يتوالى الكشف عن ملابسات واقعة احتجاز الطائرة المصرية الخاصة في زامبيا تباعًا، وسط مناوشات وسجال بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية المختلفة، في ظل تعتيم من الجانب المصري أثار الكثير من الشكوك، في مقابل شفافية مطلقة من الجانب الزامبي عمقت من صعوبة موقف القاهرة التي بدا عليها الغضب الشديد إزاء تلك المكاشفة غير المتوقعة.
وكانت لجنة مكافحة المخدرات في زامبيا قد كشفت صباح الثلاثاء، 15 أغسطس/آب 2023 عن احتجازها طائرة خاصة “Gulfstream G550” قادمة من مطار القاهرة الدولي، تحمل 6 ملايين دولار نقدًا و602 عملة ذهبية، و5 بنادق بها 126 رصاصة، فضلًا عن كميات من المخدرات، حيث تم التحفظ على طاقم الطائرة بالكامل، المكون من 6 مصريين ومواطن زامبي وهولندي وإسباني ومواطن من لاتفيا.
تعاطي الجانب المصري مع الواقعة في مواجهة الكشف المتواصل لتفاصيلها الدقيقة من الجانب الزامبي أو بعض المنصات الإعلامية المصرية كصفحة “متصدقش” على فيسبوك، وموقع “مدى مصر” الإخباري، أثار 5 تساؤلات محورية وضعت القاهرة في مأزق حقيقي إزاء حادثة كشفت الكثير من المخفي عنه فيما يدور داخل المشهد المصري.
لماذا حاولت القاهرة طمس القضية؟
التزمت القاهرة الصمت التدريجي منذ الوهلة الأولى للكشف عن الواقعة، فيما أطلقت لوسائل الإعلام الموالية للنظام العنان للتشكيك في صحتها ابتداءً، وتبني سردية مغايرة تمامًا لما كشفته لجنة مكافحة المخدرات الزامبية التي أعلنت عن التفاصيل، البداية كانت بالإشارة إلى أن الطائرة قادمة من بيروت وليس القاهرة، ثم الانتقال إلى أن الطائرة هبطت ترانزيت في الكونغو للتزود بالوقود، في احتمالية لأن تكون المضبوطات التي كانت عليها تم وضعها خلال الساعات القليلة التي قضتها هناك.
ثم عزف الإعلام الموالي على وتر أن مطار القاهرة كان مجرد “محطة ترانزيت” للطائرة ولم يكن مقر الإقلاع، إلا أن موقع “مدى مصر” كشف أن الرحلة بدأت من مطار القاهرة في الساعة الـ10:30 من صباح اﻷحد 13 أغسطس/آب 2023، وخرجت من صالة 4 الخاصة بكبار الزوار، تحت إشراف شركة “Tiger Aviation” للخدمات الأرضية بالمطار، ثم توجهت إلى الكونغو للتزود بالوقود ومنها إلى زامبيا، ما يعني أن تعبئة الطائرة بالمضبوطات كان من مطار القاهرة وليس من مكان آخر.
بيان من فريق منصة "متصدقش" لتدقيق المعلومات
— متصدقش (@matsda2sh) August 19, 2023
See the English translation below
في الواحدة من صباح اليوم السبت تعرض زميلنا الصحفي كريم أسعد عضو فريق تحرير "متصدقش" للاعتقال بعد ان اقتحمت منزله قوة قوة أمنية من مسلحين بملابس مدنية، ضربوا زوجته وهددوا طفلهما وبعثروا محتويات الشقة… pic.twitter.com/fErDqFlDEI
ومع توالي الأحداث وكشف هوية المصريين الذين كانوا على متن الطائرة، وكان من بينهم ضابط بالداخلية يدعى “وليد رفعت فهمي بطرس عبد السيد”، بجانب الكشف عن سجل رحلات الطائرة المثير للجدل، كل ذلك أثار حفيظة الجانب المصري الذي بدا في مأزق حقيقي في مواجهة سيل من المعلومات لا يتوقف.
