رغم تزاحم الأحداث العالمية، إلا أن الضوء سلط من جديد على قطاع غزة الساحلي ذو المساحة الضيقة، بسبب معاناة سكانه الذين يفوق عددهم المليوني مواطن جراء الحصار الإسرائيلي المشدد المفروض عليهم منذ 17 عاما، والذي يحرمهم من كل مقومات الحياة الطبيعية لأي شعب على وجه الكرة الأرضية، وفي مقدمتها حق السفر والتنقل بحرية، علاوة عن آثاره الكارثية على المستوى الاقتصادي، التي رفعت معدات الفقر والبطالة، وحولت حياة السكان إلى جحيم.
وفي قطاع غزة ضيق المساحة البالغة 365 كيلو مترا مربعا، تتحكم سلطات الاحتلال بالمعابر فيه سواء ذلك المخصص للأفراد وهو بيت حانون «إيرز» أو المخصص للبضائع «كرم أبو سالم» فيما تبقى حركة السفر على معبر رفح الفاصل عن الأراضي المصرية بطيئة جدا، ولا تلبي حاجة السكان المحاصرين، وهو ما دفع جهات عدة للتفكير في إطلاق حملة، هدفها التخفيف من حدة الحصار، بالابتعاد عن مسارات المعابر الإسرائيلية، التي يقتصر المرور بها للحالات الإنسانية والمرضية فقط، تقوم على أساس إيجاد ميناء بحري للقطاع، يسهل حياة السكان.
الحصار طال الغذاء الأساسي
وفرضت إسرائيل حصارها على قطاع غزة، بعد سيطرة حركة حماس على الأوضاع، واعتبرت القطاع «كيانا معاديا» وزعمت وقتها أن هدفها من الحصار هو إضعاف الحركة وإسقاط حكمها، غير أن الحصار طال جميع مناحي حياة السكان، وحولها إلى جحيم، وكثيرا ما دعت الأمم المتحدة إلى رفع الحصار بشكل فوري، غير أن طلباتها لم تجد أي تجاوب.
وهنا السكان في قطاع غزة، عانوا وما زالوا من آثار الحصار الإسرائيلي الذي فرض عليهم بشكل مشدد منذ منتصف شهر حزيران/يونيو من العام 2007. فبموجب الحصار شددت سلطات الاحتلال إجراءات تحكمها في البداية ليس في كمية البضائع الغذائية الأساسية التي تمر إلى قطاع غزة، بل تحكمت في كمية السعرات الحرارية التي تخصص لكل ساكن في القطاع، في دلالة على حجم الرقابة على المعابر، والتي حرمت وقتها السكان من الحصول على العديد من المواد الغذائية، بحجة أنها غير أساسية، إلى جانب تقليص كميات الدقيق والزيوت والبقوليات.
وقد حول الحصار قطاع غزة لسجن كبير، فمن الشمال والشرق هناك أسلاك شائكة وجدران أسمنتية تفصل القطاع عن حدود المستوطنات الإسرائيلية، وفي الغرب البحر الذي يخضع لتشديدات عسكرية ومراقبة من البحرية الإسرائيلية، ومن الجنوب الحدود مع مصر، والتي يوجد فيها معبر رفح، الذي يعمل بطاقة قليلة، لا تفي احتياجات السكان.
ولم تكن ادعاءات سلطات الاحتلال بإدخال تسهيلات على الحصار سوى «ذرا للرماد في العيون» فالتسهيلات اشتملت فقط على زيادة في كميات السلع التموينية الأساسية، التي تعتبر حقا لكل مواطن، وزيادة أيضا في كمية البضائع التي تمر لصالح المؤسسات الدولية التي تقدمها على شكل مساعدات، وإدخال مواد بناء مقننة لصالح مشاريع دولية، فيما يجري التحكم في الكميات الأخرى، إلى جانب تقنين دخول بعض المواد الخام، ومنع إدخال عشرات الأصناف من تلك المواد الخام.
