نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعده مراسلها من العاصمة السنغالية، إيليان بيلتير، حول تراجع بصمات فرنسا في أفريقيا.
وقال الكاتب إن الانقلاب العسكري في النيجر، وضع مستقبل فرنسا في غرب ووسط أفريقيا، محل شك. وأصبح رئيس النيجر، محمد بازوم، الحليف الموثوق لباريس، رهينة لدى حراسه الذين من المفترض أنهم يحمونه، ثم تجمع أنصار الانقلاب أمام السفارة الفرنسية في نيامي، وأشعلوا النيران فيها وهشّموا نوافذها. وفي يوم الخميس، ظهر ضابط برتبة عقيد على التلفاز معلنا نهاية التعاون العسكري مع فرنسا.
وتعتبر الفوضى في النيجر خلال الأيام العشرة الماضية، تكرارا لما جرى في بوركينا فاسو ومالي. وهذه الدول هي مستعمرات سابقة لفرنسا، وكلها سيطر عليها العسكر. وأثارت الانقلابات مشاعر الكراهية ضد فرنسا، التي يقول النقاد إنها لم تتخل أبدا عن مستعمراتها السابقة.
واليوم، تحولت فرنسا إلى كبش فداء لكل أنواع المشاكل التي تعاني المنطقة التي تعيش الفقر والتغيرات المناخية، وتصاعد التشدد الإسلامي، وفق قول الكاتب.
وقال مجيب رحمن، مدير أوروبا في مجموعة يوريشيا: “لم تكن فرنسا تتوقع حدوث هذا الانقلاب، ولم تتعلم من مالي وبوركينا فاسو”. مضيا: “هذه نظرية دومينو واضحة للقرن الحادي والعشرين”.
وتهدد الاضطرابات مصالح فرنسا والولايات المتحدة في منطقة الساحل، حيث أرسلتا قوات ومساعدات عسكرية واقتصادية للمنطقة في محاولة لمساعدة تلك الدول على مواجهة المتمردين.
وتقول الصحيفة إن الدول الجارة ارتدت ضد بعضها البعض، فكتلةٌ من دول غرب أفريقيا لم ترتح لهذه الانقلابات، وقامت بفرض عقوبات على النيجر، وتهدد بعمل عسكري لو لم يستجب قادة الانقلاب لإعادة الرئيس بازوم. وهددت مالي وبوركينا فاسو، المتحالفتان مع روسيا، بدعم الانقلابيين في النيجر.
ونصف الدول في أفريقيا كانت مستعمرات فرنسية أو محميات تابعة لها. ولعقود، أبقت فرنسا على علاقة معقدة مع مستعمراتها السابقة، بما في ذلك الحضور العسكري والاقتصادي وعلاقة مباشرة مع قادة الدول. وكان إيمانويل ماكرون واعيا لمظاهر السخط في القارة تجاه فرنسا، عندما انتخب عام 2017 رئيسا للبلاد، وتعهد بإعادة ضبط علاقة بلاده مع المستعمرات السابقة في أفريقيا. وزاد من حجم مساعدات التنمية لدول أفريقيا، ودعم إعادة المقتنيات الثمينة المسروقة من دول أفريقيا، ووعد بتقليل الحضور العسكري الفرنسي.
لكن شيئا لم يتغير من الناحية العملية في الكثير من المستعمرات السابقة. فالرافضون لباريس اتهموها بعلاقة أبوية مع أفريقيا، وأنها احتفظت بعلاقات مع الديكتاتوريين في تشاد والكاميرون. وفي عهد بازوم، ظلت النيجر حليفا مهما للغرب في منطقة مضطربة، وأصبحت الجهة المفضلة لتقديم الدعم.
ونُشرت قوات غربية في هذا البلد، من بينها 1100 جندي أمريكي، و1500 جندي فرنسي للمساعدة في عمليات مكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل القاحلة، والتي تعاني من آثار التغيرات المحلية والتمردات المسحة المرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة.
ومن هنا، أصبحت بنية المساعدة العسكرية والدعم الغربي محلا للشك، أما وضع فرنسا فقد باتت مهلهلا. فخروج القوات الفرنسية يعني خروج القوات الأمريكية، كما يقول المحللون، وسط عدم ثقة الأمريكيين بالجنرالات في النيجر.
وقالت أناليز برنارد، المستشارة السابقة لوزارة الخارجية الأمريكية، والتي عملت سابقا في النيجر: “يُنظر للنخبة العسكرية بأنها غير صادقة ولا يمكن الوثوق بها، نظرا للتحركات السريعة منها لتوثيق العلاقة مع قادة مالي وبوركينا فاسو”.
