تعرضت مدينة درنة، “عروس ليبيا” و”درة البحر المتوسط”، كما وصفها الرحالة الدانماركي “كنود هولومبو” في كتابه “رحلة في الصحراء الليبية” إلى إعصار مدمر أحالها إلى ركام.
ففي 10 سبتمبر/ أيلول 2023، ضرب إعصار “دانيال” شرق وشمال ليبيا، ودمر ربع درنة تقريبا، لتصبح المدينة في خبر كان بحسب وسائل إعلام محلية ودولية.
وفي 13 سبتمبر أعلنت حكومة الوحدة الوطنية، أن عدد القتلى في درنه تجاوز 6 آلاف شخص، في ظل تقديرات بأن نحو 10 آلاف آخرين ما زالوا في عداد المفقودين بينما تقل احتمالات العثور على ناجين.
وفتحت تلك النكبة التساؤلات عن درنة وتاريخها العريق وخصوصيتها الجغرافية والدينية الفريدة.
حاضرة الشرق
درنة تقع على الشريط الساحلي الشمالي الليبي بين البحر المتوسط والطرف الشرقي للجبل الأخضر، وهي إحدى مناطق الغابات والزراعة القليلة في البلد الصحراوي الممتد.
قال في وصفها الرحالة الدانماركي “كنود هولومبو” إن “درنة تمتلك أصفى وأنقى وأطيب المياه في إفريقيا الشمالية كلها، وأراضيها مغطاة ببساط كثيف من الحشائش والأعشاب وتتألق فيها الأزهار الجميلة”.
فيما ذكرها علي فهمي خشيم، أحد رموز الفكر والأدب الليبي، في كتابه “قراءات ليبية”، عندما تحدث عن معناها، وقال: “أما دارنس، فهي مدينة درنة الحالية، وهي كلمة ليبية أيضا تعني (بين الجبال) أو (وسط الجبال)، كما هو موقعها”.
يصل عدد سكانها زهاء مئة ألف نسمة وتشتهر بمناظرها الطبيعية الخلابة ووديانها الخضراء.
شيدت المدينة على طول وادي درنة، وهو نهر سريع الزوال يجف غالبية أيام السنة، وعلى مدار التاريخ تعرضت المدينة لكوارث وأضرار متكررة بسبب الفيضانات.
وكان هذا هو السبب الرئيس لبناء سدي أبومنصور ودرنة في أعلى المدينة، للسيطرة على تآكل التربة ومنع الفيضانات.
وكلا السدين دمرته عاصفة البحر الأبيض المتوسط ”دانيال” الأخيرة، وتسبب في تضاعف الكارثة، وموت آلاف البشر.
مقر إستراتيجي
عرفت درنة ذات يوم بأنها من أهم موانئ البحر المتوسط في العالم القديم لليونانيين والرومان.
ولذلك فإن المدينة موطن لأشخاص من أصول مختلطة، ففي عام 1493 جرى توطين الأندلسيين المطرودين من إسبانيا في موقع المستوطنة القديمة بالمدينة.
وخلال العصر العثماني، كانت مقرا إستراتيجيا للجيش العثماني في الشمال الإفريقي، وأصبحت واحدة من أغنى المناطق في الأقاليم التابعة للدولة آنذالك.
وباتت المدينة غنية بالموارد وقتها اعتمادا على الهجوم على السفن الصليبية في البحر المتوسط.
كان عام 1800 مشهودا في تاريخ المدينة، حيث فشلت قوة فرنسية في إسقاط درنة، التي حققت انتصارا قويا على فرقة من جيش نابليون.
لكن عام 1805، شهدت المدينة معركة درنة الشهيرة، وهي أول انتصار يحققه جيش الولايات المتحدة على أرض أجنبية بعد استقلالها عن بريطانيا.
ووقعت هذه الحرب بسبب الهجمات على السفن الأميركية في المتوسط، ومطالبتها من قبل الليبيين بدفع أتاوات مقابل السماح لها بالملاحة.
مدينة الصحابة
وكتب أستاذ الأخلاق السياسية في قطر محمد مختار الشنقيطي، عبر حسابه بمنصة “إكس” يرثي المدينة عقب الإعصار المميت، قائلا: “درنة الليبية، مدينة القرآن الكريم، ومدفن الصحابة، ومأوى المقاومة، نزل بها إعصار دانيال، فهد أركانها، ودمر عمرانها، ومسح معالمها”.
وأضاف: “رحل أهلها معا بالآلاف شهداء عند ربهم، يشكون الضيم السياسي، والإهمال في التخطيط الحضري. درنة تستغيث فهل من مغيث؟!”.
مدينة #درنة الليبية، مدينة القرآن الكريم، ومدفن الصحابة، ومأوى المقاومة. نزل بها #إعصار_دانيال، فهدَّ أركانها، ودمَّر عمرانها، ومسح معالمها. فرحل أهلها معاً بالآلاف شهداء عند ربهم، يشكون الضيم السياسي، والإهمال في التخطيط الحضري. #درنة_تستغيث فهل من مغيث؟! pic.twitter.com/0wmpeUEsrU
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) September 12, 2023
وتضم درنة جامع الصحابة وقبور 73 صحابيا دخلوا المدينة للدفاع عنها ضد غزو الروم في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري.
