت منذ 2007. صحيح أن الاختلافات الداخلية، الأيديولوجية والسياسية، هي التي عززت الانقسام، لكن غياب دعم إسرائيل للسلطة الفلسطينية وتحويل الأموال مباشرة لحماس، ليس عن طريق السلطة، وهو إضرار متواصل لمجالات مسؤولية رام الله، وخلال ذلك جرت نقاشات متقدمة حول إعادة إعمار غزة… كل ذلك حافظ بشكل جيد على “سيادة” حماس.
بأثر رجعي، كان هذا استراتيجية زائدة، حتى في أيام ضعفها لم تعتبر حماس نفسها شريكة لفتح أو للسلطة الفلسطينية منذ إقامتها. أيديولوجياً، هي لم تتنازل عن فكرة تحرير كل أرض فلسطين وإقامة دولة شريعة. يبدو أن الحديث يدور عن منظمة براغماتية لم تتردد في قطع العلاقات مع سوريا عقب المذبحة ضد المدنيين في الدولة، لأنها خشيت من أن تفقد الدعم العربي. وهذه عملية كلفتها فقدان تمويل إيران لفترة معينة.
في الميثاق الجديد الذي نشرته حماس في 2017 تنازلت عن علاقتها مع حركة الإخوان المسلمين، الحركة الأم، من أجل إرضاء مصر والسعودية. بل قررت بأن هدفها هو إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وأن نضالها ضد المشروع الصهيوني وليس ضد اليهودية. ولكن تبين أنها البراغماتية نفسها التي مصدرها حركة الإخوان المسلمين، التي قد تشكل الوسيلة للوصول إلى الحكم من أجل تطبيق أيديولوجيا متشددة وغير متسامحة. “إخلاص” حماس لمعارضة أي عملية سياسية مع إسرائيل كان مضموناً مع وجود مساعدات مالية أو بدونها. الخطأ هو أن إسرائيل تعاملت مع حماس كمنظمة دافعها سياسي وليس أيديولوجياً. منظمة يمكن إعطاؤها الأموال وتحقيق نتائج من ذلك.
الآن، بقيت إسرائيل بدون استراتيجية وبدون “مفهوم”، بل ما زالت هي المسؤولة عما يحدث في غزة وعن المليوني نسمة فيها. إن الحرب ضد حماس وكأنها “داعش” هو شعار كاذب وبالتأكيد ليس استراتيجية. عندما تم استئصال “داعش” من المناطق التي احتلها كان للسكان الذين كانوا يعيشون في هذه المناطق دولة يعيشون فيها، وكان النظام سيكون المسؤول عنهم في كل المجالات. لم يكن هناك سؤال من الذي سيحكم هناك بعد انسحاب “داعش”. من الخيال في هذه الأثناء التفكير بوضع ستتحمل فيه السلطة الفلسطينية المسؤولية عن إدارة غزة، وحتى لو بقي لحماس و”الجهاد الإسلامي” والتنظيمات الأخرى عشرات الآلاف من جنودها والمخلصين لها، لن يُسمح للسلطة بموطئ قدم في القطاع.
“مفهوم” الأرض المحروقة الذي تتبناه إسرائيل الآن لن يمكن أي قيادة محلية بديلة من ملء الفراغ والحكم على حراب إسرائيل. بدون حل سياسي شامل يضمن حكماً فلسطينياً مستقلاً وموحداً في جزأي دولته. ليس في إسرائيل حكومة ستوافق على ذلك، ويبدو أنها لن تكون في المستقبل القريب.
تسفي برئيل
المصدر: صحيفة هآرتس الاسرائيلية