في الذكرى الثلاثين للاتفاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يجب الإصرار على مقاربة مبنيّة على الحقوق المتساوية لمواجهة التعنّت الإسرائيلي.
صادف يوم الثالث عشر من هذا الشهر الذكرى الثلاثين على توقيع اتفاقية أوسلو بين الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي. بعد مرور كل هذا الوقت، هل حقّقت أوسلو ما كان يصبو إليه الجانب الفلسطيني؟ من المهم التذكير بالأُسس التي قامت عليها هذه الاتفاقية. فقد تم الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وتم الاتفاق على سلطة فلسطينية انتقالية، تُقام أولا في غزة وأريحا، وتمتد تدريجيًا إلى مناطق في الضفة الغربية، قُسِّمت إلى “أ” و”ب” و”ج”، تبعًا للقدر الذي تسيطر فيه السلطة الانتقالية عليها. وتم الاتفاق على تأجيل البحث في قضايا الوضع النهائي، أي قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية، إلى ما بعد ثلاث سنوات من بدء العمل بالسلطة الفلسطينية الانتقالية، على أن تنتهي هذه المفاوضات خلال سنتَين من بدئها، أي بعد خمس سنوات من إنشاء السلطة الفلسطينية، وينتج عنها حل دائم للقضية الفلسطينية بحلول شهر 5 في العام 1999.
وقد جوبهت الاتفاقية بمعارضة فلسطينية وعربية وإسرائيلية، ولكن حجة الرئيس ياسر عرفات كانت آنذاك أنها تؤسّس لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ولو بالتدريج. ومع أن أوسلو لم تشِر إلى قيام دولة فلسطينية بعد خمس سنوات، فإن الجانب الفلسطيني والعربي والدولي كان يأمل بذلك، ما دعاه إلى قبول مبدأ حل الدولتَين والتقدّم بمبادرات دولية عدة لتحقيق ذلك، وعلّل الجانب الفلسطيني قبوله بعدم تجميد المستوطنات منذ لحظة التوقيع على أوسلو بأن ثلاث سنوات من بناء المستوطنات لن تغيّر الواقع كثيرًا على الأرض.
بعد ثلاثين عامًا، يبدو واضحًا أن كل الفرضيات التي بُنيت عليها الاتفاقية، تم نسفها. الفرضية الأولى نادت بانتهاء المفاوضات بعد خمس سنوات. واليوم، غدا واضحًا أن ما من مفاوضات فلسطينية إسرائيلية بعد الآن، وأن الفجوة بين الجانبَين أكبر بكثير من تلك قبل ثلاثين عامًا.
الفرضية الثانية كانت تفضي إلى أن نظرية الفصل بين الجانبَين ستؤسّس لحل الدولتين. أما اليوم، فإن عملية بناء المستوطنات التي لم تتوقف، أدت إلى ازدياد عدد المستوطنين من مئتَين وخمسين ألفًا غداة توقيع أوسلو، إلى أكثر من سبعمئة وخمسين ألف مستوطن اليوم، ما يجعل إمكانية فصل الجانبين مستحيلة.
الفرضية الثالثة هي أن المرحلة الانتقالية ستسهم في بناء الثقة بين الجانبَين، ما سيساعد في مفاوضات الوضع النهائي. من الواضح اليوم ليس فقط أن الثقة بين الجانبَين شبه معدومة، ولكن أيضًا أن المجتمع الإسرائيلي آخذٌ في التوغل في عنصريته وتديّنه، وأن قلة تكاد تُعدّ على أصابع اليد الواحدة في الكنيست الإسرائيلي هي من تدعو لمفاوضات تؤدي إلى حل الدولتَين.
إن الموقف المعلن للحكومة الإسرائيلية اليوم هو رفض الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ورفض إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، بما فيها القدس الشرقية. يُضاف إلى ذلك أن التعويل على أن موقف الحكومة الإسرائيلية اليوم قد يكون مؤقتًا وقد تأتي حكومة جديدة أقل تشدّدًا، لا ينسجم مع الحقائق. فالتحوّل إلى اليمين العنصري في المجتمع الإسرائيلي آخذٌ في الازدياد منذ عشرين عامًا، ولا يمكن وصفه بتحوّل مرحلي، والانقسام الداخلي الإسرائيلي اليوم ليس بين المؤيدين لعملية السلام والمعارضين لها، كما كان الحال في السابق، ولكنه انقسام بين المؤيدين لنتنياهو والمعارضين له فقط. أما تجاهل إقامة دولة فلسطينية، فيحظى بإجماع كبير في الكنيست والمجتمع الإسرائيلي اليوم.
