أعادت الزيارة الأخيرة التي قام بها كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين للبنان، ملف الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة إلى الواجهة من جديد، فبات مصطلح «ترسيم الحدود البرية» أو «تثبيتها»، محل نقاش داخلي في الأروقة اللبنانية. فـ «عرّاب» إتفاقية ترسيم حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة الجنوبية، جاء هذه المرّة وفي جعبته مهمّة جديدة في الترسيم، لكنها تقع عند حدود البر وليس البحر. ففي جولته جال على المسؤولين اللبنانيين، واستطلع الآراء حول الملف، قبل أن ينطلق جنوبًا ليعاين المهمّة على الأرض. واختتم زيارته بفتح النافذة على الجهة الأخرى لاستطلاع رأي الجانب الإسرائيلي في ملف الترسيم البري، قبل أن يقوم بتقييم الملف وطرح إطار العمل به!
إنّ الأمر المستغرب هنا، ليس في طرح الوسيط الأميركي، وإنما في تفاوت ردود الفعل اللبنانية الرسمية والمحلية حول ملف الحدود البرية، والمغالطات في فهم حدود الملف البري. فالوسيط الأميركي منذ مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، كان واضحًا في عرض أسسه في تقييم الملف اللبناني. فالعبرة لديه هي ليست بمتانة الملف القانوني اللبناني ومرتكزاته، وإنما بالقدر المسموح للجانب اللبناني الحصول عليه!
فمن المجدي في ظلّ التباس المصطلحات المستخدمة في ملف الحدود البرية، أن نعي أبعاد الملف. فالحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة هي حدود مرسّمة في اتفاقية «بوليه/نيو كومب» الموقّعة بتاريخ 3 آذار من العام 1923، والتي تمثل إتفاقية لترسيم الحدود النهائية بين الإنتدابين الفرنسي والبريطاني. وقد تضمّنت هذه الإتفاقية (38) نقطة فصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، بالإضافة إلى النقطة (39) على الحدود المشتركة اللبنانية – السورية- الفلسطينية، من رأس الناقورة إلى منطقة الحمة السورية. وقد حُدّدت النقاط بعلامات موصوفة ومرقّمة، وأُودعت الإتفاقية في عصبة الأمم وتمّ التصديق عليها كوثيقة دولية في 6 شباط من العام 1924.
وهذه الحدود قد أُعيد تثبيتها باتفاقية الهدنة الموقّعة بتاريخ 23 آذار من العام 1949 بين لبنان و«اسرائيل»، والتي جاء فيها تحديدًا في المادة الخامسة منها: «على أن يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين».
فالحديث اليوم عن بحث اتفاق إطار لترسيم أو تثبيت الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أمر مغلوط. فالحدود مرسّمة والنقاط مثبتة. لذا على الجهات المسؤولة في لبنان إتخاذ الدقّة والحيطة في توحيد اللغة والإطار، الذي ينبغي بحثه مع الوسيط الأميركي في ملف الحدود البرية. فأي اتفاق إطار في ملف الحدود البرية يجب أن ينطلق من التصحيح وإزالة التعدّي الواقع على الحدود البرية المرسّمة والمثبتة مع فلسطين المحتلة، بإزالة الفوارق بين الخط الأزرق «خط الإنسحاب الإسرائيلي المؤقت» وخط الحدود الدولية اللبنانية المرسّمة. وأهم هذه الفوارق بين الخط الأزرق وخط الحدود الدولية يكمن عند النقطة B1، حيث تمّ نقل البوابة الإسرائيلية حوالى (20-25) متراً داخل الأراضي اللبنانية، فأصبحت مباشرةً عند الخط الأزرق، إضافة إلى احتلال نقطة رأس الناقورة وجزء النفق السياحي اللبناني في منطقة رأس الناقورة، وجزء من المياه الإقليمية اللبنانية حتى خط الطفافات.
وواقعًا، نرى أنّ العدو الإسرائيلي لا مصلحة له في الدخول في تفاوض يبدأ من إطار إزالة التعدّي على الحدود البرية اللبنانية، طالما أنّه حصل على ضمانة من الجانب اللبناني في اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة الجنوبية، بموافقته على إبقاء سيطرة الجانب الإسرائيلي على احتلاله لهذه الفوارق إلى أجل غير مسمّى، طالما لم يحصل اتفاق بين الطرفين، حيث نصّت الاتفاقية في أحد بنودها: «على عدم المساس بوضع الحدود البرية… وإلى أن يحين الوقت الذي تُحدّد فيه تلك المنطقة، يتفق الطرفان على إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك طول خط العوامات البحرية الحالي وعلى النحو المحدّد بواسطته».
أياً كان الهدف من طرح ملف الحدود البرية في هذا التوقيت، يجب على الداخل اللبناني أن يحسم الملف ويوحّد إطاره، حتى لا يلقى هذا الملف مصير غيره من ملفات الوطن.
خديجة حكيم
المصدر: صحيفة الجمهورية