التجسس.. حرب سرية بين الصين وأميركا

Spread the love
image_pdfimage_print

كشف إسقاط السلطات الأميركية منطاد تجسس صينياً، في فبراير/ شباط الماضي، عن وصول حرب الجاسوسية بين الولايات المتحدة والصين لمستويات عالية، وصفها مسؤول أميركي بأنها باتت أكثر اتساعاً من تلك التي دارت بين الأميركيين والسوفييت خلال الحرب الباردة في القرن الماضي.

وتسعى دوائر الاستخبارات لدى الدولتين بشكل أساسي لكشف نوايا سلطات الطرف الآخر والقدرات العسكرية والتكنولوجية، وبقدر ما يمكن للتجسس أن يوقف انزلاق النزاعات إلى حروب، ويُسهل مسار المفاوضات الحساسة، يمكن له أيضاً أن يدفع باتجاه صراع مسلح.

عدوانية

وتعكس أزمة المنطاد، وهي جزء صغير من جهد تجسسي صيني أكبر بكثير، العدوانية الجديدة من قبل بكين في جمع المعلومات الاستخباراتية عن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قدرات واشنطن المتنامية في جمع معلومات عن الصين، ويسعى البلدان من خلال ذلك إلى الإجابة عن السؤالين الأهم لتحديد سياستهما وردات فعلهما: ما نوايا القادة في الدولة الأخرى، وما القدرات العسكرية والتكنولوجية التي يتمتعون بها؟

وتنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أميركيين، لم تكشف هويتهم، قولهم إن وكالة المخابرات المركزية تركز على الرئيس الصيني، شي جين بينغ، نفسه، وعلى وجه الخصوص نواياه فيما يتعلق بتايوان. وبالوقت نفسه، زادت فرق عمل مكافحة التجسس، التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، عملياتها للتصدي لجهود الصين في تجنيد جواسيس داخل الولايات المتحدة في جميع أنحاء البلاد، حيث جرى اعتراض عشرات الاختراقات الصينية لقواعد عسكرية على الأراضي الأميركية خلال الأشهر الـ 12 الماضية.

ويضيف المسؤولون أن جهود الصين مجتمعة تصل إلى كل جانب من جوانب الأمن القومي، وإلى الدبلوماسية والتكنولوجيا التجارية المتقدمة في الولايات المتحدة والدول الشريكة.

وقال كريستوفر راي، من مكتب التحقيقات الفيدرالي، إن “صراع التجسس مع الصين أكثر اتساعاً من ذلك الذي دار بين الأميركيين والسوفييت خلال الحرب الباردة”، ويقر راي بأن عدد السكان الكبير في الصين وقوة اقتصادها يمكّنها من بناء أجهزة استخبارات أكبر من تلك الموجودة في الولايات المتحدة.

وترى الصين الأمر بشكل مختلف، حيث قال وانغ وينبين، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، إن “الولايات المتحدة هي الدولة رقم واحد في مجال المراقبة، ولديها أكبر شبكة تجسس في العالم”.

ذكاء اصطناعي

ويطفو مؤخراً سباق البلدين في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إذ يعتقدان أنها ضرورية للحفاظ على التفوق العسكري والاقتصادي، وستمنح كذلك وكالات التجسس الخاصة بهما قدرات جديدة.

وترى حكومة الولايات المتحدة أن تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي يساعدها في تعويض قوة الصين العددية، ويقول مسؤولون أميركيون إن المسؤولين الصينيين يأملون أن تساعدهم هذه التكنولوجيا على مواجهة القوة العسكرية الأميركية.

وتعمد الصين إلى جمع المعلومات الاستخبارية من خلال الاتصال المباشر بالمواطنين الأميركيين، حيث تهدف وكالة المخابرات الرئيسية في الصين ووزارة أمن الدولة إلى تجنيد عملاء وموظفين بالحكومة الأميركية، وفي شركات التكنولوجيا، وصناعة الدفاع.

ويستخدم العملاء الصينيون موقع التواصل الاجتماعي LinkedIn لجذب المجندين المحتملين، ففي أي وقت يتولى فيه أميركي وظيفة ما ويجري الإعلان عنها تبدأ عشرات الطلبات بالورود من مواطنين صينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً لمسؤولين حاليين وسابقين.

واستجابة لهذه التهديدات قامت الوكالات الفيدرالية بفتح وتوسيع عملياتها الداخلية للقبض على الجواسيس، وقال كريستوفر راي إن مكتب التحقيقات الفيدرالي لديه آلاف التحقيقات الاستخباراتية المفتوحة حول الصين، وكل مكتب من مكاتبها الميدانية، البالغ عددها 56، لديه قضايا نشطة.

