تفتح سلطات الاحتلال صباح اليوم الأحد المعابر بعد إغلاقها الجمعة كجزء من الإغلاق المفروض على الأراضي الفلسطينية بسبب «عيد العرش» اليهودي كما يحصل عادة في كل عام بحجة الحفاظ على الأمن. لكن الإغلاقات المحكمة تتكرر عدة مرات في الأوقات الاعتيادية وبعيدا عن الأعياد اليهودية كجزء من سياسات العقاب الجماعي والترويض السياسي ومحاولات ابتزاز الفلسطينيين على مبدأ حرية حركة وعمل مقابل هدوء وسكوت على الاحتلال. وفي الشهر الأخير كانت سلطات الاحتلال قد مددت الإغلاق في منتصف أيلول/سبتمبر المنقضي انتقاما من حركة «حماس» المتهمة بتأجيج الأوضاع داخل الضفة الغربية المحتلة ولأسباب أمنية «ردا» على التظاهرات اليومية على طول الحدود والتي خلفت عددا من القتلى والجرحى الفلسطينيين خلال مواجهات مع جيش الاحتلال تنديدا خصوصا بدخول إسرائيليين إلى الحرم القدسي. لكن الإغلاق الكبير قائم منذ فرض الحصار السياسي غير الإنساني المدعوم من قبل جهات دولية منذ 2007 بذريعة «انقلاب حركة حماس» وسيطرتها على قطاع غزة بعد عام من انتخابها في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006.
دولة احتلال
على غرار مراقبين كثر بعضهم إسرائيليون أيضا يرى دكتور محمود حنفي أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان أنه رغم «إعادة الانتشار» في غزة، إسرائيل لا تزال دولة احتلال. في مقال جديد ينوه حنفي لاحتفال الفلسطينيين داخل قطاع غزة قبل عدة أيام بذكرى إعادة انتشار جيش الاحتلال من قطاع غزة وإخلاء المستوطنات نهائيا منه ويقول إن المقاومة الفلسطينية تسمي ذلك انتصارا على الاحتلال أجبره على الانسحاب من القطاع في أيلول/سبتمبر 2005. ويمضي في رسم ملامح ما جرى ويجري في القطاع: «طرحت إسرائيل، بعد إعادة الانتشار هذا، نظرية ثم طبقتها مفادها أنها لم تعد مسؤولة عن قطاع غزة وأنها لم تعد دولة احتلال بالمعنى القانوني. ثم فرضت حصارا محكما على سكانه تسبب بآثار إنسانية بالغة السوء متذرعة بأنه يأتي في إطار الدفاع عن النفس». ويؤكد حنفي استمرار الاحتلال رغم إعادة الانتشار من قبل السلطات الإسرائيلية ويعلل ذلك بالقول إنه حتى لو فرضنا جدلا أن الاستيطان قد انتهى في قطاع غزة بموجب اتفاق أوسلو وأن ذلك – حسب الادعاء الإسرائيلي- يعني انتهاء الاحتلال، فإن غزة والضفة، بما فيها القدس الشرقية، تمثل وحدة جغرافية وسياسية واحدة وإنهاء الاحتلال من جزء لا يعني نهايته». كما يؤكد أن حصار قطاع غزة غير قانوني، لافتا إلى أن الاحتلال لم يكتف بالتنصل من مسؤولياته تجاه قطاع غزة بل فرض حصارا محكما عليه، وبين هذا وذاك يروج الاحتلال لسلوكه على نطاق واسع في الأوساط الغربية وحتى العربية منها، خاصة بعد عملية التطبيع مع عدد من الدول العربية. وينوه حنفي أيضا إلى أن حصار قطاع غزة يلقى تفهما من الدول الكبرى في بعض الأحيان ودعما في أحايين أكثر، فضلا عن هشاشة مواقف الدول العربية في العموم ويضيف «كما أن الحصار المفروض على قطاع غزة انطلاقا من اعتبار الاحتلال قطاع غزة كيانا معاديا هو غير قانوني لأنه حصار تفرضه دولة احتلال على شعب هي أصلا مسؤولة عن توفير الحماية الشاملة له، كما أن تغاضي الأمم المتحدة عن جريمة الحصار هو بحد ذاته مشاركة في هذه الجريمة».
