“يوم تاريخي” للإسرائيليين.. و”مخاوف” من تأجيج نار الصراع الداخلي

Spread the love
image_pdfimage_print

تتجه الأنظار اليوم للمحكمة الإسرائيلية العليا التي تنظر في التماسات قدمتها 40 جمعية حقوقية من أجل إلغاء قانون سَنّه الكنيست قبل شهرين، ويعرف بـ “تعديل قانون أساس وإلغاء حجة المعقولية”، وهو يقضي بتقليص صلاحيات الجهاز القضائي، بما فيه المحكمة العليا، لصالح الحكومة، بدعوى أنها منتخبة من الشعب.

وتسود إسرائيل حالة ترقب وتوتر كبيرين، قبيل قيام المحكمة العليا باتخاذ “قرار تاريخي” من شأنه أن يصب الزيت على نار السجالات الداخلية في إسرائيل بين معسكرين متصارعين على ما هو أكبر وأعمق من مكانة الجهاز القضائي، بصرف النظر عمّا إذا كان الحكم لصالح هذا المعسكر أو ذاك. تسود حالة خوف لدى الإسرائيليين من “الثلاثاء الأسود”، من إمكانية انتصار أحد المعسكرين على الآخر، لأن ذلك سيعمّق حالة التشظي والانقسام العميق، ولذا تتجدد مساعي رئيس إسرائيل يتسحاق هرتسوغ، وجهات أخرى، من أجل إحراز تسوية تحول دون تفاقم الانقسام وتفكّك اللحمة الداخلية، الذي يعتبره، وبحق، مراقبون إسرائيليون أكثر خطراً من قنبلة إيران.

خلفية الصراع الداخلي

يشار إلى أن الصراع الإسرائيلي الداخلي قد تفجرَ بعد فوز أحزاب اليمين الصهيوني المتشدّد، في نوفمبر/تشرين 2022، وفي أعقاب أربع جولات انتخابية متتالية بدءاً من 2019 دون حسم. لكن بداية هذا الصراع كانت في الثالث من يناير/ كانون ثاني الماضي، عندما بادر وزير القضاء في حكومة الاحتلال ياريف لافين لإعلان خطته بـ “الإصلاحات القضائية”، واستعادة الصلاحيات الزائدة التي تستأثر بها المحكمة العليا مشدّداً على ضرورة منعها من إلغاء “قوانين أساس”، وإبطال قرارات حكومية، وهذا ما اعتبرته أوساط إسرائيلية معارضة بالأساس “انقلاباً على الدستور”.

 وقد بدأ الخلاف حول صلاحيات محكمة العدل العليا بين جهات إسرائيلية مختلفة قبل ثلاثة عقود، بعدما بادرَ رئيس المحكمة العليا الأسبق أهارون براك إلى إصدار أحكامه ليس فقط بناء على قوانين يشرّعها الكنيست، بل استناداً إلى توجهات نقدية له ترى بضرورة إلغاء قرارات الحكومة، أو قرارات وزراء فيها، خاصة المتعلقة بالتعيينات بحال كانت “غير معقولة”، ما يعني الاستناد إلى مسوغات غير واردة في نص القانون، مثل “حجة المعقولية”، أو “مدى التناسبية”. وفعلاً، قامت المحكمة الإسرائيلية العليا في الماضي بإلغاء عدد من القرارات الحكومية المتعلقة بتعيين موظفين كبار أو وقفهم عن العمل، ومن أخطرها إلغاء تعيين رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لرئيس حزب “شاس” آرييه درعي وزيراً للداخلية والصحة، في مطلع العام الجاري، لأنه تعيين “غير معقول”، لكون الوزير مداناً بتهم فساد وتغرير بالمحكمة وتضليلها. وفي أعقاب ذلك زادت وتصاعدت هجمات الوزراء، ومجمل معسكر اليمين الصهيوني المتشدّد على المحكمة العليا والطعن بها واتهامها بأنها تسرق صلاحيات “منتخبي الشعب”، وتمارس “استبداداً قضائياً سياسياً”، وكأنها هي الحكومة الفعلية. واتسع الخلاف وتعمق في صفوف الإسرائيليين، بعدما تبيّن أن الائتلاف الحاكم قد شرع في تطبيق “خطة إصلاحات” متكاملة تهدف لإجراء تغييرات عميقة من خلال عشرات مشاريع القوانين، أو تعديلات لقوانين الأساس، وقد نجح حتى الآن بتمرير بعضها، منها تعديل ما يعرف بـ  “قانون التعذّر”، الذي يحول عملياً دون إبعاد رئيس حكومة عن منصبه، إلا في حالة نادرة يكون فيها عاجزاً جسمانياً أو نفسياً، بعد مصادقة ثلثي أعضاء الحكومة والبرلمان على ذلك.