وقادة هاتين الدولتين على علاقة قوية بروسيا، والتقوا مع واحد من قادة الانقلاب بالنيجر. وقالت بيرنارد إن التطورات الأخيرة في البلد قد تسرع خروج القوات الأمريكية إلى دول أخرى في غرب أفريقيا. ولو خرجت القوات الفرنسية من النيجر، ستظل تشاد البلد الوحيد الذي توجد فيه قاعدة عسكرية فرنسية.
وأجلت فرنسا الأسبوع الماضي 550 من مواطنيها في النيجر، بسبب المخاوف الأمنية بعد الهجوم على السفارة. ويمثل اليورانيوم القادم من النيجر نسبة 10% من إمدادات المفاعلات النووية الفرنسية. واتُهمت الشركة الفرنسية “أورانو أو أرييا” سابقا، بتلويث الجو حول مناجم اليورانيوم، مما أغضب النيجريين.
وقال سليم سيدمو، الطالب البالغ من العمر 27 عاما: “استغلت فرنسا يورانيوم بلادنا منذ 50 عاما، لقد طفح الكيل”. ولم تؤثر الاضطرابات الأخيرة في دول الساحل والصحراء على علاقة فرنسا التجارية مع القارة. فأكبر شركاء تجاريين لها هم المصريون والنيجيريون وجنوب أفريقيا. وتحتفظ شركة النفط الفرنسية “توتال” بآلاف محطات الوقود في كل أفريقيا. كما يعتمد ملايين الأفارقة على قناة “كانال بلاس” الفرنسية لمشاهدة المباريات الرياضية.
إلا أن البصمات التجارية الفرنسية تختفي شيئا فشيئا، فالشركات الأمريكية الناشئة تتحدى شركات الاتصالات الفرنسية، وتحل البنوك الأفريقية محل الفرنسية، فيما حصلت شركات بناء تركية وصينية على عقود إنشاءات كانت تُمنح عادة للشركات الفرنسية.
وفي غرب أفريقيا، خسرت الشركات الفرنسية احتكارها في مجال البنوك والسيارات. وفي عام 2000، شكلت فرنسا نسبة 10% من التجارة الدولية في أفريقيا، كما يقول إيتين غيروس، مدير مجموعة تمثل المصالح الاقتصادية الفرنسية في القارة، ولكن النسبة انخفضت الآن إلى نسبة 5%.
وقال غيروس إن الانقلابات الأخيرة والغضب ضد السياسات الفرنسية، لم تكن في صالح الاستثمارات الفرنسية، و”لكننا تعودنا على هذا”، مضيفا: “هذا خامس انقلاب في النيجر”.
وقالت رابي عثمان، أم لأربعة أطفال، وكانت ضمن المتظاهرين في نيامي، إن كراهيتها لفرنسا نابعة لعدم فعل القوات الفرنسية أي شيء عند مقتل زوجها الجندي عام 2019 على يد المتمردين. وأضافت: “يعيش رجال الجيش في النيجر وتشياني”، أي عبد الرحمن تشياني الذي استولى على السلطة.
وعندما أنهت فرنسا عملياتها في مالي بعد تسعة أعوام لخلافها مع القادة العسكريين، نقلت قواتها إلى النيجر، ثم أنهت بوركينا فاسو في كانون الثاني/ يناير الترتيبات العسكرية مع فرنسا التي سحبت 400 من قواتها بمن فيهم 200 من قواتها الخاصة.
وقال الدبلوماسيون والعسكريون الفرنسيون في ذلك الوقت، إنهم تعلموا من أخطائهم: ستتوقف فرنسا عن رفع علمها فوق القواعد العسكرية في هذه الزاوية من أفريقيا، وستركز على دعم احتياجات القوى العسكرية الأفريقية بدلا من شن عمليات عسكرية بمفردها.
وقال ناثال باول، المؤرخ الذي كتب كتابا عن العمليات الفرنسية في تشاد، جارة النيجر: ” كان هناك اعتراف متأخر من القيادة العسكرية الفرنسية بالحاجة للتنازل… أخذت فرنسا المقعد الخلفي والنيجر مقعد القيادة”.
ولو تبنت فرنسا هذا النهج مبكرا، لما وجدت نفسها أمام التحديات التي تواجهها اليوم، “لقد كانوا ينتصرون في العمليات، ولكن ليس بين الرأي العام” كما قال باول.
المصدر: صحيفة القدس العربي