ماذا بقي من إطار أوسلو إذًا؟ لم يبق شيء. فكيف نفسر هذا التشبّث الدولي بهذه الاتفاقية؟ لقد رفعت الإدارة الأميركية يدها عن محاولة رعاية مفاوضات تؤدي إلى حل على أساس الدولتَين منذ عشر سنوات، واستعاضت عن ذلك علنًا بمحاولة تهدئة الوضع لفترة طويلة حتى تتهيأ الظروف، بقدرة قادر، على استئناف المفاوضات، إضافةً إلى محاولتها إدخال المملكة العربية السعودية في ما يُدعى بـ”الاتفاقات الإبراهيمية”، ما يعطي الانطباع بأن السلام ممكن في المنطقة من دون الجانب الفلسطيني، ما يؤدي عمليًا إلى وأد المبادرة العربية للسلام. تفسّر الإدارة الأميركية هذا الموقف باقتناعها بعدم جدوى محاولة التوصّل إلى حل في هذه المرحلة، وما لم تقله علنًا هو عدم رغبتها في الدخول في مواجهة مع إسرائيل لاعتبارات داخلية.
أما المجتمع الدولي، وبالأخص الاتحاد الأوروبي، فهو يسير خلف الموقف الأميركي بتأييد لفظي لحل الدولتَين، من دون إقرانه بأي خطة لتنفيذه أيضًا، تجنّبًا لأي مواجهة مباشرة مع إسرائيل. وهو موقف ترتاح له إسرائيل كثيرًا، لأنه يساعدها على ابتلاع المزيد من الأرض وزيادة عدد المستوطنين والمستوطنات وقتل حل الدولتَين، بينما يتغنّى المجتمع الدولي بهذا الحل صباح مساء. إن كان المجتمع الدولي متوغّلًا في لعبة لن تؤدي إلى حل لأسبابه التي أوردتها، فما حجة الموقف العربي؟
الدول العربية الأربع التي وقّعت “الاتفاقات الإبراهيمية” مع إسرائيل فعلت ذلك لتحقيق مكاسب مع الولايات المتحدة تحديدًا، ومن دون تحقيق أي تنازلات حقيقية من إسرائيل. وما يجري من مفاوضات مع السعودية يندرج تحت هذا الإطار. لقد تقلّص الاهتمام الحقيقي بحل الدولتَين إلى ثلاث جهات عربية هي السلطة الوطنية الفلسطينية والأردن ومصر. لا تريد السلطة الفلسطينية التخلّي عن هذا الحل بعد بنائها مؤسسات فلسطينية وتحقيقها امتيازات لأفرادها لا تريد خسارتها، وهي تختزل اليوم الهوية الوطنية الفلسطينية بهذه المؤسسات، غير مكترثة بجيل فلسطيني جديد ولد معظمه بعد أوسلو وفقد الأمل بشكل شبه كامل بقيادته وبأي أفق دبلوماسي لتخليصه من نير الاحتلال.
الموقف المصري ينظر اليوم إلى القضية الفلسطينية من منظور أمني يتعلق بحفظ الأمن في سيناء، وانحسر دوره إلى حدٍّ كبير في الملف السياسي للقضية، كما كان سابقًا. أما الموقف الأردني، فهو مرتبط بالهاجس المبرّر، وهو محاولة إسرائيل فرض حل على حسابه إن مات حل الدولتَين، ولذا فهو متمسك بهذا الحل، وإن كان على الأغلب يعرف في قرارة نفسه أن هذا الحل بات مستحيلًا. لم يقدّم المسؤول الأردني حتى اليوم حجة متماسكة مقنعة لربط التمسك بحل الدولتَين مع هدف منع التوصّل إلى حل على حسابه، وهو يدرك تمامًا المطامع الإسرائيلية في الاحتفاظ بالقدس والضفة الغربية ورفضها العملي لهذا الحل.
ثلاثون عامًا كافية للوصول إلى قناعة لا لبس فيها بأن إطار أوسلو قد مات. قد لا يكون المطلوب من دول كالأردن أو مصر، أو من السلطة الوطنية الفلسطينية التخلّي عن حل الدولتَين رسميًا، ولكن اعتماد مقاربة وحيدة غير مقرونة بأي تحرك دبلوماسي آخر ليس مقنعًا. ثمة الكثير مما يمكن فعله من استعمال القنوات والمحافل الدولية لفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية مثلًا، أو الإصرار على مقاربة مبنيّة على أساس الحقوق المتساوية بغضّ النظر عن شكل الحل، أو التوقف عن معاملة إسرائيل كدولة صديقة ومراجعة مشاريع مشتركة في قطاعات كالطاقة والمياه تعظم الاعتماد على إسرائيل في قطاعات حيوية.
إطار أوسلو قد انتهى، وكذلك حل الدولتَين والمبادرة العربية للسلام. نحسن صنعًا إن أدركنا ذلك وبدأنا بوضع بدائل لصنع القرار أكثر نجاعة لمواجهة التعنّت الإسرائيلي.
مروان المعشر
المصدر: إصدار ديوان من مركز كارنيغي