بين الإنماء والواقعية السياسية… كيف يقرأ “الحزب” و”التيار” اللامركزية؟

Spread the love
image_pdfimage_print

ينتظر لبنان بداية عهد رئاسي جديد، وإذا كان مصطلح العهد يجسّد مشروع رئاسة الجمهورية فإنَّ واقع لبنان المعاصر بعد «اتفاق الطائف» وضع السلطة في الإطار التكاملي بين الرئاسات الثلاث ووزارة المال، بالتالي، انّ كل عنوان فضفاض لا ينفع إذا لم يتوافق مع الواقعية السياسية المفروضة في «اتفاق الطائف» والعرف الدستوري، خصوصاً انّ لبنان بلد قائم على التوازنات.

اللامركزية الموسّعة بين الإدارية والمالية

قد يكون مفاجئاً ما يسمعه البعض، لكن بحسب التعريف العلمي وانطلاقًا من واقع لبنان الحالي، فإنَّ اللامركزية الادارية والمالية في لبنان مُطبّقة لكن معطوبة بفعل بعض الثغرات، بالتالي إذا اراد أحد الحديث عن لامركزية في لبنان، فإنَّ الانطلاق من التعديلات الدستورية لبعض المواد الفاعلة من أدوات اللامركزية قد تكون الطريق الأنسب نحو تحقيق ما هو مطلوب، خدمةً للمواطن.

اللامركزية الإدارية وأزمة بعض المتطفلين على المُصطلح

لا بُدَّ وقبل الغوص في اللامركزية الادارية ان نتوقف عند بعض المسؤولين ممن يتداولون مُصطلح الحاجة الى تطبيق «اللامركزية الادارية»، لإقناعهم بأنّه لا يجب ان يطالبوا باللامركزية الادارية لانّها مُطبّقة من خلال «اللاحصرية» وضمن المرسوم الاشتراعي الرقم 116 – التنظيم الاداري 12/06/1959، والذي ينظّم وجود محافظات وأقضية ادارية، وينظّم عمل هذه الإدارات العامة ومهمّاتها، والتي تتضمن ايضاً دوائر خاصة لغالبية الوزارات.

هذه المنظومة الادارية المتكاملة والمهمّة في حال كانت تُستغل ايجابياً، تمثّل عمل اللامركزية الادارية بنحو واضح وصريح. واذا ما اردنا ان نتحدث عن بُعد انمائي واسع لهذه المنظومات الادارية، نكون قد دخلنا في خطأ كبير، لأنّ المصطلح العلمي يحصر عملها في الشق الإداري الذي يجب ان نتحدث عن اهمية تطويره على الشكل الآتي:

1- وضع تعريف لمهمّات كل دائرة ادارية لكل وزارة في المحافظات، وتعزيز عملها وكادرها العملي، لتحويله من المحاصصة السياسية الى الكفاية العلمية واحترام القانون.

2- إدخال الحوكمة الالكترونية على معاملات المواطنين في كل دائرة ممثلة للوزارات في المحافظات.

3- تفعيل سلطة وزارة الداخلية الرقابية على عمل المحافظين، والتي عليها ان تلعب دوراً حقيقياً في حال كانت هناك جدّية لدى وزير الداخلية، للقيام بإنجازات لا يمكن التذرّع بأنّ الواقع الحالي لا يسمح القيام بها.

4- محاسبة المحافظين سواء على المستوى المالي او الاداري. فالفساد المستشري في عمل المحافظات تحت ادارة غالبية المحافظين، لا يمكن أحد ان يقول إنّه لا علم له، لأنَّ عملية تشكيل لجنة بسيطة يمكنها ان تكشف كثيراً من الاسرار المفضوحة للمحافظين وفسادهم المتنوع.

انطلاقًا مما تقدم، فإنَّ الحديث عن تطبيق لامركزية ادارية هو لزوم ما لا يلزم، طالما انّ قانون اللامركزية الإدارية موجود لكنه غير مطبّق ابداً، بل هو أداة لفساد المحافظين وزبائنيتهم في المحافظات.

اللامركزية المالية ودورها في تحقيق الإنماء المحلي

عندما نتحدث عن لامركزية مالية نتساءل قبل كل شيء عن حقيقة بُعد لبنان عن تطبيق اللامركزية المالية، لنجد ضالتنا في المرسوم الرقم 1917 تاريخ 06/04/1979، والذي يحدّد آلية توزيع اموال الصندوق البلدي المستقل، والذي يجسّد لامركزية مالية تتوزع على اتحادات البلديات والبلديات التي تمثل الادارات المحلية في لبنان، وهي تتميز بأنّها إدارات محلية منتخبة على أساس مدني، ولكن يعيبها انّها منتخبة على أساس اكثري، وليس نسبياً، الامر الذي قد يكون من الضروري النظر فيه الى جانب بعض التحسينات الاساسية التي سنطرح بعضها في هذه الفقرة.

يُعتبر الصندوق البلدي المستقل ركيزة أساسية في عمل البلديات، خصوصاً أنّه يتضمن عائدات مالية تأتي من رسوم تجنيها الدولة من مختلف المناطق لتصبّ فيه وتتوزع نسبياً على المناطق، كما يُظهر الجدول الرقم 1 المأخوذ من كتاب «اللامركزية الطريق الى الإنماء والاستقرار/مؤلفه الدكتور زكريا حمودان».

