كمال قرور: عقدنا العزم أن تقرأ الجزائر

Spread the love
image_pdfimage_print

يحدث في الجزائر أن “يتجرأ” ناشر مثقف وروائي ـ على غير عادة معظم الناشرين ـ على أن يستلهم النشيد الوطني لتكريس إصراره على تغيير واقع النشر في جزائر يمكن القول إنها لا تقرأ، أو لا تقرأ كما يجب. إنه كمال قرور الذي يثير الإعجاب والتقدير والنفور والريبة والخوف، في الوقت نفسه محاطًا برفقاء دربلم يبادر أحدهم من القدامى بالتفكير منهجيًا وبيداغوجيًا في رسم معالم استراتيجية نشر تعيد الاعتبار للكتاب والنشر بوجه عام، كما يفعل منذ أعوام عدة على طريقته القابلة للنقاش.
في هذا الحوار مع قرور، أثرنا أكثر من عامل يؤثر سلبيا على مجهوداته المبذولة بهدف تغيير الذهنية “الريعية” الطاغية في كل المجالات التنموية من دون استثناء. وبدا أن قرور يدافع بمنقاره وأظافره عن مقاربته الفكرية لإنقاذ النشر من الموت، شاهرًا سيف عزيمة لا تلين ولا تضعف رغم وعيه بالتحديات وتوابل الإحباط، من بينها رد أحد وزراء الإعلام عليه كما جاء في الحديث. هل هو طموح محسوب ينم عن دوافع كفاءة ووعي وتبصر تخدم الوطن، وتعيد الاعتبار للكتاب في أوساط أمة “أقرأ” التي لا تقرأ، أم أنه مجرّد مصلحة شخصية تخدم صاحبها؟ وأعتقد أن حديث قرور لا يصلح كصرخة مدوية للجزائر فحسب، فرمزيته ربما تشمل كل البلدان العربية التي تراجع فيها دور الكتاب بشكل رهيب وانعدمت في معظمها شروط القراءة.



(*) تخوض منذ أعوام معركة الكتاب، والنشر بوجه عام، في مجتمع لا يقرأ. تفعل ذلك ممثلًا دور سيزيف “الواقعي”، رغم كل المصاعب التي تكتب عنها دوريًا في صفحتك الفيسبوكية. تواجه صخرة المصاعب وحدك. ما تعليقكم؟
أرى نفسي أفضل من سيزيف، لأني كائن حي، وهو  مجرد خيال وأسطورة. ربما كان همه رفع الصخرة، بينما هدفي ما وراء رفع الصخرة.

(*) جوابك ليس ردًا كاملًا. مقارنتكم بسيزيف رمزية، وتخدمكم حتمًا. أنا أريد ردًا يرقى إلى مستوى السؤال الواضح. “وعقدنا العزم أن تقرأ الجزائر” جميل رمزيًا هو الآخر، لكنه طوباوي إذا استندنا إلى خطابكم “الدستوري” الذي لم يحرك الجهة الوصية لدعمكم بصفة ملموسة. الدستور الثقافي الأول من نوعه الذي تعملون وحدكم على فرضه يمثل تحديًا للجميع، أليس كذلك؟
“أن تقرأ الجزائر” شعار استوحيناه من مقطع “وعقدنا أن تحيا الجزائر”، الذي يتضمنه مقطع في النشيد الوطني كما تعرفون. تزامن هذا مع مناسبة إطلاق مؤسسة نفطال (مؤسسة توزيع المحروقات في الجزائر) مبادرة ثقافية لافتة لتوزيع كتب الأطفال والفتيان على الأسر المسافرة يوم الخامس من يوليو/ تموز ـ وهو عيد الاستقلال والشباب. أرادت هذه المؤسسة بهذه المبادرة أن تجعل من يوم الاستقلال يومًا استثنائيًا في وسط الشباب والنشء الصاعد لزرع القيم الوطنية، وبعث روح الإعتزاز بوطننا وبأبطالنا. بما أننا شركاء في منشورات الوطن اليوم، وفنك للكتب، في المبادرة، رحنا نرفع السقف عاليًا ليكون عيد الاستقلال والشباب عيد القراءة أيضًا.

