في أغلب أيام الجمع، وبعد الصلاة مباشرة، غالبا ما يخرج من بين جموع المصلين شاب قادم من قطاع غزة، بالعادة يدخل هؤلاء الشبان إلى الضفة الغربية كمرافقين لمرضى بعد طول انتظار، حيث يلزم القدوم لمستشفيات الضفة الغربية أو القدس موافقة إسرائيلية لا تصدر بسهولة، إنما تتحول إلى إحدى مظاهر معاناة المواطنين في القطاع والضغط عليهم.
تضطر ظروف حياة العائلات الصعبة هؤلاء الشبان إلى أن يطلبوا المساعدة من المساجد على أمل أن يطالهم خير المواطنين. في المقابل يتعامل المصلون معهم بطريقة أقرب إلى الواجب، فأغلبهم يتجاهلون الإعلان الذي تعلقه وزارة الأوقاف الفلسطينية على أبواب المساجد في الضفة الغربية محذرا ومانعا من التعاطي مع من يطلبون المساعدة من أهل الخير (بدون أوراق رسمية).
هذا الموقف، في جوهره، يعكس رغبة المواطنين البسطاء في مد يد العون للقطاع المحاصر، ولو من باب هؤلاء الشبان الذين تقطعت بهم السبل ودفعتهم الحاجة والبقاء في الضفة إلى طلب المساعدة، ويدرك الفلسطينيون الذين يعيشون في الضفة الغربية حقيقة الحصار المفروض على القطاع مما تتناقله وسائل الإعلام، أو حتى من التواصل الشخصي مع عائلات غزية تقيم في الضفة، وهو أمر يتضاعف عند سماع أولئك الشبان الذين يتحملون الموقف ويعلون أصواتهم في المساجد طلبا للمساعدة.
يقول أحد المواطنين أنه «وحتى لو كان هؤلاء الشبان مدعيا حاجة أو أنهم يسردون قصصهم على مسمع من مئات المصلين بطريقة مؤلمة فيها الكثير من المبالغة فإن قطاع غزة المحاصر يستحق كل الدعم».
وجهة نظر نشطاء ومسؤولي مساجد بإن هذه طريقة فعل ودعم فردية، فمجرد وصول أموال التبرعات إلى مواطن من القطاع فإنها ستأخذ طريقها في دعم اقتصاد القطاع، يحدث ذلك في ظل صعوبات وتعقيدات ومراقبة أمنية حثيثة لكل المبالغ المالية التي يتم تحويلها من الضفة الغربية للقطاع والعكس صحيح أيضا.
القصص كثيرة تلك التي تشير إلى صعوبات مالية في تحويل أبسط المبالغ المالية للقطاع، وغالبا ما يجب على الشخص الذي يريد أن يحول مبلغا من المال أن يقدم الأسباب وطبيعة العلاقة مع الجهة التي يتم التحويل لها، وأحيانا يحول الأمر إلى جهات أمنية.
واقع انعدام الحيلة
يعكس المشهد الأسبوعي السابق في بعض المساجد في الضفة الغربية واقع انعدام الحيلة وفقدان الخيارات التي تدفع بالضفة الغربية إلى دعم غزة في حصارها، صحيح ان هناك تاريخا طويلا من حالات الإسناد والدعم والمناصرة والمطالبة برفع الحصار، وكلها محاولات لتجسيد وحدة الأرض والجسد الفلسطيني، لكنها اليوم يبدو أنها وصلت إلى طريق مسدود.
فالحصار المفروض على قطاع غزة منذ 17 عاما يجعله يعيش أعمق أزمة خانقة في مستويات متشعبة على أكثر من مليوني فلسطيني، هؤلاء يقبعون على منطقة جغرافية لا تزيد على 365 كم مربعا، وهي فترة طويلة نسبيا وهو ما دفع آثار الحصار إلى أن تمتد على مختلف أوجه الحياة في غزة، وأحالت واقع السكان فيه إلى جحيم لا يطاق. حيث أن جميع القطاعات الحيوية في غزة تشهد انهيارًا غير مسبوق، وتدهورًا ينذر بأضرار طويلة الأمد، وهو أمر يتكثف تأثيره فيما تتقلص فيه إمكانيات دعم الفلسطينيين لبعضهم البعض.
وحقيقة أن من يصل من القطاع إلى الضفة الغربية تجعله يدرك معنى السجن الذي يعيش فيه السكان، بالمقارنة مع الضفة الغربية، وهي أيضا سجن لكنه أكبر قليلا مع قليل من الامتيازات والتحسينات، لكن عندما نقول إن غزة هي أكبر سجن في العالم، فهذا يعني الكلمات بحذافيرها من دون مبالغة، وهي رسالة يقدمها فيلم كرتوني قصير أنتجه المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وعنوانه «العالم ليس غزة».
وحسب نورا عريقات، عضو مجلس أمناء في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان فإنه «يبدو أنّ المجتمع الدولي غير منزعج من الظروف غير الصالحة للعيش في قطاع غزة، أو حقيقة أنّ جيلًا كاملًا نشأ معزولًا عن العالم، باستثناء الأسلحة التكنولوجية المتطورة التي تنهمر عليه من السماء».
العلاقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة حسب سليمان بشارات، الباحث في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية، ومدير مركز يبوس للدراسات تعكس حالة مركبة ومعقدة، وهو ما يجعلها حالة مرتبكة في ذات الوقت في ظل طبيعة العلاقة ما بين الضفة وقطاع غزة.
ويقول بشارات: «وهي نتاج حالة سياسية تقوم على فجوة في الرؤية السياسية للنضال الفلسطيني والخيارات السياسية، وهي فجوة اتسعت بشكل كبير في أعقاب حالة الانقسام السياسي الفلسطيني».