ويعني كل هذا الأمر، أن التسهيلات التي أدخلت، هدفها تخفيف حدة الجوع، وليس القضاء على الفقر والبطالة، فالمساعدات والمواد التموينية جعلتها متوفرة في الأسواق، في الوقت نفسه فإن غالبية السكان لا يستطيعون شرائها لعدم توفر الأموال اللازمة بحوزتهم، مع استمرار تصنيفهم ضمن صفوف البطالة المرتفعة، وهو أمر يعود بالدرجة الأولى إلى توقف مئات المصانع وورش العمل، بسبب الحصار الذي لا يزال يمنع إدخال المواد الخام المخصصة لها، كما أجبرت الكثير من تلك المصانع والورش على التوقف، بسبب استهدافها بالقصف والتدمير خلال هجمات شنتها قوات الاحتلال في السنوات الماضية، وقد كان يلاحظ في كل حرب أو تصعيد عسكري، أن لتلك المنشآت نصيبا واضحا في التدمير الممنهج.
ارتفاع معدلات الفقر والبطالة
وفي دلالة على عدم اتخاذ أي إجراءات ملموسة لإنهاء الحصار، حسب الطلبات الدولية، يستمر واقع الحياة الأليم الذي يعاني منه السكان، حيث لا تزال معدلات الفقر والبطالة على حالها، إذ تقدر نسبة البطالة بنحو 50 في المئة من عدد السكان، فيما تفوق نسبة الفقر الـ 65 في المئة من السكان، ولا يزال 80 في المئة منهم يعتمدون على مساعدات خارجية لتدبير أمور حياتهم اليومية.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن نسبة البطالة في صفوف الشباب الخريجين وصلت لـ 75 في المئة حيث يعاني 162 ألف خريج من البطالة من قرابة 300 ألف عاطل عن العمل.
ويمكن ملاحظة هذا الأمر من كم الشباب والرجال الذين إما تراهم يتجولون في الشوارع، أو يجلسون أمام منازلهم، في ساعات الصباح والظهيرة، لعدم توفر العمل اللازم لهم، كما يمكن ملاحظة الأمر عند المرور أمام المصانع والورش الصناعية، التي إما لا تزال مغلقة، أو تعمل بالحد الأدنى، بعد أن قلصت عدد العاملين.
ويؤكد المسؤولون في الغرفة التجارية، أن العمل في الكثير من المصانع بقدرات مقلصة، يعود أيضا إلى وقف سلطات الاحتلال عملية التصدير لبضائع غزة المصنعة، واقتصار عملية التصدير المقننة على كميات قليلة من الخضروات.
ويقول ماهر الطباع مدير العلاقات العامة في الغرفة التجارية بغزة، الحصار تسبب في مؤشرات اقتصادية كارثية لها انعكاسات سلبية على الواقع الاقتصادي في قطاع غزة، ويؤكد أن القطاع بحاجة إلى إنهاء كافة الأسباب التي أدت إلى هذا الارتفاع الهائل في معدل البطالة فيه، والمتمثلة في إنهاء الحصار، ورفع القيود المفروضة على غزة منذ سنوات طويلة، حتى تتحسن ظروف القطاع بشكل كبير. ويقول سلامة معروف رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، إن الحصار الإسرائيلي، تسبب في تراجع إنتاج القطاع الصناعي في الناتج المحلي إلى نحو 1 في المئة فقط بعد أن كان يساهم بـ5.7 في المئة من الناتج، وأنه أدى إلى توقف أكثر من 2500 منشأة ومصنع، تم تدميرها بشكل كلي أو جزئي خلال السنوات الماضية، ما تسبب بتفاهم المعاناة.
ويوضح معروف أن الاحتلال لا يزال يمنع إدخال أكثر 1200 مادة من المواد الخام، إضافة لإعاقة حركة التصدير التي تمثل مورداً مهماً من موارد الاقتصاد الفلسطيني، كما يعاني من الحصار قطاع الصيادين، حيث أدى إلى تراج عدد العالمين في هذا القطاع إلى 2000 بعد أن كان يصل لنحو 5000 وذلك جراء سياسة التقييد التي يمارسها الاحتلال على الصيادين، ومصادرة أدواتهم ومراكبهم والانتهاكات الممارسة بحقهم باستمرار.
كما ترك الحصار آثارا خطيرة على القطاع الصحي، تمثلت في منع الاحتلال أكثر من 6000 مريض سنوياً من الخروج للعلاج عبر معبر بيت حانون، ما تسبب فقدان أكثر من 400 مريض لحياتهم، كما أوضح أن الحصار تسبب بفقدان ما يقارب من 43 في المئة من الأدوية داخل وزارة الصحة وأكثر من 25 في المئة من المستهلكات الطبية، إضافة إلى أن الاحتلال يمنع إدخال عشرات الأجهزة التشخيصية والطبية، وقطع غيار العشرات من الأجهزة الطبية المتوقفة عن العمل.