ومن أشهر الصحابة المدفونين في “درنه” الصحابي الجليل زهير بن قيس البلوي، وقد شهد فتح مصر تحت لواء عمرو بن العاص ثم استخلفه عقبة بن نافع على القيروان.
وقد قتل في مدينة درنة رفقة 70 من أصحابه وهم يقاتلون جيشا من الروم، ودفنوا هناك وأصبحت مقابرهم مزارا لأهل ليبيا وكثير من المسلمين.
ومع ذلك ترتبط “درنة” أيضا بالتاريخ المسيحي، حيث يعتقد أن “مرقس” شخصية مهمة عند أتباع الديانة المسيحية، كان يختبئ في وديانها، ليكتب الإنجيل المعروف باسمه.
وعندما شهد حوض البحر الأبيض المتوسط في القرن الأول الميلادي الأحداث الدامية، باضطهاد الرومان واليهود للمسيحيين في كل مستعمرات الإمبراطورية الرومانية، لم تكن درنة بعيدة عن ذلك، كما توحي الآثار داخل الأودية الساحلية، التي تكاد لا تخلو من نقوش ترجع إلى تلك الحقبة.
تاريخ من الكوارث
وفي 12 سبتمبر 2023، تحدث المؤرخ الليبي فرج داود الدرناوي، لوكالة “الأناضول” التركية الرسمية، عن تاريخ الكوارث الطبيعية التي حلت بـ “درنة”.
وقال: “وادي درنة هو أشهر واد في ليبيا وأبرز معالم المدينة إلا أنه في ذات الوقت يشكل مصدر خطر دائم على السكان لكونه سبق أن تسبب في كوارث مشابهة لما يعيشه السكان اليوم جراء إعصار دانيال”.
وتحدث عن عام 1941، عندما حدث فيضان كبير في وادي درنة وضرب المدينة وجرف من قوته دبابات وآليات حربية ألمانية إلى البحر.
وأضاف الدرناوي: كان ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، لذلك لم يتحدث أحد عن الأضرار البشرية التي وقعت آنذاك مع الجزم أنها كانت كبيرة.
كما تحدث عن عام 1959، حيث ضرب فيضان كبير آخر المدينة، بسبب ارتفاع مستوى المياه في الوادي، وأوقع قتلى ومصابين بالمئات ودمر العديد من المنازل.
وأتبع أن من شدة قوته حركت المياه المندفعة الصخرة الكبيرة في درنة، المعروفة بصنب الزيت، إلى مسافة كبيرة من منطقة عين البلاد حتى وسط المدينة.
وسجل المؤرخ الليبي فيضانات أخرى بسبب وادي درنة وقعت بين عامي 1968 و1969 لكنها لم تسجل أضرارا كبيرة وقتها.
درنة والقذافي
بالانتقال من الكوارث الطبيعية إلى السياسية، فقد عاشت المدينة أياما عصيبة خلال فترة حكم العقيد معمر القذافي (1969 إلى 2011).
كانت المدينة توصف بأنها أكبر المدن الليبية ذات الطبيعة الإسلامية، ومعقلا قويا للمعارضة الإسلامية المناهضة للقذافي.
وفي عام 1995 عاد إلى درنة مجموعة من المقاتلين الليبيين الذين شاركوا في محاربة الغزو السوفيتي لأفغانستان.
وأعلنوا رسميا عن تأسيس الجماعة الليبية المقاتلة، والتي تسعى إلى إسقاط نظام العقيد المخلوع معمر القذافي.
تسبب ذلك في حملة أمنية قمعية شنها القذافي على المدينة، وصل إلى قصفها بالطائرات، واستهداف المدنيين.
وجرى اعتقال عدد كبير من أهالي المدينة وسيقوا إلى سجن “بوسليم” المركزي بالعاصمة طرابلس، وتم تعذيبهم وارتكبت بحقهم انتهاكات واسعة.
لكن في عام 1996 ارتبطت المدينة بواحدة من أسوأ المذابح في تاريخ ليبيا الحديث، وكانت داخل سجن “بوسليم”، حيث حادثة القتل الجماعي التي ارتكبتها قوات الأمن الليبية بحق سجناء درنة لاحتجاجهم على سوء الأوضاع.
وقتل في المذبحة قرابة 1300 معتقل من أهالي درنة، رغم أنه كان جاريا التفاوض معهم، بواسطة عبد الله السنوسي صهر معمر القذافي ورئيس مخابراته آنذاك.
لذلك لم يكن غريبا الدور الذي لعبته المدينة في اندلاع ثورة فبراير/شباط 2011 وإسقاط معمر القذافي.
وكانت درنة من أوائل المدن التي تحررت من قبضة نظام القذافي ودعمت الثورة في باقي مناطق الشرق الليبي.
دواد علي
المصدر: صحيفة الاستقلال التركية