هدية سياسية
منذ أن وقع الانقسام الفلسطيني الداخلي في مطلع 2007 سارعت إسرائيل لاستغلاله واعتبرته هدية سياسية ثمينة توظفها لتحقيق عدة مآرب وهذا ما زال جاريا حتى اليوم. التقطت حكومة الاحتلال هذا الانقسام بين غزة وبين الضفة الغريبة، بين حركتي «حماس» و «فتح» ووظفتها ذخيرة حية اليوم ضد فكرة الدولة الفلسطينية التي تعتبرها تهديدا خطيرا الدولة اليهودية. حتى اليوم تلوح إسرائيل بهذا الانقسام لتقول للعالم إن الفلسطينيين غير ناضجين لإقامة دولة في ظل هذا الانقسام وفي ظل وجود حكومتين في رام الله وغزة متصارعتين ومختلفتين في كثير من الوجوه. في محاولة لتكريس هذا الواقع عملا بمبدأ «فرّق تسد» دأبت حكومات اليمين الصهيوني التي حكمت في السواد الأعظم من الفترة الأخيرة منذ الانقسام الفلسطيني الداخلي على تحاشي احتلال قطاع غزة ليس فقط من باب التهّرب من تسديد الأثمان الباهظة المترتّبة على ذلك بل من أجل إبقاء حالة النزاع في الحلبة الفلسطينية موجودة. رغم الحملات العسكرية المتتالية على قطاع غزة عملت حكومات الاحتلال بحرص على تحويل المساعدات المالية القطرية لقطاع غزة من خلال حركة حماس وفي التزامن واصلت مقاطعة الرئيس عباس رغم دعمه بأفعاله وأقواله للمحادثات السياسية والامتناع عن استخدام أي نوع من أنواع المقاومة الفلسطينية بل الموافقة على قيام السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني معها. وتحمل أوساط إسرائيلية معارضة على حكومات نتنياهو المتعاقبة منذ 1996 لـ «تعاونها مع حماس وتحريضها على عباس» خدمة لمآرب مختلفة أبرزها التهّرب من استحقاقات تسوية الدولتين ومنع قيام دولة فلسطينية في الأرض المحتلة عام 1967.
السياسات قصيرة النظر
ويرى مراقبون إسرائيليون أن مثل هذه السياسة الإسرائيلية ربما تكون مفيدة على المدى القصير لكنها مدمّرة على إسرائيل بالمنظر القريب كونها تدفع الفلسطينيين للاستنتاج بأن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة فهي تقدم «التنازلات» وتطلق سراح الأسرى تلبية لمطالب وشروط حركة حماس بينما لا تكترث بمن يؤمن بالسلام ويدعو له ويعمل بموجبه ومن أجله، كما يؤكد مدير الدراسات الفلسطينية في جامعة تل أبيب الدكتور ميخائيل ميليشتاين على سبيل المثال أو خبير الخرائط الإسرائيلي الأول الجنرال في الاحتياط شاؤول أرئيلي في دراساته ومؤلفاته ومحاضراته أو محرر الشؤون العسكرية في صحيفة «هآرتس» عاموس هارئيل وزميله محرّر الشؤون العربية والشرق الأوسط دكتور تسفي بارئيل. ويحذّر أمثال هؤلاء من أن هذه السياسات «قصيرة النظر» ستدفع البلاد بين البحر والنهر لحالة فوضى يختلط فيها الحابل اليهودي بالنابل الفلسطيني مما يعني حالة احتراب دموي على غرار الحالة البلقانية في شرق أوروبا. وينبّه هؤلاء وسواهم إلى قصر نظر هذه الرؤية المعتمدة من قبل حكومات اليمين الصهيوني برئاسة نتنياهو بالتأكيد على وجود عدد متساو من الفلسطينيين واليهود بين البحر (نحو 15 مليون نسمة بين البحر وبين النهر).
وفي هذا المضمار يعتبر محلل الشؤون العسكرية في صحيفة «هآرتس» العبرية عاموس هارئيل أن إسرائيل لا تحقق كل مآربها حتى في المنظور القريب، منوها إلى أنها قدّرت أن التحّسن الاقتصادي في القطاع سيؤدي إلى هدوء بعيد الأجل لكن «حماس» تتصرف بصورة مختلفة. ويضيف: «إسرائيل قدّرت أن التحسن الاقتصادي في القطاع سيؤدي إلى هدوء بعيد الأجل لكن حماس تتصرف بصورة مختلفة. تجري في الأيام الأخيرة اتصالات حثيثة، بمشاركة إسرائيل وحماس والأمم المتحدة ومصر وقطر، في محاولة لتثبيت تهدئة على الحدود مع قطاع غزة. طيلة أسبوعين، أقيمت في كل ليلة تظاهرات فلسطينية عنيفة في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي على طول السياج الحدودي. حكومة حماس في القطاع هي التي كانت تمسك بالخيوط، لكنها تتجنب حتى الآن تحمُّل مسؤولية التظاهرات بصورة علنية». يشار أن حركة حماس تعمل على تخليص القطاع من الحصار أو تخفيفه بشكل حقيقي بطرق مختلفة وتحقيق تفاهمات سابقة ما زالت عالقة خاصة إعادة إعمار غزة وربما التوصل لتهدئة بعيدة المدى كما يتجلى في تعديل دستورها قبل بضع سنوات وفي مناورتها على محوري المقاومة والسياسة. في كل الأحوال فإن مستقبل قطاع غزة وحصاره مرهون بكثير من التغيرات المتدافعة والوشيكة منها انضمام محتمل لدائرة التطبيع من قبل السعودية وبدء مرحلة ما بعد الرئيس عباس وغيرها من التفاعلات الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية والدولية.
وديع عواوودة
المصدر: صحيفة القدس العربي