ويقول سامي العمصي رئيس نقابة العمال في غزة، إن الحصار ينذر بانفجار الأوضاع داخل القطاع وخروجها عن السيطرة، وأشار إلى أن إسرائيل بإجراءاتها تعمل على «تعميق الأزمة الإنسانية لسكان القطاع، من خلال سياسة منع دخول البضائع أو الأدوية أو الوفود الطبية والإغاثية».
ودعا المؤسسات الدولية ووكالة الغوث بتحمل مسؤوليتها وزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة لأهالي قطاع غزة في ظل استمرار الحصار المفروض من الاحتلال الإسرائيلي، كما شدد على ضرورة أن تخرج الدول العربية والمجتمع الدولي عن صمتهم والعمل الجدي والحقيقي على كسر الحصار، وتخفيف المعاناة الإنسانية والأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
حملة افتحوا الموانئ
شهدت الأيام الماضية حدثين مهمين بسبب إجراءات الحصار المشددة المفروضة على قطاع غزة، الأول تمثل بعودة تنظيم مسيرات شعبية للشبان قرب الحدود الشرقية، شهدت مواجهات شعبية حامية الوطيس، أسفرت عن سقوط عدد من الشهداء وعشرات الجرحى، ودامت تلك الفعاليات لمدة أسبوعين، لجأت في بدايتها سلطات الاحتلال بدلا من تخفيف إجراءات الحصار، إلى تشديده وذلك من خلال إغلاق معبر بيت حانون «إيرز» في وجه العمال لمدة 13 يوما، ما كبد القطاع خسائر مالية قدرها 1.5 مليون دولار يوميا، قبل أن تعيد فتحه من جديد، بالتزامن مع وقف تلك الفعاليات بناء على وعود بتخفيف وطأة الحصار، وليس إنهاءه بالكامل، رغم أن هناك مطالبات ودعوات دولية مستمرة تشدد على وجوب إنهاء هذا الوضع المتدهور الذي يعيشه سكان غزة.
أما الحدث الثاني، فتمثل في انطلاق، الحملة العالمية لكسر الحصار عن غزة، بعنوان «افتحوا موانئ غزة» وهي حملة هدفت إلى تسليط الضوء على معاناة سكان القطاع المستمرة.
وجاء ذلك في مؤتمر صحافي عقدته الحملة في دولة الكويت، حيث انطلقت أول فعاليات الحملة يوم 22 اب/أغسطس، وتقرر أن تستمر حتى نهاية الشهر، لتشمل على عدة فعاليات أبرزها التظاهرة البحرية التي نظمت في عدة عواصم عربية وأوروبية في وقت متزامن.
وأكدت حملة «افتحوا موانئ غزة» على مسؤولية العالم أجمع في توفير أبسط مقومات العيش الكريم لأهل قطاع غزة، والاستمرار في دعم الشعب الفلسطيني، وأشارت إلى أن الواقع الاجتماعي والإنساني والاقتصادي في القطاع يتدهور كل لحظة بسبب الحصار المتواصل، نظراً إلى عجز المجتمع الدولي عن إنهاء الحصار الذي وصف حسب تقارير أممية، بأنه جريمة ضد الإنسانية، ولا سيما بسبب حالة التجويع وانعدام الأمن الغذائي بسبب هذه السياسة، ودعت اتحاد المحامين العرب لرفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني لمطالبته برفع هذا الحصار، ومعاقبته على كل الجرائم الإنسانية التي ترتبت عنه.
وخلال انطلاق فعاليات الحملة في غزة، التي تمثل في تظاهرة بحرية، من خلال مراكب خرجت من مرفأ الصيادين بمدينة غزة، صوب الحدود البحرية الشمالية للقطاع مع دولة الاحتلال، رافعة للأعلام الفلسطينية ولافتات تنادي بإنهاء الحصار، قال يسرى درويش، متحدثا باسم مؤسسات المجتمع المدني، إن الشعب الفلسطيني لن يقبل بأن يتعرض للموت البطيء، مؤكدا أن هذه الفعاليات تعد جزءا من عمل مشترك ومستمر لايصال عدة رسائل للعالم بأن الشعب الفلسطيني له الحق بإقامة دولته الفلسطينية على أرضه وله الحق بأن يستخدم موانئه ومعابره. وأكد أن هذه الفعاليات توجه رسالة بأن افتحوا موانئ غزة، بحيث ترسل رسائل عديدة بان يتم رفع الحصار عن غزة وأنه لا يمكن السكوت عن الظلم الذي يتعرض له، وقال مستهجنا «لا يعقل ان يستمر الحصار على مدار 17 عاماً بها تقييد لحرية السفر والتضييق على الصيادين وتكدس الخريجين العاطلين عن العمل وتعطيل حركة التجارة البحرية والبرية لخارج القطاع» وشدد على ضرورة اعتبار الحصار المفروض على غزة «جريمة يعاقب عليها المجتمع الدولي» قائلا إن رفع الحصار مسؤولية العالم.
