اهتم الموريتانيون منذ القدم بالكتب وبذلوا مهجهم وخاطروا بأرواحهم لاقتنائها وصرفوا الأموال الطائلة، وحملوها في قوافل الإبل، وكان لهم بها إسهامهم المشهود في العلم والمعرفة عبر أفريقيا والوطن العربي. وقد أسسوا مكتباتهم الأهلية معتمدين على مصادر متعددة من أهمها الشراء والتأليف والاستنساخ والإهداء.
واهتم الموريتانيون خلال القرون الماضية بالتأليف واقتناء الكتب والمخطوطات شراء واستنساخا فتشكلت في نقاط عديدة من البلاد، وخاصة في المدن التاريخية، مكتبات أهلية ضمت آلافا من نوادر الوثائق المخطوطة والمطبوعة.
غير أن المصاعب المادية والكوارث المناخية والنكسات التي منيت بها المدارس التقليدية الموريتانية صرفت الاهتمام بالمكتبات وبما تزخر به من مخطوطات، ما جعل هذه المكتبات اليوم تؤول إلى وضعية متردية رغم غناها وتنوع مضمونها.
مكتبات عمومية
بعد أن كانت المكتبات أهلية بالكامل ينقلها أصحابها على ظهور الإبل، شهدت موريتانيا بعد الاستقلال تأسيس عدة مكتبات، حيث رأت المكتبة الوطنية النور عام 1962 وتأسست بعد ذلك مكتبات المدرسة الوطنية للإدارة عام 1966 والمدرسة العليا لتكوين الأساتذة والمفتشين عام 1973 وجامعة نواكشوط عام 1981 والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية عام 1981 هذا فضلا عن تأسيس قسم المخطوطات بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي الذي تأسس عام 1974 ومكتبات أخرى عديدة.
دواعي الاهتمام
وعن دواعي الاهتمام بالمكتبات الأهلية يقول الدكتور الباحث محمدن ولد امّين أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط، «هذا الاهتمام يعود لجملة اعتبارات من أهمها كون المكتبات الأهلية تغطي تقريبا عموم التراب الوطني؛ ومنها اشتمال هذه المكتبات على الكثير من المخطوطات التي تتناول موضوعات متنوعة والتي تشكل تراثا مشتركا بين الموريتاني وجيرانه من العرب والأفارقة».
وزاد «من هذه الاعتبارات أيضا، خصوصية الظروف التي أفرزت هذه المكتبات، فقد امتازت المخطوطات الموريتانية المحفوظة بها بكونها ألفت أو استنسخت وحفظت تحت الخيمة أو داخل الكوخ، بل تحت ظل الشجرة أو العريش أحيانا، أي في ظروف حفظ بالغة السوء، ما يجعلها تعاني أكثر من غيرها من الوثائق مخاطر جمة».
وأضاف «من اعتبارات الاهتمام بهذه المكتبات كون هذه المخطوطات، وهي غالبية مخزون المكتبات الأهلية، تشكل موردا ثرا لعلم التاريخ والعلوم المساعدة، ذلك أن علم الآثار المتعلق بالمخطوطات(codicologie) وثيق الصلة بالتاريخ، فالمخطوطات، يقول الباحث، وعاء لتاريخ وفكر وفن الأسلاف وذاكرة للأمم وإخبار عن الإنسان وعلاقاته بالبيئة، وهي إلى ذلك أصول الكتب المطبوعة لأن كل كتاب مطبوع كان يوما ما مخطوطا».
وقال «من دواعي الاهتمام بالمكتبات الأهلية تنوع مؤلفي هذه المخطوطات من علماء وفقهاء ومفتين ورحالة وحجاج وشعراء وأدباء ومؤرخين وجغرافيين وتجار ودبلوماسيين وساسة، ما يُثري وينوع محتوياتها، إضافة لاشتمال هذه المكتبات على مخطوطات تحوي، بغض النظر عن موضوعاتها، إشارات مفيدة للمؤرخ كالتكميلات والإهداء والشراء والعقود وتاريخ النسخ واسم الناسخ ونوعية الخط والورق ومصدر المخطوط».