حسابات نتنياهو

على خلفية ذلك تُوجّه أوساطٌ إسرائيلية واسعة إصبع الاتهام لنتنياهو بأنه يقود هذا “الانقلاب على النظام”، بغية تقزيم جهاز القضاء والانتقام منه، بعدما تجرأ عليه وقدّم ضده، قبل أربع سنوات، لوائح اتهام خطيرة بالفساد. وهناك من يرى بخلط نتنياهو الحسابات، وخلط المصالح الشخصية بالمصالح العامة العليا، تعبيراً عن تغيّرات حقيقية وعميقة لدى القيادات الحالية في إسرائيل الموبوءة بالفساد، بعكس جيل سابق من القيادات السياسية.

وفشلت تباعاً مساعي التسوية برعاية رئيس إسرائيل وجهات أخرى، نتيجة عدة عوامل أكبر وأخطر من النقاش حول فصل السطات الثلاث ومكانة محكمة العدل العليا، فالصراع يدور في العمق بين أسباط إسرائيلية مختلفة عن بعضها جوهرياً حتى اليوم، رغم “بوتقة الصهر” المنتهجة منذ 1948. والحديث يدور عن صراعات مبطّنة وعلنية بين يهود شرقيين وغربيين مختلفين في نمط الحياة، بين علمانيين وبين متدينين حول ثنائية الدين والدولة، بين مستوطنين ومتشددين يرغبون بـحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بالقوة المفرطة وبين راغبين بتسويته، أو إدارته، وسبق أن قال رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين عن هذه الصراعات، في “خطاب الأسباط” خلال مؤتمر هرتزليا للمناعة القومية، عام 2015، إنها أخطر على إسرائيل من قنبلة إيران، لأنها تفقدها أهم أسرار قوتها: اللحمة الداخلية. وتستمر هذه الصراعات وتتصاعد رغم التحذيرات من خطورتها، ورغم تبعاتها المحسوسة على الاقتصاد والأمن المتراجعين، وعلى صورة وهيبة وقوة ردع إسرائيل تجاه الخارج، علاوة على ارتفاع عدد المهاجرين، وإعلان مئات الأطباء عن رغبتهم بالهجرة، أو الشروع فيها، وإعلان آلاف الضباط والجنود عن وقفهم التطوع في الخدمة العسكرية في الاحتياط.

رياح السياسة بعكس سفن نتنياهو

نتنياهو، الذي يترأس في هذه المرحلة حكومته السادسة، هو سياسي مجرّب، ويدرك التبعات الخطيرة لاستمرار هذا النزيف على إسرائيل كدولة وحكومة وجماعة، وعليه شخصياً، خاصة أنه حسّاس لمسألة صورته في سجلات التاريخ، لكنه يؤثر البقاء في السلطة والنجاة من المحكمة على مصلحة عليا لإسرائيل والإسرائيليين. وفي المقابل هناك من يرى أنه يريد وقف النزيف نتيجة لإدراكه التبعات، وكي لا يكتب عنه أنه قاد الإسرائيليين إلى الهاوية، ولبدء تفكّك دولتهم وكينونتهم السياسية، بعد ثمانية عقود على تأسيسها. غير أنه عاجزٌ، و”أسير” بيد شركاء متطرفين داخل ائتلافه الحاكم. ويسوّغ هؤلاء تقديراتهم بأن نتنياهو منزعج من الاحتجاجات العالية شبه اليومية التي تلاحقه وزوجته إلى حيث ما ذهب في البلاد وخارج البلاد علاوة عن أنها تحرمه من استقباله في البيت الأبيض حتى الآن، بخلاف التقاليد التي سادت حتى الآن، فالإدارة الأمريكية تواظب على توجيه الانتقادات له ولحكومته وللانقلاب  الحاصل على النظام. بين هذا وذاك ترى المعارضة السياسية، برئاسة يائير لبيد، أن كل أحاديث وتصريحات ومبادرات نتنياهو حول “تسوية” للصراع الدائر مجرّد خدعة كي يتمكن من تلقي دعوة البيت الأبيض، خلال زيارته المرتقبة هذا الشهر للولايات المتحدة، التي سيعود منها لاحقاً ويدير ظهره مجدداً لفكرة التسوية وللمعارضين لـ “الإصلاحات القضائية”، كيف لا، وسجلّه مليء بالتناقضات والأكاذيب، وسبق أن قال عنه، قبل شهور، حليفه وزير المالية المستوطنن باتسلئيل سموتريتش “كاذب ابن كذاّب”.

ذروة جديدة

وتبلغ السجالات الإسرائيلية الداخلية ذروةً جديدة اليوم بانعقاد المحكمة العليا بـامل هيئتها، بشكل غير مسبوق (15 قاضياً)، للنظر في التماس جهات حقوقية وسياسية ضد مشروع قانون إلغاء “حجة المعقولية”. ويصل النقاش للمحكمة العليا على خلفية مظاهرات واحتجاجات متواصلة صاخبة في الشوارع داخل المدن، منذ مطلع العام، وبعد سجالات في الإعلام، وسط  محاولات وزراء ونواب لترهيب وتهديد قضاة المحكمة العليا وتلميحات وتصريحات نواب ووزراء بعدم احترام حكم المحكمة العليا.

