لطالما انعكست الحالة والمزاج الإسلامي العامّ في المنطقة العربية؛ بتلويناتها وتوجهاتها، على قطاع غزّة، الذي احتضن منذ خضوعه للاحتلال الصهيوني؛ بعد عام 1967، حالاتٍ إسلاميةً متباينةً، فرديةً وجماعيةً، حركيةً كانت أو دعويةً، حيث توافرت البيئة الخصبة، والظروف المواتية، لبروز حركات التحرر الوطني، بكافّة انتماءاتها وسردياتها الفكرية، في ما كان صوت الحالة الإسلامية خافتًا، وحضورها المجتمعي والسياسي غائبًا، حتّى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وسيطرت حركة حماس على غزّة عام 2007، إذ تنتمي حماس فكريًا إلى التيّار الإسلامي الوسطي الإخواني، فلم يكن لجماعة التكفير والهجرة؛ بنسختها المصرية، أيّ تواجدٍ تنظيميٍ باستثناء أفراد منعزلين اجتماعيًا، سبق ذلك ظهور مجموعاتٍ عسكريةٍ عديدةٍ، نشطت ضدّ الاحتلال الصهيوني، في ثمانينيات القرن الماضي، تحت مسمياتٍ إسلاميةٍ جهاديةٍ.
لكن الحضور الفعلي للحركات الإسلامية المتطرّفة بصيغتها الجهادية السلفية، كان امتدادًا لصعود السلفية الجهادية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتّحدة، وبروز النسخة الأكثر تطرفًا لتنظيم القاعدة في العراق، في سياق صعود الحالة الجهادية ضدّ الاحتلال الأميركي في أفغانستان والعراق، واندلاع صراعٍ طائفيٍ داخليٍ ببعده الاقليمي الإيراني، إذ وصل الحضور السلفي الجهادي في غزّة ذروته بين الأعوام 2008-2012، ثم تراجع تدريجيًا بعد عام 2014، لينحسر بعد ذلك، ويتحوّل إلى أفرادٍ متناثرين، لا يزالون على ولائهم للفكرة والتوجه، والقناعة بنهج السلفية الجهادية.
وبتعبيرٍ أكثر دقةً وموضوعيةً؛ لا يمكن الحديث عن تيّاراتٍ أو جماعاتٍ أو حركاتٍ أو منظّماتٍ سلفيةٍ جهاديةٍ في غزّة، فهي أقرب إلى مجموعاتٍ متناثرةٍ، تعاني سيولةً مزمنةً في أعداد المنتمين لها، وهي متعددة الولاءات، وأكثر ارتباطًا بقياداتٍ وأشخاصٍ محددين، انفرط عقد معظمها بعد غيابهم لسببٍ أو لآخر، كما افتقدت قياداتٍ كاريزميةً وازنةً شرعيةً وعلميةً ملهمةً، والمَعلم الأبرز هو أنّ ما يجمعهم أقلّ بكثيرٍ من ما يفرقهم. مثلت كلٌّ من جمعية دار الكتاب والسنة؛ السلفية الدعوية، ومجموعات لجان المقاومة الشعبية المسلّحة، التي لا تنتمي فكريًا لأيّ جماعةٍ إسلاميةٍ، وعددٌ من الشباب المنتمين لحركة حماس، من المعترضين على مشاركة الحركة في انتخابات عام 2006، الروافد الأساسية لهذه الجماعات، ومن أشهر المجموعات في تلك المرحلة، جيش الإسلام، وجماعة أنصار الله في محافظة رفح، بقيادة الراحل عبداللطيف موسى، وأنصار السنة، وجيش الأمة؛ أهل السنة والجماعة، ولواء التوحيد، ومجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس، التي أعلنت عن نفسها عام 2012، تولى مسؤوليتها هشام السعيدني (أبو الوليد المقدسي)، لأشهرٍ عديدةٍ، حتّى قتل باستهدافه من قبل جيش الاحتلال، بالإضافة إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ بمسمياتٍ مختلفةٍ، مثل مجموعات “جلجلت”، الاسم الأكثر شهرة، لدى المواطنين في غزّة لظاهرة السلفية الجهادية، في سنواتها المبكرة قبل عام 2006.