مكتبات أهلية عريقة
تشمل المكتبات الأهلية المكتبات الشخصية أو الأسرية أو الوقفية الموجودة في المدن التاريخية الموريتانية (تيشيت، شنقيط، وادان، ولاته) كما تشمل خارج موريتانيا مكتبة العلامة محمد محمود بن التلاميد الشنقيطي (المتوفى 1904 بالقاهرة) والذي قام برحلات علمية متعددة إلى الحجاز ومصر وتركيا وإسبانيا جمع خلالها مكتبة تضم مئات الكتب المخطوطة والمطبوعة.
ويقدر عدد المكتبات الأهلية بحوالي 300 مكتبة وقفية أو خصوصية متفرقة في مدن وقرى وأرياف موريتانيا.
وتختزن هذه المكتبات تراثا مخطوطا يعتقد أنه يبلغ حوالي أربعين ألف (40.000) مخطوط تتناول موضوعات شتى، وفقا لما ذكره الباحث الموريتاني أحمد ولد محمد يحيى الرئيس السابق لقسم المخطوطات بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي.
كنوز شنقيط
الزائر لمدينة شنقيط التاريخية الموريتانية المصنفة ضمن التراث الإنساني، سيصاب بالدهشة إزاء ما تحويه مكتباتها من ذخائر المخطوطات ونوادر الوثائق ونفائس الكتب.
وتغطي المخطوطات، وفقا للمعهد الموريتاني العلمي، فترة زمنية تمتد من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر، شاملة لعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية الشريفة والفقه وخاصة الفقه المالكي المذهب الفقهي المتبوع في المغرب العربي، إضافة لفنون اللغة العربية وعلومها وآدابها، ولعلم الفلك والرياضيات والهندسة والتاريخ والطب والجغرافيا وغير ذلك.
ومن أبرز مكتبات شنقيط الأهلية مكتبات: أهل حبت، وأهل أحمد محمود، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامَّنِّي، وأهل عبد الحميد، وأهل الوداعة، وأهل السبتي، وأهل الخرشي، وأهل بلعمش.
مخطوطات نادرة وتراث بكر
يقول سيف الإسلام ولد أحمد الهيبة، المشرف على مكتبة أهل أحمد محمود، المحاذية لجامع شنقيط العتيق أن مكتبته كانت تضم في رفوفها أكثر من سبعمئة مخطوط، غير أن ذلك العدد تناقص بسبب عوامل الطبيعة من رطوبة وحرارة ومطر، بالإضافة إلى سبب آخر هو ظاهرة سرقة الكتب والآثار من طرف لصوص المكتبات.
وأوضح سيف الإسلام أن مكتبته تضم مخطوطات نادرة، من أبرزها مصحف كتب على رَقِّ الغزال، وشرح المَكُّودي على ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وجزء من كتاب الشمائل للإمام الترمذي، وكتاب في وفيات الأعيان لابن خِلِّكَانْ، وكتاب في المواقيت مطبوع على الآلة الحجرية في مصر.
ويقول الدكتور محمدن ولد امّين أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط «أن جزءا كبيرا من المخطوطات الموريتانية الموجود ضمن المكتبات الأهلية في طول موريتانيا وعرضها، لم تصله بعد جهود البحث ما يجعله تراثا بكرا قد لا يخلو من ثراء وقيمة تاريخية، وبالتالي فإن البحث عنه وانتشاله من المخاطر يعتبر مهمة ملحة».
ثمرة النهضة الثقافية
ربّما يستغرب المرء للوهلة الأولى ارتفاع هذه الأرقام بالنظر إلى قلة عدد سكان موريتانيا، ويؤكد الدكتور محمدن ولد امّين أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط في دراسة له بعنوان «المكتبات الأهلية في موريتانيا (ركن مكين من التاريخ الثقافي الشنقيطي)» بأن هذا الاستغراب سيرتفع حين يلاحظ المرء أن وجود هذا الكم الكبير نسبيا من المكتبات الأهلية والمخطوطات يجد تفسيره في النهضة الثقافية والنشاط المعرفي اللذين ميزا بلاد شنقيط خلال القرون الثلاثة الأخيرة، حيث كثرت التآليف ونشط اقتناء المخطوطات، فقلّ أن تجد مدينة أو قرية أو حتى نقطة تجمع لحي بدوي إلا وبها مكتبة أو مكتبات أهلية.