يشار إلى أن فقدان دستور في الدولة اليهودية قد فتح الباب أمام هذه الصراعات التي ما كانت لتنفجر، خاصة بهذه القوة، لو توفّرَ دستورٌ يرسم الحدود بين السلطات الثلاث، ويكفل توازنها وتوزيع القوى بينها. وحتى الآن تهرّبت حكومات الاحتلال المتعاقبة، منذ حكومة بن غوريون الأولى، عام 1949، من وضع دستور، لعدة اعتبارات منها عدم الرغبة في ترسيم حدود الدولة، ومعارضة أحزاب المتدينين اعتبار الكنيست مصدراً للتشريع، وترى بأن التوراة هي المصدر، وهذا ما ترفضه أوساط علمانية تأخذ أعدادها في التقلّص، في ظل ازدياد عدد المؤيدين لدمج الدين بالدولة.

 الامتحان الصعب

المحكمة العليا التي بدأت، هذا الصباح، بالتداول في التماسات تطالب بإلغاء قانون إلغاء حجة المعقولية، من غير المتوقّع أن تصدر حكمها اليوم، وحوزتها مهلة أربعة شهور للكشف عن حكمها. في حال رفضت الالتماسات أو قبلتها سيتواصل الصراع بين المعسكرين، اللذين يبدوان كقطارين متسارعين نحو الارتطام، لأن غلبة أحدها على الآخر تعني استمرار الخلاف والنزيف وتعميقه. وفي حال قبلت المحكمة العليا الالتماسات من المتوقع أن تعلن مجموعة من النواب والوزراء رفضها له، مقابل قبول آخرين واحترامهم له، ولكن الامتحان الحقيقي سيكون في اليوم التالي، عندما يقدم التماس جديد للمحكمة العليا يطالب بإلغاء قرار حكومي معين بدعوى أنه “غير معقول”. في مثل هذه الحالة من الممكن أن تدخل إسرائيل في سيناريو حسّاس وخطير يعرف قضائياً بـ “الفراغ الدستوري”، ففيه يضطر رؤساء الجيش والموساد والشاباك وبقية الأذرع السلطوية الأمنية والمدنية أن يتخذوا قراراً حاسماً: هل ننصاع لقرار المحكمة العليا أم لقرارات الحكومة؟ هذه الحالة من شأنها أن تفاقم حالة الفوضى الداخلية واحتدام المأزق والصدام مع تبعات خطيرة متعددة الاتجاهات.

قبيل التداول في المحكمة العليا كررت المستشارة القضائية للحكومة تأكيدها “ضرورة شطب هذا القانون غير الدستوري”، فيما قال وزير القضاء في حكومة الاحتلال ياريف لافين، هذا الصباح، إن مجرد التداول يمس مساً خطيراً بالديموقراطية، وبمكانة الكنيست، وبالسيادة الشرعية، كونها غير مخولّة للبحث بالموضوع، بعدما قال الشعب كلمته الأخيرة في الانتخابات الحرّة. في المقابل قال لبيد، في تصريحات إعلامية، إن الهجمة التي يقودها لافين تؤكد رغبة الحكومة بالقضاء على الديموقراطية وبناء نظام طغيان واستبداد. يذكر أنه رغم تماثل المحكمة الإسرائيلية العليا مع قرارات حكومة الاحتلال في كثير من أحكامها إلا أن إضعافها، وفق خطة الائتلاف الحاكم، سيجد الفلسطينيون، على طرفي الخط الأخضر، أنفسهم عرضة للمزيد من الأضرار والاعتداءات.

حرب أو هزة أرضية

 ودعت صحيفة “هآرتس”، في افتتاحيتها اليوم، المحكمةَ العليا لتجاهل تهديدات الوزراء لها، والحكم بلا خوف، وبمهنية، واتخاذ قرار يرى بأن صلاحية الكنيست ليست غير محدودة، وأن الفوز في الانتخابات العامة ليس شيكاً مفتوحاً يتيح تغيير ملامح أساسية للنظام السائد منذ عقود.

يشار إلى أن رئيسة المحكمة العليا استير حيوت قاضية مجرّبة، وصاحبة نفوذ، وهي ستخرج بعد شهر للتقاعد، ولا بد مسكونة بهاجس الإرث الخاص من ورائها، ومن المرجح أن تدفع نحو قبول الالتماسات، بخلاف رغبة الحكومة. لكن، وبسبب حرصها المتوقع على عدم تعميق التشظي الكبير بين الإسرائيليين ستمتنع عن اتخاذ قرار حاسم، أو على الأقل التمهّل بالكشف عنه، ريثما تتجدد مساعي المصالحة بين المعسكرين المتصارعين، فهي أيضاً تدرك ولا بد تبعات قرار المحكمة العليا على سلامة مبنى المجتمع والدولة.

في المقابل، يرى مراقبون إسرائيليون أن حالة الانكسار ستتفاقم في كل الأحوال، إلا إذا نجحت جهات ثالثة بإحراز تسوية، أو حرب خارجية، أو هزة أرضية كالتي عصفت بالمغرب، ستوقف السجالات الداخلية، أو تؤجلها.

المصدر: صحيفة القدس العربي