(*) صادفت المبادرة مرور تسعة أعوام على تجربة “كتاب الجيب المعرفة للجميع” أيضًا، وهذا بعد آخر وظفتموه بذكاء. أليس كذلك؟
هذا صحيح، وشكرًا على ربطك هذه التجربة بالحدث، وبإبلاغ القراء الذين لم تصلهم أصداء التجربة، وتذكير من نسوها. تجربة الشراكة مع مؤسسة نفطال صادفت أيضًا الذكرى الخامسة لتجربة تكريس تجربة توزيع كتب الجيب بسعر زهيد في محطات خدمات نفطال على طول الطريق السيار شرق غرب، والذي نطلق عليه اسم “طريق القراءة… طريق المعرفة”. لقيت هذه التجربة استحسانًا من المسافرين والمثقفين والإعلاميين، بتقريبها الكتاب من القراء ليكون رفيق سفر، في الوقت الذي كان فيه المثبطون يراهنون على الفشل.

(*) جميل هو هذا الرد الإخباري، لكنه لا يتضمن الرد على خلفيات وجوهر سؤالي، وربما تذكيركم بالذين راهنوا على فشلكم ديبلوماسي وأجمل. كصحافي، لا أقتنع بهذا الرد، وأنتم تعرفون مقاربتي لواقع الكتاب في الجزائر، وهي المقاربة التي لا يمكن معانقتها فرديًا مهما عظم شأنها واجتهاد صاحبها. ما قولكم؟
الأمر معقد أستاذ بوعلام. صحيح الوضع الثقافي في الجزائر صعب جدًا، ووضعية الكتاب لا تبشر بالأمل، وأنت أكثر دراية مني بما أقول.

(*) لا أعتقد ذلك، وهذا تواضع منك…
لا، أبدًا. أنا أعيش منذ فترة في الخارج، ولست على علم بكل جديد رغم متابعتي الحثيثة لكل ما هو ثقافي.

(بعد ابتسامة) رد قائلًا: “حين ألجا إلى صيغة المبالغة في بعض الشعارات، فهذا ليس رومانسية، بل محاولة صادقة وجادة لاستنهاض الطاقات والمبادرات والمجتمع الغافل، والغارق في اللامبالاة، والنائم في عسل الأمنيات، بينما الطوفان يقترب ليجرف ما تبقى.

(*) رائع كلامك، وجرأتك لافتة…
إنها الحقيقة، وتجربتي المتواضعة أقنعتني أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا وحدي، بينما معًا نستطيع. تأكيدًا لسلامة ملاحظتك، أذكركم بأنني جاهرت قبل اليوم بانتهاء النشر في الجزائر. أنا أعي ما أقول، والرسالة وصلت.

(*) قلتم ذلك رغم كل ما يقوله كثير من رفقاء دربكم عن دعم الدولة للكتاب.
مؤسسات الدولة ما زالت تدعم الكتاب بطريقة كلاسيكية، ولا تفرق بين الناشرين الجادين الذين يملكون مشاريع واعدة، وبين الناشرين الذين يهمهم حلب الدعم الموسمي والمناسباتي، ولا يهمهم نشر وتوزيع الكتاب أصلًا.

(*) يبدو أنكم صدمتم كثيرين بعد خروجكم بمشروع الشراكة مع مؤسسة “نفطال”.
كثيرون يعتقدون أننا نملك مليارات أنفقناها على الكتاب، وحين اقترن اسم “الوطن اليوم للنشر” مع نفطال طالت الصدمة كثيرين، ظانين أننا وصلنا أخيرًا إلى كنز علي بابا.