وقوفًا عند بعض الهواجس المطروحة في الساحة اللبنانية، يمكننا القول إنَّ بعض التعديلات الشافية لهذه الهواجس يمكنها ان تأتي لنا بلامركزية مالية تصبّ في سبيل تحقيق الإنماء اللامركزي، وأهم هذه التعديلات:

1- تحديد حجم الدوائر التي ستشكّل الإدارات المحلية اللامركزية. وهنا يمكننا الحديث عن أقضية وتليها البلديات، فيكون لدينا مستوى لامركزي اول عبارة عن الأقضية، ومستوى لامركزي ثانٍ عبارة عن البلديات.

2- اعتماد قانون انتخابات للإدارات المحلية نسبي وخارج القيد الطائفي، مما يسهّل تثبيت فكرة تشكيل لوائح مغلقة، ويعزز دور الأحزاب غير الطائفية من جهة، بالإضافة الى تعزيز الرقابة المباشرة داخل المجالس المحلية من جهة اخرى.

3- تحديد مهمّات الإدارات المحلية لتكون انمائية بحتة، وعدم السماح بأي ثغرة تشريعية تتيح إعطاء خصوصية طائفية ذات بعد تقسيمي لأي ادارة محلية، مما يساهم في الحفاظ على صورة لبنان الموحّدة على المستوى الوطني.

4- تحديد نوع الموارد المباشرة للإدارات المحلية التي تحلّ مشكلة الجباية التي ينادي بها البعض، واعتماد موارد غير مباشرة مبنية على أسس علمية تعتمد مؤشرات جغرافية وسكانية عادلة.

انّ اللامركزية المالية الموجودة اليوم من خلال عمل البلديات هي منطلق أساسي لطروحات تطويرية لما هو موجود، لكن لا يمكننا ان نتوجّه نحو الغاء كُلي لجزء مهمّ بين ايدينا والتوجّه نحو طروحات فضفاضة تكون في الظاهر إنمائية وفي الباطن تتضمن البعد التقسيمي.

سياسياً كيف يرى «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» طرح اللامركزية؟

بحسب مصدر رسمي في «التيار الوطني»، انّ اللامركزية التي يطرحها هي لامركزية متكاملة تتضمن لامركزية ادارية ومالية، وانّ ما تمّ طرحه في «اتفاق الطائف» غير كافٍ، ويجب ان يتكامل بلامركزية مالية. ويتابع المصدر «أنّ اللامركزية الادارية المطبّقة اليوم من خلال البلديات التي لديها سلطة مالية للتصرّف بالأموال ضمن الإطار البلدي الخاص بها، لكن طرح التيار اليوم هو عبارة عن طرح مجالس أقضية على مستوى الأقضية الحالية او بعض التعديلات على الأقضية، بحيث يجب ان تكون هناك جباية خاصة لكل دائرة بحسب حجمها، وهذه الجباية التي تقوم بها الدائرة تصرفها على مناطقها فقط من اجل تحقيق الإنماء». ويضيف المصدر، انّ «ما يحصل اليوم هو انّ البعض يعتبر انّه يدفع رسوماً وضرائب من دون ان يستفيد مما يدفعه. على سبيل المثال، انّ المواطن الذي يقطن في المتن يدفع ضرائبه في المتن حيث الجباية مرتفعة، ولكن يستفيد منها مواطن آخر في طرابلس او عكار او الضاحية، وذلك بواسطة الخدمات التي تقّدمها الدولة عبر اموال تحصل عليها الدولة من منطقة المتن».

ويشير المصدر الى انّ الهدف هو تحقيق جباية عادلة، وانّ مضمون الطرح لا يرتبط ابداً بأي بُعد سياسي. ويؤكّد انّ حظوظ نجاح تطبيق اللامركزية التي يطرحها التيار كبيرة جدًا في ظل وجود رأي عام مؤيّد لها، بالاضافة الى قبول عدد كبير من الاحزاب لهذا الطرح. لكنه في الوقت نفسه يشدّد على انّ البعض يتحدث عن الفيدرالية، وانّ «التيار الوطني الحر» لا يتحدث ابداً بهذا الطرح اليوم، على الرغم من أنّه ليس بالأمر المحظور. ويشدّد المصدر على انّ الواقع الحالي هو واقع غير سليم، والحل البديل منه ليس الفيدرالية بل اللامركزية التي بات طرحها جدّياً اليوم وحظوظه كبيرة، مع التأكيد انّه يجب التوافق مع بقية القوى على تطبيقها، على الرغم من وجود قوى رافضة لها انطلاقًا من حسابات خاصة وضيّقة جدًا.

اما «حزب الله» الذي يعتبر انّ ما يحصل بينه وبين «التيار الوطني الحر» بالايجابي، فتؤكّد اوساطه انّه يدرس ما طرحه التيار ضمن الورقة التي تتضمن اقتراحات عدة من ضمنها اللامركزية، ومن المؤكّد أنّه يجب ان تحصل لقاءات عدة قريبة للبحث في مختلف النقاط المطروحة.

وتشير اوساط الحزب، الى أنَّ ما تمّ طرحه لا يمكن حصره بالحوار بين الحزب و»التيار»، لأنّ الامر يحتاج الى توسيع مروحة المشاورات مع بقية الافرقاء، خصوصا أنَّ ما يتمّ طرحه يجب ان يُقرّ في البرلمان بالتفاهم مع قوى سياسية اخرى، وانّ مدخل تطبيق هذه النقاط وغيرها ينطلق من انتخاب رئيس للجمهورية.

الدكتور زكريا حمودان

مدير المؤسسة الوطنية للدراسات والإحصاء

المصدر: صحيفة الجمهورية