وفي تلك الأجواء داهمت قوات الأمن منزل أحد الصحفيين العاملين في منصة “متصدقش” التي نشرت بعض تفاصيل الطائرة، ويدعى “كريم أسعد”، حيث أنهالت عليه بالضرب والسب قبل اعتقاله ثم الإفراج عنه لاحقًا بحسب زوجته، وهي الخطوة التي زادت من شكوك الشارع إزاء القضية برمتها.
3 أقباط على متن الطائرة.. ما علاقة الكنيسة؟
بعد الكشف عن أسماء المصريين الست الموجودين على متن الطائرة المحتجزة في زامبيا تبين أن 3 منهم من الأقباط هم: مايكل عادل مايكل بطرس (أحد تجار الذهب القدامى المعروفين في محافظات الأقصر وأسوان وشرم الشيخ، ورئيس مجلس إدارة شركة المنارة القابضة القطرية) وليد رفعت فهيم بطرس عبد السيد (مقدم شرطة)، ومنير شاكر جرجس عوض (تاجر ذهب يمتلك مصنع مصوغات باسم “Shaker Gold Factory Genius Gold” ووالده رئيس شعبة تجار وصناع المصوغات سابقًا كما أنه أحد القلائل الذين تختارهم الدولة للمشاركة في معرض نيبو للذهب، الذي نظمته مصر تزامنًا مع رغبتها توطين صناعة الذهب وإنشاء مدينة الذهب في العاصمة الإدارية الجديدة).
بجانب 2 مسلمين آخرين هما: ياسر مختار عبد الغفور الشتاوي ومحمد عبد الحق محمد جودة (ضابط بالجيش ومستشار عسكري في سفارة مصر بواشنطن)، فيما لم يتم كشف هوية الشخص السادس وهو أمر أثار هو الآخر الجدل وفتح الكثير من التساؤلات بشأن هويته المخفية.
وجود 3 أقباط بهذا الثقل الاقتصادي والأمني دفع البعض للتساؤل عن العلاقة بين النظام والكنيسة، وكيف يسمح لهؤلاء بالقيام بعمليات من هذا النوع؟ وما الجهة التي منحتهم صلاحية الخروج من مطار القاهرة بتلك المضبوطات المهربة دون رقابة أو خضوع للجمارك؟
تلك المسألة أعادت للأذهان مجددًا العلاقة بين الرئيس المصري والأقباط الذين كانوا رقمًا مهمًا في معادلة التمهيد للسيسي شعبيًا بعد 2013، وترسيخ أركان حكمه طيلة السنوات الماضية، فالأمر بات كأنه محاولة لرد الجميل، وذلك من خلال منحهم الكثير من الصلاحيات حتى ولو على حساب الأمن القومي للبلاد وفق ما ذكر البعض.
????بعد نشرنا معلومات عن ثلاثة متهمين من أصل 6 مصريين جرى ضبطهم في زامبيا، تواصل معنا أشخاص عملوا مع المتهم الثاني #مايكل_عادل_ميشيل_بطرس.
— متصدقش (@matsda2sh) August 18, 2023
⭕1: صائغ
◾حصلنا على جواز سفر المتهم، والذي يتضح من خلاله أنه من محافظة الدقهلية والمهنة "صائغ".
◾حسب الشهادات التي وصلتنا، فإن مايكل يعيش… pic.twitter.com/nT6Zb5naPU
ونجح الأقباط في الحصول على العديد من المكاسب منذ تولي السيسي الحكم في 2014، حيث كرس الرئيس تقليدًا غير مسبوق بزيارة الكاتدرائية لتهنئتهم بعيد الميلاد، وهو التقليد الذي بات سنويًا، كما شهد العام 2016، صدور قانون بناء وترميم الكنائس، الذي بمقتضاه وصل عدد الكنائس التي تم توفيق أوضاعها حتى اليوم نحو 3000 كنيسة ومبنى تابع لها، كما أصدر الرئيس المصري قرارين جمهوريين بتشكيل هيئتي أوقاف الكنيستين الإنجيلية والكاثوليكية في عام 2021.
ويعد حصر الأقباط في مصر من المسائل الشائكة، وربما المحرمة أيضًا، ومن ثم ليس هناك إحصاء رسمي لهم في البلاد، غير أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (يتبعها أكثر من 90% من مسيحيي مصر) تقول إن العدد يتراوح بين 18 – 20 مليون شخص، بخلاف مليوني مسيحي في المهجر، فيما تقدر جهات أخرى أرقامًا أقل من ذلك بكثير.
