المدارس الفرنسية لم تعد أبدًا تقبل ولوج الفتيات ممّن يرتدين العباية، حيث قامت الإدارة التربوية بإرجاع العديد منهن إلى منزالهن منذ انطلاق الموسم الدراسي، عملًا بقرار وزارة التربية بحظر ارتداء العباية والقمصان الطويلة في المؤسسات التعليمية في البلاد، متحجّجة بأنها لباس يتعارض مع مبادئ العلمانية في فرنسا.
ما زالت ردود الأفعال تتوالى على القرار، حيث رأى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية أن “القرار تعسفي ويخلق مخاطر عالية للتمييز ضد المسلمين”، بالتالي القرار ليس سوى حلقة جديدة من حرب عبثية ضد الإسلام، في بلد يعتبَر موطنًا لأكبر أقلية مسلمة في أوروبا، حظر ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الحكومية منذ عام 2004.
استهداف ديني وثقافي
إنها حرب ضد الهوية غير الفرنسية في هذا البلد الذي لا تقبل حكومته التعايش مع هويات متنوعة داخل حدوده، من واقع أن هذا القرار لا يستهدف المسلمين فحسب، بل كذلك الأقليات غير المسلمة بمن فيهم الأفارقة المعروفون بارتدائهم للأزياء الطويلة.
ليست الأقليات وحدها من اعترضت، بل حتى اليسار الفرنسي وصف القرار بأنه مخالف للدستور، وبعدما أحيل القرار إلى مجلس الدولة، وهو أعلى محكمة في فرنسا تنظر في الشكاوى ضد السلطات الحكومية، رفض المجلس الشكوى يوم الخميس 7 سبتمبر/ أيلول الحالي.
حيث أيّد القرار وأكّد على أنه “لا يشكّل تمييزًا ضد المسلمين”، واعتبر القاضي الإداري أن حظر هذه الملابس في المدارس العامة والكليات والمدارس الثانوية “لا ينتهك الحريات الأساسية، ولا يشكّل انتهاكًا خطيرًا وغير قانوني بشكل واضح للحق في احترام الحياة الخاصة، وحرية العبادة والحق في التعليم واحترام المصالح الفضلى للطفل أو مبدأ عدم التمييز”.
فيما يبدو أنها أول معركة قانونية حُسمت لصالح الحكومة، لا سيما وزير التربية الوطنية غابرييل أتال الذي اعتبر الحكم “قرارًا مهمًّا لمدرسة الجمهورية”، حيث إن القاضي عرّف العباية بأنها تشكّل مظهرًا صريحًا للانتماء الديني للتلاميذ، لذلك فإن مذكرة وزير التربية تندرج في إطار قانون عام 2004 بشأن حظر الرموز الدينية الظاهرة في المدارس.
من جهة أخرى، اعتبرت الجهة التي تقدمت بالشكوى، وهي جمعية العمل من أجل المسلمين، أن هذا الحظر بمثابة “اعتداء على حقوق الطفل”، وفي حديثها عدة مرات خلال الجلسة، اعتبرت رئيسة الجمعية سهام زين أن “هذا التعميم متحيّز جنسيًّا، ويستهدف الفتيات فقط”، وأضافت: “العرب هم المستهدفون، هذا هو النقاش الحقيقي”.
تودُّد إلى اليمين المتطرف
قرار كهذا يعادي المهاجرين والأقليات على وجه عام، كما يفعل ذلك دعاة اليمين المتطرف الذين يؤمنون بالاستبدال الثقافي والديني في فرنسا، ويروّجون لنظرية المؤامرة هذه على نطاق واسع، حتى إن كانت لم تلقَ في البدء قبولًا من طرف الجمهور، فإننا بتنا نلحظ تطبيعًا متزايدًا مع مثل هذه الأفكار في المجتمع الفرنسي.