وحسب بشارات فإن المعادلة السابقة أنتجت مجموعة من الارتدادات المجتمعية والوطنية وحتى في المواقف السياسية العلنية تجاه الحصار المفروض على قطاع، باعتبار أن هذا الحصار ارتبط بشكل مباشر بمفهوم العقوبات المتخذة بحق مشروع سياسي يعتمد خيار المقاومة المسلحة وأدواتها ويرفض الانخراط بمشروع سياسي سلمي.
ويكمل: «هنا تكمن الفجوة ما بين مشروعين سياسيين أحدهما بالضفة والآخر بغزة، لكل منهما منطلقاته وأدواته ومنهجياته، كما أن لكل منهما طموح مستقبلي في قيادة المشروع التحرري».
ويشدد بشارات على أن القراءة التأسيسية السابقة تجعلنا نصل إلى حقيقة أن القيادة السياسية بالضفة الغربية تنظر إلى واقع القطاع كجزء من حالة تمرد على رؤية سياسية تعمل على تعزيزها، وبالتالي تشكلت الفجوة وتكرست حالة من التنافسية التي وصلت حد الصراع في كثير من الأوقات، «ربما وصل الطرفان إلى قناعة أو تفاهمات ضمنية أن لكل جغرافيا (الضفة أو غزة) أدواتها ومنهجيتها، ولكل منها مشروعها، وبالتالي تحول الأمر بديلا عن التوحد إلى إدارة الانقسام».
ويرى بشارات أن ذلك الواقع أفرز تباينا واضحا في المواقف الشعبية والجماهيرية بالضفة أو غزة، وأيضا أوجد لكل منهما مبرراته في التعامل مع ملف حصار غزة من جانب، أو الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون بالضفة.
إعادة بث حالة الوعي المجتمعي الشعبي
تأسيسا على ذلك فإن حالة الحراك الشعبي في الضفة الغربية دعما للقطاع المحاصر غالبا ما تأخذ بعين الاعتبار الموقف السياسي الرسمي لسلطة رام الله، وكذلك طبيعة الارتدادات المترتبة على أي موقف بهذا الاتجاه، وهو ربما، والحديث لبشارات، جعل من كثيرين يدفع ثمن مواقفهم التي حاولوا من خلالها رفض الحصار المفروض على القطاع، أو محاولة التعبير عن رأي مؤيد للمنهجية السياسية التي تقوم عليها فصائل المقاومة.
ويكمل: «هنا تحول مجرد التواصل مع مواطنين أو مؤسسات في القطاع في بعض الأحيان إلى تهمة يعاقب عليها الأمن الفلسطيني في الضفة، وكأن الشخص تواصل مع أطراف معادية، وهو أمر خلق حساسية عالية من جانب، وشكل حالة تردد في المساهمة في أي فعالية رفض للحصار على القطاع، باعتبار أن ذلك يخالف المنهج السياسي بالضفة».
وبرأي بشارات لقد تحول التضامن مع قطاع غزة، ليكون مناسباتيا، أي في بعض المواسم، وفي الأحداث الكبيرة مثل الحروب على القطاع، من دون أن يصل إلى حجم الطموح المطلوب.
ويشدد أن سبل تفعيل الفعل الفلسطيني في الضفة في مواجهة الحصار على قطاع غزة سيواجه بصعوبات بالغة في هذا الوقت بالتحديد نتيجة طول عمر الانقسام، وطول عمر الحصار، وكلاهما متلازمان، وبالتالي يتأثران بمواقف سياسية ولتوجهات برامج.
كما أن حصار غزة حسب الباحث بشارات لم يعد يرتبط بالحالة الفلسطينية فقط، «بل أصبح جزءا من معادلة فلسطينية عربية إقليمية دولية أمريكية إسرائيلية، وهي معادلة تسعى إلى عملية تطويع القوى المنخرطة بخيار المقاومة المسلحة ضد المشروع الاستيطاني التهويدي».
ويطالب بدوره لتفعيل حالة التضامن الفلسطيني من أجل رفع الحصار إعادة بث حالة الوعي المجتمعي الشعبي بأهمية كسر الحصار عن القطاع وإعادة ربط الجسم الفلسطيني مع بعضه البعض وهذا أولا، وثانيا استنهاض مؤسسات المجتمع المدني والأهلي باعتبارها لاعبا مهما، وعليها دورا مهما في كثير من الترتيبات والفعاليات، وثالثا ضرورة أن يترافق ذلك مع حراك تقوده الفصائل والقوى الفلسطينية باختلاف منطلقاتها وبرامجها، فاستمرار الحصار يؤثر على البرنامج الوطني التحريري بمجمله.
والمشاهد التي تؤكد على حضور غزة في مقاومة الضفة الغربية كثيرة جدا، لعل أبرزها المسيرات الجماهيرية التي تخرج في ساحات المسجد الأقصى وأثناء تشييع جثامين الشهداء في الضفة الغربية حيث ترتفع الهتافات التي تتوجه إلى غزة عند ارتكاب قوات الاحتلال جرائم كبيرة، تطلب منها التدخل، ولعل أبرزها «من شان الله يا غزة يالله» غير أن هذا الهتاف المحق نوعا ما، يتطلب أيضا بالمقابل هتافا يطلب من الضفة الغربية دورا ما في فك الحصار عن غزة، فهي ليست جيبا خاليا من السكان إنما يعيش فيها أكثر من 2 مليون فلسطيني يعانون في أكبر سجن في العالم.
سعيد أبو معلا
المصدر: صحيفة القدس العربي