وأشار راي إلى أن جميع هذه المكاتب الميدانية لديها الآن فرق عمل لمكافحة التجسس والإنترنت، تركز إلى حد كبير على التهديد الذي تشكله المخابرات الصينية. وتشمل هذه التحقيقات محاولات جواسيس صينيين لتجنيد مخبرين، وسرقة معلومات، واختراق الأنظمة، ومراقبة ومضايقة المنشقين الصينيين في الولايات المتحدة، بما في ذلك استخدام ما يسمى بمواقع الشرطة الاستيطانية.

وقال راي “إنهم يسعون وراء كل شيء”، وإن جهاز المخابرات الصيني يستخدم “كل الوسائل المتاحة في وقت واحد، حيث يمزج الذكاء السيبراني والبشري ومعاملات الشركات والاستثمارات لتحقيق أهدافه الاستراتيجية”.

وفي الوقت نفسه، يرى مراقبون أميركيون أن بعض جهود مكافحة التجسس الأميركية متحيزة عنصرياً ومصابة بجنون العظمة، مما يرقى إلى مستوى “ذعر أحمر” جديد، في إشارة للحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.

على الضفة الأخرى، قامت الصين من جهتها بحملتها لمكافحة التجسس عبر توسيع قانون مكافحة التجسس في الأول من يوليو/ تموز، وفي أغسطس/ آب أعلنت وزارة أمن الدولة أن “جميع أفراد المجتمع” يجب أن يساعدوا في مكافحة التجسس الأجنبي، وعرضت مكافآت لأي شخص يقدم معلومات.

كما أنشأ البلدان مراكز تنصت جديدة، واتفاقيات سرية لتبادل المعلومات الاستخبارية مع حكومات الدول الأخرى، وكثف العملاء الأميركيون والصينيون عملياتهم ضد بعضهم البعض في المدن المحورية، من بروكسل إلى أبوظبي إلى سنغافورة، حيث يسعى كل جانب إلى التأثير على المسؤولين الأجانب وتجنيد الأصول، بحسب الصحيفة.

المراقبة الإلكترونية

بالنسبة لوكالات التجسس الأميركية، يمكن القول إن قرارات ونوايا الرئيس الصيني شي جين بينغ هي المعلومات الاستخبارية الأكثر قيمة التي تسعى إليها، لكنه أيضاً أكثر الأهداف مراوغة.

ويعمد شي، مثل غيره من القادة الاستبداديين، إلى الحد من استخدام الهواتف والاتصالات الإلكترونية، بحيث يجعل من الصعب على وكالات الاستخبارات الأجنبية اعتراض أوامره. لكن المسؤولين الصينيين يستخدمون الأجهزة الإلكترونية، مما يمنح الوكالات الأميركية فرصة لاعتراض المعلومات، وهو ما يطلق عليه الجواسيس “الإشارات” التي تمنحهم بعض الاطلاع على النقاشات الصينية الداخلية.

وتقوم الوكالات الأميركية حالياً بالتحقيق في سبب وضع وزير الدفاع الصيني، الجنرال لي شانغ فو، قيد التحقيق بتهمة الفساد، ولماذا أطاح شي بوزير خارجيته، تشين غانغ.

ولكن وكالة المخابرات المركزية تواجه تحديات كبيرة لبناء شبكاتها في الصين، ويرجع ذلك جزئياً إلى شبكات المراقبة الإلكترونية الواسعة في الصين والتي جعلت من الصعب على ضباط الحالة الأميركيين التحرك بحرية في الصين للقاء الاتصالات.

حتى إن الصين لديها برنامج ذكاء اصطناعي، يمكنه التعرف على الوجوه، مما يعني أن التنكر التقليدي ليس كافياً، وفقاً لمسؤول استخباراتي سابق، ويقول مسؤولون سابقون في المخابرات إن العملاء الأميركيين يجب عليهم الآن قضاء أيام، بدلاً من ساعات، في السير على الطرق لرصد أي عملاء صينيين متخفين قبل مقابلة مصدر أو تبادل الرسائل.

وفي عهد ويليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات الأميركية (سي آي إيه) منذ عام 2021، وظفت الوكالة المزيد من الخبراء الصينيين، وزادت الإنفاق على الجهود المتعلقة بالصين، كما أنشأت مركزاً جديداً للمهام حول الصين، وقال بيرنز في شهر يوليو/ تموز الماضي إن الوكالة أحرزت تقدماً في إعادة بناء “قدرة استخباراتية بشرية قوية”.