وقال «ومن الطريف في هذا الباب أن الحصول على الكتاب لدى الموريتاني كان من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، فقد أثر عن الموريتاني قولهم: إن الضنّ بأي شيء عن الهبة عيب إلا الكتب، وإن كل سؤال يعد عيبا إلا سؤال الكتب، وإن السرقة فعل مجرم في الدين والعرف إلا إذا كان المسروق كتابا».
الاهتمام بالمكتبات الأهلية
ووفقا لما أكده الدكتور محمدن ولد امّين أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط، فقد اهتم بعض الباحثين الفرنسيين خاصة بالمكتبات الأهلية الموريتانية منذ مطلع القرن العشرين؛ وفي سنة 1950 نشر الأستاذ المختار بن حامد والباحث الفرنسي آلب لريش جردا بيبليوغرافيا للمخطوطات الشنقيطية، وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي قام الباحث المختار بن حامد والخبير الدولي آدم هيموفس بوضع فهرس مؤقت للمخطوطات ضم أزيد من 2000 مخطوط لحوالي 394 مؤلفا.
وحين رأى المعهد الموريتاني للبحث العلمي النور سنة 1974 أسندت إليه مهمة العناية بالمخطوطات فتم إنشاء قسم خاص بالتراث الموريتاني المخطوط، وأصبح يمتلك عن طريق التصوير والشراء مخزون مخطوطات يربو على ستة آلاف وثيقة بعضها مخطوطات مرممة، وبينها وثائق وعقود ومراسلات تاريخية تبلغ 1500 مخطوط تحتاج للحفظ والتنظيم، ودواوين شعرية تبلغ 440 وتحتاج للمراجعة والتحقيق، إضافة لمخطوطات غير منظمة أو مجهولة المؤلف أو ناقصة البداية أو النهاية، وهي في حاجة ماسة إلى العناية.
كما تمكن المعهد في إطار التعاون الخارجي من إنجاز فهارس لمكتبة أهل الشيخ سيديا بمدينة أبي تلميت ومخطوطات مدينة تيشيت، ومخطوطات مدينة ولاته، ومخطوطات المعهد الموريتاني للبحث العلمي، هذا فضلا عن نشر فهرست لجزء من المخطوطات العربية بموريتانيا، ومخطوطات شنقيط ووادان، وتجهيز فهرست مخطوطات ولاته والنعمة في الشرق الموريتاني، للنشر.
صيانة وتثمين
في سنة 2000 رأى النور مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني، وذلك بموجب اتفاقية قرض موقعة في تشرين الأول/أكتوبر 2000 بين الحكومة الموريتانية والبنك الدولي تمنح هذه المؤسسة المالية بمقتضاها، قرضا بمبلغ ستة ملايين(6.000.000) دولار أمريكي لموريتانيا موجهة لصالح التراث الثقافي للبلد.
وكان هدف هذا المشروع الأساسي هو وضع استراتيجية موريتانية في مجال التراث الثقافي بما فيه المخطوطات.
وقد نظم المشروع في نيسان/إبريل 2002 ندوة دولية حول المخطوطات الموريتانية بهدف تعميق التفكير حول إشكالية هذه المخطوطات وسبل ووسائل توجيه وتنسيق المعالجة والحفظ والتثمين على الصعيد الوطني.
واهتمت الندوة بإعداد سياسة وطنية وخطط وبرامج لحماية وتثمين المخطوطات الموريتانية بالاشتراك مع ملاك المخطوطات.