صفّق اليمين المتطرف لهذا القرار، حتى لو كان مسؤولوه المنتخبون حريصين على الحفاظ على صورة المعارضين، فإنهم يدعون الحكومة إلى المضيّ قدمًا، حيث اعتبر النائب عن حزب الجبهة الوطنية، رومان بوبري، أن “هذا الإجراء يسير في الاتجاه الصحيح لكنه لن يحل المشكلة الأساسية، وهي الهجرة”، وبالروح نفسها اغتنم إيريك زمور الفرصة أيضًا، مستغلًّا الفرصة لإعادة تدوير أحد وعود حملته الانتخابية على الملابس المدرسية.
الحماس نفسه كان لدى رئيس الجمهوريين إيريك سيوتي، مغردًا على موقع إكس (تويتر سابقًا): “لقد طالبنا مرارًا وتكرارًا بحظر العباءات في مدارسنا، أرحّب بقرار وزير التربية الوطنية الذي يثبت أننا على حق”، ومن جانبها أعلنت زميلته نادين مورانو، عبر الشبكة الاجتماعية نفسها، أنها “تدعم” الوزير.
يعدّ هذا الإجراء، الذي حظيَ بموافقة اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، رمزًا جديدًا للاحتكاكات الجارية داخل اليسار، الذي تم بالفعل تقويض ائتلافه الذي تم تشكيله من أجل الانتخابات التشريعية لعام 2022، حيث انقسمت المعارضة اليسارية بشأن العلمانية؛ ففي حين رحّب البعض بالمبادرة، أعلن مسبقًا اليسار المتطرف نيته الطعن فيه أمام المحكمة.
تقاعس حكومي
ترى جهات فرنسية منتقدة لهذا القرار أن حكومة ماكرون أعطت القرار أكثر ممّا يستحق، في وقت كانت تحتاج المدرسة الفرنسية إلى استعداد جيد للعام الدراسي، خاصة أنها تعاني من نقص في المدرّسين.
وهكذا نجحت الحكومة الفرنسية بتركيزها على العباية في حجب المشاكل الرئيسية الأخرى التي تواجه المدارس في فرنسا، علمًا أن القليل من المؤسسات التعليمية في الجمهورية تواجه بالفعل وجودًا قويًّا للعبايات داخلها، لكن بغض النظر عن الآراء حول هذا الموضوع، فمن الواضح أن قائمة الملابس المحظورة في تزايد مستمر، كما هو مبيَّن في مذكرة وزارة التربية الوطنية بشأن العلمانية في المدارس.
لدى 64% من الفرنسيين رأي سلبي للغاية حول المدرسة، حسب استطلاع حديث، حيث يشعرون بانخفاض ملحوظ في المستوى التعليمي لدى أبنائهم، بما في ذلك مستوى اللغة الفرنسية الذي ظل في انحدار مستمر منذ الثمانينيات، ولهذا السبب لا يتمتع واحد من كل 4 تلاميذ بالمستوى المطلوب في اللغة الفرنسية لدخول المدرسة الإعدادية.
لم تعد المدارس في فرنسا قادرة على الوفاء بوعدها بتكافؤ الفرص، خاصة أنها تعاني الآن من نزيف حاد في الموارد البشرية، ورغم الزيادة في الرواتب فإنها لم تمنع العديد من المعلمين من مغادرة السفينة، حيث إنه في رياض الأطفال والابتدائية العامة بلغت نسبة شغل الوظائف على المستوى الوطني 84% هذا العام مقابل 78.2% عام 2022، أما بالنسبة إلى الدرجة الثانية (الكليات والمدارس الثانوية) فتبلغ 86.3% مقابل 83.3%، وهذا يعني أنه لا تزال أكثر من 3 آلاف و100 وظيفة شاغرة لم يجري ملؤها في مسابقات التوظيف.
بينما يبحث المعلمون عن اعتراف حقيقي بما يتناسب مع التزامهم ودعمهم الملموس لمساعدتهم على التعبير عن مهنتهم، بدأت جماعات في احتكار النقاش العام، ولن يكون هذا الجدل الأول ولا الأخير في فرنسا حول ثوب منسوب إلى الدين الإسلامي أثناء عودة التلاميذ الفرنسيين إلى مدارسهم.
عبد الحكيم الرويضي – كاتب وباحث مغربي مقيم في روسيا
المصدر: موقع نون بوست