وفي حين أنه من غير الواضح مدى قوة الشبكة الجديدة، يعتقد بعض المسؤولين الأميركيين أن أسلوب الحكم الاستبدادي الذي ينتهجه شي يمنح وكالات الاستخبارات فرصة لتجنيد المواطنين الصينيين الساخطين بما في ذلك النخبة السياسية والتجارية. وتقول بعض الشخصيات الصينية البارزة، بما في ذلك “أمراء” عائلات النخبة في الحزب الشيوعي، في محادثات خاصة إنهم لا يتفقون مع التحول الذي اتخذته الصين.

وفي الآونة الأخيرة، سمح اختراق متطور ودقيق لمنصة الحوسبة السحابية، التابعة لشركة مايكروسوفت، للصين بالوصول إلى رسائل البريد الإلكتروني لكبار دبلوماسيي وزارة الخارجية الأميركية، بما في ذلك السفير الأميركي في بكين، ووزيرة التجارة، جينا رايموندو.

ويتخذ المسؤولون الأميركيون الذين يسافرون إلى الصين إجراءات مضادة مفصلة لتجنب سرقة الأسرار الحكومية، ويتم إصدار هواتف محمولة وأجهزة كمبيوتر محمولة لهم، ويطلب منهم ترك أجهزتهم العادية في المنزل.

وقال دينيس وايلدر، محلل استخباراتي أميركي سابق لشؤون الصين وزميل بارز في جامعة جورج تاون، إن فهم نوايا القادة الأميركيين يعد أحد الأولويات القصوى لوكالات المخابرات الصينية، وقال: “إنهم يبحثون عن التخطيط والنوايا العليا، ما الذي يفكر فيه وزير الخارجية؟ ماذا يفعل؟ ما العمليات التي تقوم بها وكالة المخابرات المركزية؟ هل يعمل ضدك؟”.

أزمة تايوان

تعتبر تايوان القضية الأكثر خطورة حالياً بين الصين وأميركا ويقول محللون إن هذه هي النقطة الساخنة التي من المرجح أن تؤدي إلى حرب، حيث تسعى الصين إلى السيطرة على تايوان وأمر شي جيشه بأن يكون قادراً على القيام بذلك بحلول عام 2027. ولكن حتى الآن، لا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها لديهم معلومات استخباراتية ملموسة حول ما إذا كان شي على استعداد لإصدار أمر بالغزو.

وعلى الطرف الآخر، تبدو الاستخبارات الصينية مهووسة بالسؤال عن مدى جدية تعهدات الرئيس الأميركي، جو بايدن، لأربع مرات بأن الجيش الأميركي سيدافع عن تايوان إذا حاولت الصين الاستيلاء على الجزيرة، وهل يعني بايدن ذلك حقاً، وما إذا كان القادة الأميركيون يخططون لإبقاء تايوان بشكل دائم بعيداً عن متناول الصين.

وفي غياب معلومات استخباراتية حقيقية عن النوايا، يركز المسؤولون الأميركيون والصينيون على جمع المعلومات حول القدرات العسكرية لكل منهم، على سبيل المثال، كثفت الولايات المتحدة مراقبتها الجوية للقواعد العسكرية الصينية.

وفي الوقت نفسه، اخترق عملاء المخابرات الصينية الحكومة التايوانية على مدى عقود، كما يقول مسؤولون سابقون في المخابرات الأميركية، ويحاول العملاء الصينيون الآن معرفة المزيد عن جهود إدارة بايدن لتزويد تايوان بأنظمة أسلحة معينة، وتوفير تدريب سري للقوات التايوانية. 

ويقول مسؤولون أميركيون إن رغبة الصين في معرفة المزيد عن أنظمة الأسلحة الأميركية تفسر محاولاتها لمراقبة القواعد العسكرية. ووفقاً للمسؤولين، الذين قاموا بتتبع حوالي 12 محاولة قام بها مواطنون صينيون للتسلل إلى قواعد عسكرية، لالتقاط صور، أو قياس النشاط الكهرومغناطيسي خلال العام الماضي، فإن معظم هذه الجهود تبدو وكأنها تركز على القواعد التي من شأنها أن تلعب دوراً مهماً في صراع تايوان.

لكن جمع المعلومات الاستخبارية لا يشكل في حد ذاته مقدمة للحرب، ومن الممكن أن يكون صراع التجسس في الواقع بديلاً للاشتباكات المسلحة، كما كان الحال في كثير من الأحيان خلال الحرب الباردة.

ويعتقد مسؤولو المخابرات الأميركية أن الصين لا ترغب في خوض حرب الآن بسبب تايوان، حسبما قالت أفريل دي. هاينز، مديرة المخابرات الوطنية، للكونغرس في مارس/ آذار، وأضافت “نُقدر أن بكين لا تزال تعتقد أنها تستفيد أكثر من غيرها، من خلال منع تصاعد التوترات والحفاظ على الاستقرار في علاقتها مع الولايات المتحدة”.

المصدر: صحيفة العربي الجديد