في أواخر 1994، بعد نحو سنة من التوقيع على اتفاق أوسلو، عقد في كازبلانكا في المغرب مؤتمر أعمال شرق أوسطي خاص لأول مرة يدعى إليه رجال أعمال من إسرائيل بشكل رسمي. كان يفترض أن يكون لقاء احتفالياً يؤشر إلى الفرص الاقتصادية التي كان يفترض أن توفرها رؤية “الشرق الأوسط الجديد” لصاحبها شمعون بيرس. لعجب المضيفين من المغرب، كان الإسرائيليون المجموعة الأبرز والأكبر من بين رجال الأعمال في المؤتمر.
بعد وقت قصير من انتهاء أعمال المؤتمر، هبط كتاب من وزارة الخارجية الأمريكية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، جاء فيه أنه سيكون على الإسرائيليين في المرة التالية، وفقاً لرسائل نقلت من المغرب إلى الأمريكيين، أن يبرروا حماستهم وحضورهم ولو قليلاً. لم يكن التخوف المغربي من الصفقات مع الإسرائيليين، بل العكس؛ تخوفوا من سيطرة مفاجئة للإسرائيليين، ممن اعتبروا من ذوي ثقافة محافظة أقل وعلمانية أكثر وغربية أكثر – ثقافة غريبة عن المنطقة. في نظر المضيفين، كان من شأن البروز الإسرائيلي أن يؤثر سلباً على الثقافة التقليدية المحلية.
وجدت الوثيقة في أرشيف يوسي بيلين، وكتبت قبل نحو ثلاثة عقود. غير أنه في العقود التي انقضت، اجتازت إسرائيل مسيرة متسارعة من الاستشراق في مجال الثقافة الشعبية – مسيرة لا تتجاوز الأشكناز والشرقيين على حد سواء. هذا واضح في الموسيقى، التي سميت ذات مرة شرقية وهي اليوم التيار المركزي؛ في اللغة التي أبقت الكلمات بالعربية بتعابير دارجة، فيما تسللت اليوم أيضاً إلى البيانات الرسمية (في إحدى حملات الانتخابات الأخيرة، عقّب مكتب وزير الدفاع غانتس على اتهامات غريبة ضد زوجته في البيان بأنه “خرطة”، وهذا واضح، بالطبع، في الطعام أيضاً (من يبحث عن طعام يهودي في مطاعم نيويوركية سيجد اليوم شيئاً ما في رغيف وليس بيغل مع لاكس.
غير أن الجمال الذي في مسيرة الاستشراق الثقافي لإسرائيل تترافق، للأسف، مع تبني مزايا الثقافة السياسية العربية في المنطقة أيضاً.
هل يمكن فهم سنوات نتنياهو الطويلة في الحكم، على نحو منقطع تماماً عن حقيقة أن الحكام في الدول المحيطة بنا لا يميلون للتغيير، على أقل تقدير، كما أنه يمكن التفكير في سياق إقليمي إزاء الإصلاح القضائي. بدلاً من تشبيه ما يجري عندنا ببولندا وهنغاريا، قد ندرك بأن التشريع المناهض لليبرالية نابع من رغبة في التسهيل على الحكم والعمل بلا قيد، باسم “الحوكمة”، تماماً كما هو متبع في الدول المجاورة لنا.
وإذا لم يكن كل هذا بكاف، فمن شأن إسرائيل أن تصبح مجتمعاً إقطاعياً، مثل لبنان الذي ينقسم إلى طوائف مختلفة. فعندهم “تل أبيبهم” كما الحال عندنا، فالليبراليون اللبنانيون يواسون أنفسهم في جزيرتهم الثقافية – بيروت. وبالفعل، حين نحيي ثلاث سنوات على اتفاقات إبراهيم، ونوشك أن نكون أمام اتفاق مع السعودية، نأخذ بالحسبان بأنه فضلاً عن جملة المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية، فإن التغيير في صورة إسرائيل الثقافية سيجعل الانخراط في المنطقة سهلاً أكثر. عندما استقبلت دول الخليج آلاف السياح من إسرائيل عقب اتفاقات إبراهيم لم يصعب عليها أن تشخص بأن لنا ديناً مختلفاً، لكن من جهة أخرى، في عهد كورونا كان عرض عومر ادام في دبي هو الجذب الفني الأكبر للإسرائيليين والمحليين على حد سواء.
للاستشراق الثقافي سياقات إيجابية: انفتاح على المنطقة القريبة والانخراط فيها. ربما نحلم بانتعاش ثقافي متبادل بين الدولة اليهودية والثقافات العربية، الذي يتم بخلاف الشكل الذي حلم به هرتسل وبن غوريون لتصميم إسرائيل، على نحو منقطع عن منطقة “الهلال الخصيب”.
لكن عندما يتم هذا الانخراط بالالتفاف على اللغم الحقيقي الذي يفترض به أن يؤدي إلى التعايش في المنطقة – المصالحة مع الفلسطينيين – فإننا نقيم الحلف الشرق أوسطي على تصدير تكنولوجيا أمنية إلى جانب امتصاص ثقافة سياسية فاسدة وتبني قيم محافظة.
وبدلاً من انتعاش ثقافي متبادل بين الدولة اليهودية والدول العربية، سنجد أنفسنا كدولة عربية أخرى، مع أغلبية يهودية فقط، في الشرق الأوسط.
آفي شيلون
المصدر: صحيفة يديعوت أحرونوت الاسرائيلية
ترجمة: القدس العربي