(*) … والأمر غير ذلك؟
هؤلاء واهمون. منذ أن أطلقت المشروع وأنا أبحث عن تعاون وشراكات، لكن من دون فائدة، بينما كانت الأسئلة الصفيقة تحاصرني، مثل “كيف وصلت إلى هذا الطريق الذهبي وقد جئت إلى النشر بعدنا بسنوات؟”. الذين يتعجبون مما قمت به يدينون أنفسهم بأنفسهم، لأن من يأخذ دعم الدولة لا يهتم بتوزيع الكتاب والترويج له. ليس لدي ما أخفيه، كنت بسذاجتي أعّول على إشهار المؤسسات الاقتصادية كما يحدث في دول العالم التي تقدر الثقافة، والكتاب خاصة، لتمويل المشروع القرائي الموجه للشباب الجزائري أساسًا.

(*) أنتم تعلمون أن ظروف ذلك لم تهيأ بعد…
ولهذا السبب قمت بتنبيه أحد وزراء الإعلام إلى جمود القوانين في مجال النشر. للأسف، أجابني بلامبالاة وبرود: “القانون ما يسمحش (لا يسمح)”، ومشى وتركني في مكاني. من جهتي، أردد بصوت عال: “غيروا القوانين، فأموال الإشهار العمومي تخدم الأفراد، وليس المجتمع”. لهذا السبب أطمئن الجميع من خلال منبركم المستنير بأن ما أخذته من نفطال هو وعد بالترويج لمنشورات “الوطن اليوم”، وتطبيقه عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها، والسماح لمؤسستنا بإطلاق حملة كبرى على طول الطريق السيار للتحسيس بأهمية القراءة، وبضرورة استيقاظ المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية والخاصة  لاحتضان مشروع القراءة الذي سيخدم الجميع. وإذا استطعنا أن ننجز هذه الحملة الترويجية الاستثنائية مع شركائنا فهنا قد تحدث المعجزة، وتتحرك مؤسسات أخرى  لاحتضان المشروع.

(*) ألا تعتقدون أن المؤسسات الاقتصادية، بما فيها “نفطال”، ما زالت أسيرة ثقافة الولاء السياسي المطلق المنافي للمبادرة الحرة التي تفرضها منافسة السوق. ألستم في صدد اختراق المستحيل في مجتمع تغيب فيه الكفاءة والحرية والمقاربة التنموية العصرية والبيداغوجيا العلمية والتربوية؟ ثم ألا تخشون من فشل منتظر بسبب استمرار ذهنية الريعية التي تخدم مسيرة كسالى ودخلاء يجيدون التكيف مع كل الظروف المستجدة كما تعرفون. أنتم تجلبون عداوات قد تعود عليكم بالوبال بلعبكم دور المثقف والناشر المنّظر والملقن درسًا غير مسبوق لناشرين أقدم منكم في مجال ثقافي سمح لهم باكتساب بطون بارزة؟
دعني أبدأ جوابي من حيث انتهى سؤالك، مارًا مرور الكرام: “إذا خاطبهم المتجاهلون، قالوا سلامًا”. لا أريد الخوض في الشق الأخير منه، متمنيًا أن لا تزيد قناعاتي. أنا طليق اللسان، والطين بلة، وتؤلب على المشتغلين في قطاع النشر.

بصدق، أنا أحترم الجميع، وأطلب منهم التكتل من أجل خدمة مشروع وطني يخدم الكتاب والقراءة، ويحفظ وجه المهنة. أشاطرك توصيفك للمشهد الثقافي الذي تعرفه بحكم موقعك. فقط، لا تواجهني بالمثبطات والتخمينات المسبقة لتستشرف الفشل قبل حدوثه  منصبًا نفسك درويشًا يعرف خبايا الحاضر والآتي معًا.