وأسفرت هذه الندوة عن جملة من الاقتراحات من أبرزها تحسيس الرأي العام بقيمة هذه المخطوطات مضمونا وشكلا، وإعداد خريطة وطنية شاملة للمكتبات الخصوصية التي تحتوي على بعض المخطوطات، وخلق إطار فني لجرد وفهرسة المخطوطات، وإعداد ونشر فهارس مكتبات المخطوطات العامة والخاصة، إنشاء شبكة وطنية للرابطات الموريتانية المهتمة بالمخطوطات، وإعداد مشروع قانون لحماية المخطوطات.
جرد وتخزين
وقد قام مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني بعملية جرد للمخطوطات على الصعيد الوطني أسفرت عن حصر أزيد من 23 ألف مخطوط وضعت ضمن قاعدة بيانات شملت مختلف المعلومات المتعلقة بالمخطوط (المكان، النوع، الموضوع، المؤلف، التاريخ، الدعامة، الحالة، الصفحات، إلخ.)..
وفي مجال حفظ المخطوطات اقتنى المشروع أربعين ألف (40.000) حاوية خاصة صممها فني بالمكتبة الوطنية الكبرى بباريس، وهي تراعي القواعد العلمية الجديدة للحفظ وتضع في عين الاعتبار الحرارة والرطوبة والتهوية ضمانا لمقاومة تقلبات الطقس والمناخ، كما أنها خالية من المواد الحمضية والملوثة ومحكمة الإغلاق، وبالتالي فهي مضادة للتآكل والصدأ.
وقد قام المعهد الموريتاني للبحث العلمي بتوزيع هذه الحاويات مجانا على ملاك المخطوطات لحفظها، كما مول المشروع إنجاز دار عمومية للمخطوطات في مدينة شنقيط شمال موريتانيا، لم يكن الهدف من بنائها مجرد حفظ المخطوطات، وإنما استثمارها أيضا في نطاق السياحة الثقافية.
ومراعاة للطرق الحديثة في حفظ وعرض المخطوطات المتبعة في العالم استقدم المشروع لتأسيس هذه الدار مهندسا مختصا في الفن المعماري وحفظ المخطوطات والتخزين والعرض المغري.
ورغم أن الجناح (أ) من هذه الدار قد اكتمل بناؤه فعليا منذ عدة سنوات، فإن أصحاب المكتبات الأهلية بشنقيط يرفضون حتى اليوم نقل مخطوطاتهم إليه مع أنه سيساهم مساهمة فعالة في حفظها من عوادي الزمن وغيرها من التحديات المحدقة.
واقع وخطة إنقاذ
يرى الدكتور محمدن ولد امّين أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط «أن العناية بالتراث الوثائقي الموريتاني وخاصة جزأه الموجود بالمكتبات الأهلية مسؤولية تتجاوز إمكانيات وصلاحيات أصحاب هذه المكتبات، لأن التراث الذي تختزنه هو تراث وطني، بل إن من ضمنه ما يمكن اعتباره تراثا إنسانيا؛ ولهذا، يضيف الدكتور امين، فإن هذه المسؤولية مشتركة ويجب أن تساهم فيها أطراف عديدة لعل من أهمها السلطات العمومية، والسلطات المحلية، والمنتخبون المحليون، والمجتمع المدني، والمجتمع العلمي».
وأضاف «نظرا لجسامة المخاطر التي تهدد المخطوطات، فإن خطة عمل إنقاذها في تصورنا يمكن أن تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين أولاهما على المدى القريب، وتشمل تشكيل هيئة وطنية تعنى بالمخطوطات، والقيام بحملة تحسيس واسعة النطاق لتوعية الرأي العام بقيمة هذه المخطوطات».
وزاد «أما المرحلة الثانية وهي على المدى المتوسط والبعيد، فتشمل إعداد سياسة وطنية وخطط وبرامج لحماية وتثمين المكتبات الأهلية لصيانة وتثمين ما تكتنزه من تراث مخطوط، وذلك بالتعاون مع الشركاء الأجانب وبالاشتراك مع ملاك المخطوطات وعلى أساس التجارب المحلية والدولية؛ هذا مع الإسراع بإعداد خريطة وطنية شاملة للمكتبات الخصوصية والعمومية خاصة تلك التي تحتوي على بعض المخطوطات».
عبد الله مولود
المصدر: صحيفة القدس العربي