وأشار إلى أن هذه الفعالية تأتي ضمن حملة دولية في 25 تجمعا من دول عربية وأوروبية، وترسل رسائل عديدة تقول للعالم أنه لا يمكن أن نبقى صامتين ولن نقبل استمرار الحصار على غزة.
وضمن تلك الفعاليات، نفذ حشد من المواطنين في لبنان قبل أيام، وقفة تضامنية لكسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، في إطار الحملة الدولية «افتحوا موانئ غزة» كما نظمت فعاليات أخرى في تركيا والأردن وعدة عواصم أجنبية.
وبهدف إسناد الحملة، نظمت حملة تغريد على مواقع التواصل على وسم «»#افتحوا موانئ غزة» و «#»opengazaports ركزت على فضح سياسات الاحتلال، وما يعانيه سكان غزة بسبب الحصار.
وتهدف الحملة إلى التعريف بمأساة السكان في غزة، ودفع الدول والمؤسسات الإغاثية، نحو تفعيل نشاطها الخيري، وتنفيذ مشاريع تساهم في تخفيف الحصار.
منع وصول القوافل البحرية
والجدير ذكره أن الاحتلال ألغى مشروع إقامة ميناء تجاري لقطاع غزة، وذلك بعد اندلاع أحداث «انتفاضة الأقصى» قبل 23 عاما، بعد أن كان قد أعطى موافقة على المشروع، بناء على «اتفاقية أوسلو» كما دمر الاحتلال بعد اندلاع تلك الانتفاضة مطار غزة الدولي، الذي لم يدم العمل به إلا لوقت قصير، وكان يعتبر ممرا سهلا يسلكه السكان للعالم، من دون المرور بإجراءات السفر المعقدة عبر معابر الاحتلال، أو السفر عبر الأراضي المصرية وهي رحلة سفر طويلة جدا. وفي غزة يوجد مرفأ صغير مخصص لمراكب الصيادين، وكان هذا المرفأ قد استضاف في سنوات الحصار الأولى، عددا من السفن التي انطلقت من موانئ أوروبية بهدف كسر الحصار المفروض على السكان، وتلك السفن الصغيرة كانت تقل عددا من المتضامنين الأجانب.
لكن بعد تشكيل تحالفات دولية لكسر الحصار، من خلال تنظيم رحلات بحرية بسفن أكثر عددا، تقل بعض المساعدات والناشطين، لجأت سلطات الاحتلال إلى منع وصول تلك القوافل التي أطلق عليها اسم «أسطول الحرية» بالقوة، ولجأت إلى دفع قواتها الخاصة لاقتحام تلك السفن، وكان أعنف تلك الهجمات ما تعرض له أسطول الحرية الأول في شهر ايار/مايو من العام 2010 وقد أدى ذلك الهجوم إلى استشهاد عشرة متضامنين أجانب جميعهم يحملون الجنسية التركية، وإصابة العشرات بجراح، وقامت خلالها قوات الاحتلال بمصادرة تلك المراكب وما بداخلها من مساعدات، ومنعت إدخالها لسكان القطاع المحاصرين، ولجأت بعد ذلك إلى منع سفن أخرى من الوصول لغزة، بسبب تحكمها بشكل غير قانوني بالحدود البحرية، وقد ارتكبت بعض الهجمات على قوافل المساعدات ضمن الحدود البحرية الدولية.
كما قامت سلطات الاحتلال بمنع سفن بحرية تقل مسافرين من غزة للعالم، من الوصول إلى وجهتها، وكان ذلك حين اعترضت «سفينة الحرية» في تموز/يوليو من العام 2018 واعتقلت من عليها من طلبة ومرضى، قبل أن تطلق سراحهم بعد استجوابهم، لكنها أبقت على اعتقال ربانها لعدة سنوات.
أشرف الهور
المصدر: صحيفة القدس العربي