(*) أنا إعلامي ثقافي فقط. ما تقوم به غير منفصل عن واقع سياسي لا يتغير جوهريًا في تقديري. أبني عليه تحليلي. الدرويش شيء آخر…
أنت إعلامي مخضرم، لكنك مشاكس جميل. أنت مطالب بالحياد والموضوعية، ولا تتورط في وضع متاريس التخمينات والتكهنات في طريقي، لأني كاسحة ألغام. جئت إلى النشر لتقديم رؤيتي خدمة لوطني، وإذا لم تثبت، نترك المجال لغيرنا. ثقافة “السوسيال” (الرعاية الاجتماعية) كما اشرت مشكورًا جنت علينا، لأن دولتنا تؤكد على البعد الاجتماعي، وهذا مكسب قومي، واستفدنا منه جميعًا. بعد ستينية الإستقلال، علينا بعقلنته معتمدين على النقد الذاتي، والانفتاح على المبادرة الحرة الجادة. لهذا السبب، أنا أمقت ثقافة الريوع، وأؤمن بتحرير المبادرات وتشجيعها، لأنها البديل للبقرة الحلوب. مع ذلك، أنا مؤمن بضرورة التضامن الاجتماعي والثقافي.

(*) هل من أمثلة؟
توزيع طرود الكتب بمناسبات معينة، وبغير مناسبات، لتشجيع أطفال الروضة على القراءة، وكذلك تلاميذ المدارس، وطلاب الجامعات ومحبي القراءة في كل مكان. كما نوزع السكنات الاجتماعية في وقفة رمضان، ومنحتي البطالة والتمدرس، ومحافظ الدخول المدرسي. كيف نفخر بأننا أمة أقرأ ونحن لا نقدم شيئًا في الواقع لنؤكد أن هذه الأمة تقرأ فعلًا.

(*) اقترحتم أخيرًا عبر صفحتكم الفيسبوكية على الناشرين إخراج الزكاة عينيًا في شكل كتب لتشجيع القراءة. لم تعجب الفكرة البعض…
نعم، احتج بعضهم بحجة أن الناشر يمكن أن يلجأ إلى الكتب الراكدة الميتة، وهذا غير صحيح، لأن الكتب لا تموت. يمكن لدورة التوزيع أن تتشبع، ولكن دورة قراءة الكتب منفتحة إلى الأبد. وبهذا الأسلوب، نضرب عصفورين بحجر. خلال تجربتنا الجديدة، لاحظت أن المحلات التي تبيع كتبنا على طول الطريق السيار، تضع سللًا تضامنية للتبرع بالمواد الغذائية. ما الذي يمنعنا من تجريب العملية على الكتاب تحت شعار “اشتر كتابًا وتبرع بآخر”، أو “تبرع بكتاب”، وبهذه الطريقة نشجع المبادرة بتحفيز البيع، وتوجيه إدراك المواطنين في الوقت نفسه إلى فعل خيري مقصى من القاموس التضامني.

(*) كيف يتم ذلك عمليًا؟
بالتنسيق مع جمعيات ثقافية واجتماعية تشرف على العملية بشفافية لصالح القراء في الأماكن النائية والأحياء السكنية العامة والأحياء الجامعية، تثمينًا لثقافة التبرع المتأصلة في المجتمع الجزائري. كما لا يبخل بعضهم بالتبرع بقطعة أرض، أو المال، أو الثياب، أو الدم، أو المصحف، يمكن أن نعمل على تشجيع الذهنية الخيرة لكي تنفتح على الكتاب والقراءة بوجه عام. ما الذي يمنع المؤسسات الصناعية، والخدماتية، ورجال الأعمال، والبنوك، والأفراد، من الانخراط في حملة وطنية كبرى للتبرع بالكتب لصالح محتاجيها من القراء؟
هنا يحضرني بيت شعري جميل أظنه للمتنبي: “إذا غامرت في شرف مروم… فلا تقنع بما دون النجوم”. مشروع القراءة كان مغامرة مؤلمة رغم كل السعادة التي يضمنها المبدأ الذي يفسر وجودها. ونتج الألم بسبب ظروف صعبة حالت دون التجاوب الفوري للمحيط، ولولا إيماني بالمشروع لكفرت به في منتصف الطريق، ولتوقفت مباشرة بعد وباء كورونا الذي هزمنا وعرّضنا إلى الإفلاس. البيروقراطية والذهنيات والعراقيل الموضوعية والطارئة سبقت الداء اللعين، وأثرت سلبيًا على المشروع كما كان متوقعًا.

بو علام رمضاني

المصدر: موقع ضفة ثالثة