اللافت في ملف الطائرة أن أحد المتورطين الأقباط وهو “مايكل عادل” يمتلك شركة متخصصة في تقديم الاستشارات العسكرية للجيوش لتطوير قدراتهم الدفاعية، كما أن لها مكاتب في بعض الدول الأجنبية، وهو الأمر الذي يدعو للتساؤل عن الجهة التي سمحت له بإنشاء شركة عسكرية والتعاون مع دول أخرى، وهو ما يقود إلى التساؤل الثالث.
ما علاقة المؤسسة العسكرية؟
أن يتم منح ترخيص لشركة بتقديم الاستشارات العسكرية مسألة تحتاج إلى تفسير خاصة أن الجهة الوحيدة المعنية بهذا الأمر وهي الهيئة العربية للتصنيع قد توقفت عن تقديم تلك الاستشارات، هذا بخلاف أن يسمح لها بفتح مكاسب لها في دول بحجم الولايات المتحدة والإمارات على وجه الخصوص أمر مثير للجدل.
التساؤل ذاته فرض نفسه بعد الكشف عن تفاصيل الرحلة، فكيف لطائرة عليها كل تلك الأموال والذهب والمواد المخدرة أن تخرج من مطار القاهرة دون تفتيش أو رقابة، علمًا بأن الرئيس السيسي نفسه قد أشرف على مشروع تأمين الأسوار الخارجية والمنافذ الداخلية للمطار، هذا المشروع الذي انتهت مرحلته الثانية في أبريل/نيسان 2019 وكلف الدولة قرابة 62 مليون جنيه.
???? بعد نشرنا أسماء المصريين المتهمين في الطائرة القادمة من مصر، والتي ضبطتها زامبيا، ننشر الآن هوية وعمل بعضهم.
— متصدقش (@matsda2sh) August 17, 2023
⭕ الأول: محمد عبد الحق محمد جودة
◾ وفق أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، فإن "عبدالحق" عمل في وظيفة مساعد الملحق العسكري بالسفارة المصرية في واشنطن خلال عامي 2011… pic.twitter.com/LmNR7zW5kt
خط سير الطائرة نفسها وسجل رحلاتها مسألة مثيرة كذلك، كما أشار الكاتب الصحفي المصري جمال سلطان الذي غرد قائلًا: “فريق تحقيق تتبع تاريخ حركة طائرة الدولارات التي تم ضبطها في زامبيا قادمة من القاهرة، كشف أن الطائرة أجرت نحو 361 رحلة ذهابًا وإيابًا، غالبيتها كانت القاهرة نقطة انطلاق أو عودة (125 رحلة بدأت أو انتهت في القاهرة)، وأكثر رحلاتها كانت من القاهرة إلى العلمين ودبي وبني غازي ليبيا، وهو تاريخ يؤكد أن جهازًا سياديًا مصريًا يستخدمها”.
الشكوك نفسها أثارها الفنان المصري عمرو واكد بتغريدته التي قال فيها: “تأكد بنسبة 1000% أنه لا يمكن أبدًا ركوب سلاح وذخيرة على طيارة طالعة من مصر بدون مساعدة فرد ذي حيثية في الجيش، ولا بد للمؤسسة العسكرية أن تقوم بدورها وتكشف هويته وأن تقدمه للمحاكمة”.
تهريب الأموال خارج البلاد.. ما السبب؟
تهريب قرابة 6 ملايين دولار بجانب كميات كبيرة من الذهب على متن تلك الطائرة فتح مجددًا ملف “تهريب الأموال خارج البلاد” وهو الملف الذي تعاني منه مصر خلال الآونة الأخيرة في وقت تتعرض فيه لأزمة اقتصادية خانقة تحتاج فيها لكل الأموال السائلة لسد العجز الموجود والوفاء بالتزامات الدولة واحتياجاتها.