قطاع غزّة لم يكن بيئةً مواتيةً ومشجعةً لتطوّر الحالة السلفية الجهادية، فالمجتمع الغزّي بطبيعته مجتمعٌ محافظٌ نسبيًا، يميل إلى الوسطية والاعتدال
إجمالًا؛ لم يكن أداء هذه المجموعات والتشكيلات السلفية بحجم الضخ الإعلامي، والهالة الكبيرة داخليًا، وتعاطي العالم الخارجي معها؛ على الأقلّ من الناحية الإعلامية والبحثية المُبالغ فيها، أغلبها لم يكن الاحتلال الصهيوني هدفًا لها، بل كانت بوصلتها داخليةً لمحاربة “الاعداء القريبين وطواغيت العصر، الذين لا يحكمون بما أنزل الله”؛ وفقًا لها؛ كما أساءت في كثيرٍ من أعماله إلى القضية الفلسطينية، وشوهت الحالة الوطنية والنضالية للمقاومة في قطاع غزّة، ومن أبرز هذه العمليات اختطاف جيش الإسلام للصحفي في هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) آلان جونسون؛ في مارس/آذار 2007، واحتجازه لحوالي أربعة أشهر، قبل إطلاق صراحه بعد مفاوضاتٍ مضنيةٍ بوساطة حركة حماس، وكذلك خطف وقتل الناشط الايطالي فيكتور أريغوني، في إبريل/نيسان 2011، على يد مجموعةٍ سلفيةٍ، أطلقت على نفسها اسم “جماعة الصحابي محمد بن مسلمة”، وكذلك تفجّيرٌ انتحاريٌ على الحدود المصرية، في أغسطس/آب 2017، أسفر عن مقتل شرطيٍ، وتفجيران انتحاريان في أحياء مدينة غزّة الغربية، في أغسطس/آب 2019، أسفرا عن مقتل ثلاثةٍ من الشرطة الفلسطينية، بالإضافة إلى إطلاق صواريخ محلية الصنع باتجاه المستوطنات المحيطة بقطاع غزّة، وعملياتٍ أخرى على الحدود الشرقية للقطاع.
بخلاف مناطق أخرى في المنطقة العربية والإسلامية، التي وجد فيها التيّار السلفي الجهادي تربةً خصبةً لنشر أفكاره، وتطوير أداءه، والعمل لسنواتٍ طويلةٍ، فإن قطاع غزّة لم يكن بيئةً مواتيةً ومشجعةً لتطوّر الحالة السلفية الجهادية، فالمجتمع الغزّي بطبيعته مجتمعٌ محافظٌ نسبيًا، يميل إلى الوسطية والاعتدال، كما أنّ حركات المقاومة الفلسطينية ذات التوجهات الإسلامية، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، مثلتا الإطار الذي ضم أغلبية الشباب من ذوي التوجهات الإسلامية، ومنهم الذين تأثروا بالأفكار المتطرّفة، في سياق مقاومة الاحتلال، وتوجيه طاقاتهم نحو الاستعداد الدائم للالتحام مع الجيش الصهيوني، والأهمّ من ذلك؛ المقاربات التي تبنتها السلطة الحاكمة في غزّة، والتي تراوحت بين الشدة القصوى والعصا الغليظة، وبين الحوار والاقناع والمحاججة الشرعية والاحتواء التنظيمي، ولعل المثال الأبرز للشدة القصوى؛ التصدّي المسلّح لإعلان زعيم جماعة أنصار الله عبد اللطيف موسى، في خطبة يوم الجمعة الموافق في 14 أغسطس/آب 2009، في مسجد ابن تيمية في مدينة رفح، الذي ينص على “قيام الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس”، وسط العشرات من أنصاره الذين كان بعضهم مسلّحًا، وطالب بقيام إمارةٍ إسلاميةٍ، وطالب الحكومة في غزّة “حكومة حركة حماس” بالخضوع لأحكام الشريعة الإسلامية، حينها اعتبرته السلطة الحاكمة في غزّة تمردًا مسلّحًا، وبادرت بعمليةٍ عسكريةٍ، أدت إلى مقتل زعيم الجماعة ونائبه، وحوالي 18 آخرين، أما المقاربة الأخرى فكانت ساحتها السجون، حيث تم احتواء أو تحييد العشرات فكريًا، من خلال النقاشات والحوارات الشرعية الهادئة.
حاليًا، لا يمكن نفي وجود حالاتٍ فرديةٍ متطرفةٍ، لا تزال على الفكر السلفي الجهادي، وربّما هناك خلايا نائمةٍ عدّةٍ، مبعثرةٍ من بقايا الجماعات السلفية، التي تفتت وغابت عن الساحة منذ سنواتٍ، إلّا أنها لا تمثل ظاهرةً بعينها، ولا يمكن اعتباراها حالات مقاومةٍ للاحتلال، وتبقى الحركات الإسلامية المسلّحة المقاومة للاحتلال متمثلةً بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، ذات التوجه الإسلامي الوسطي، والجماعات الإسلامية ذات الصبغة الدعوية، والصوفية، والسلفية الدعوية هي الجدار الذي يحول دون تغلغل الفكر السلفي الجهادي، أو التكفيري، للفئة الشابة والفتية في المجتمع الغزّي.
حاتم يوسف
المصدر: صحيفة العربي الجديد