اشتراك رجال أعمال وضباط جيش وشرطة من مصر بالتعاون مع ضابط ذي نفوذ كبير في الحزب الحاكم بزامبيا، يشير إلى أن تهريب تلك الأموال مسألة ممنهجة، فبجانب تهديدها لأمن مصر القومي وتعميق جراح اقتصادها، فإنها تعكس تفشي الفساد بصورة كبيرة على مستوى مسؤولين لهم حيثية في البلاد.
وسبقت تلك الواقعة بعض المؤشرات والتحذيرات التي أطلقها نشطاء عبروا فيها عن مخاوفهم من تزايد موجة تهريب أموال اللبلاد للخارج، أبرزها ما قاله الفنان عمرو واكد في 26 يوليو/تموز 2023 أي قبل ثلاثة أسابيع من الكشف عن حادثة الطائرة، حين غرد قائلًا: “وصلتني أنباء عن بدء تهريب أموال الأسياد خارج البلاد منذ فترة، ولكن العدد في زيادة هذه الأيام”.
وأسفرت السياسات الاقتصادية الخاطئة التي اتبعها النظام الحاليّ عن تفاقم الأزمة وخلق مناخ غير مناسب للاستثمار وهو ما دفع الكثير من رجال الأعمال المصريين والأجانب لنقل استثماراتهم للخارج، فيما تشير التقديرات إلى أنه خلال الأشهر القليلة الماضية هرب من السوق المصري أكثر من 20 مليار دولار.
وصلتني انباء عن بدء تهريب اموال الاسياد خارج البلاد منذ فترة ولكن العدد في زيادة هذه الايام.
— Amr Waked (@amrwaked) July 26, 2023
الحق نفسك قبل قيام الثورة وتراجع او اقفز في البحر او انسحب بشياكة فما زال الوقت يسمح.
ما هو قادم لن يرحم احد.
سرديات النظام.. لماذا لم تعد تروق للشارع؟
التساؤلات الأربع السابقة قادت في نهاية المطاف إلى عدم قناعة الشارع المصري بالرواية الرسمية للنظام بشأن تلك الواقعة، هذا بجانب التزام السلطات الصمت كلما زادت وتيرة كشف الملابسات والتفاصيل التي وصل بعضها إلى مستويات قياسية من الخطورة وتهديد الأمن القومي، ما يعني افتقادها لأي خيوط أو مبررات تدفع بها ما تم كشفه.
وتؤصل واقعة طائرة زامبيا – بجانب وقائع عدة سابقة – حقيقة فقدان الثقة بشكل شبه تام في السرديات الرسمية بشأن أي حادثة تشغل بال الرأي العام، فحاولت اللجان الإلكترونية التابعة للنظام إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال سياسة الإلهاء عبر مسائل وملفات أخرى يتم الزج بها على سطح الأحداث لسحب بساط الاهتمام من تحت أقدام الشارع، لكنها المحاولات التي تزيد الفجوة بين المصريين والنظام الحاليّ الذي يمر بأضعف حالاته منذ توليه السلطة قبل 9 سنوات.
كشفت وثيقة بيانات تخص «طائرة زامبيا»، اطلع عليها «مدى مصر»، أن القاهرة لم تكن محطة ترانزيت، وأن الرحلة بدأت من مطار القاهرة الساعة 10:30 من صباح اﻷحد 13 أغسطس، وخرجت من صالة 4 الخاصة بكبار الزوار، تحت إشراف شركة Tiger Aviation للخدمات الأرضية بالمطار، وبقيادة الكابتن علي الصافي،… pic.twitter.com/vtPLuy6Ucb
— Mada Masr مدى مصر (@MadaMasr) August 18, 2023
المعضلة هنا أن السلطات الحاليّة ما عادت تستطيع مجاراة شلالات المعلومات المتدفقة من العديد من المنصات والوسائل الخارجة عن السيطرة، وفي ظل عصر التكنولوجيا المتطورة بات من المستحيل العودة بعقارب الزمن إلى عصر الستينيات حيث عهد جمال عبد الناصر وإستراتيجية الصوت الواحد، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة، وهو ما يضع – بين الحين والآخر – السيسي ونظامه في مأزق حرج أمام الداخل والخارج على حد سواء.
المصدر: موقع نون بوست