بعلبك.. رسالة الشمس والموسيقى من باخوس إلى الكون

Spread the love
image_pdfimage_print

أسدلت مدينة بعلبك في لبنان، الأسبوع الفائت، الستارة على آخر عروضها الفنية لهذا العام ضمن مهرجانات بعلبك الدولية التي تُقام سنويًا داخل هياكل المدينة الأثرية، وتحديدًا عند معبد باخوس، وكان العرض الأخير لعازف البيانو اللبناني- الفرنسي سيمون غريشي ترافقه الراقصة الإيرانية رنا غرغاني بعد فعاليات متنوعة انطلقت في الثامن من هذا الشهر رغم الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي مر ولا يزال يمر فيها لبنان والتي بالترافق مع انتشار وباء كورونا أدّت إلى توقف فعاليات هذا الحدث السنوي منذ العام 2019. على أن تلك الظروف لم تمنع المشرفين من استضافة الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية عام 2020 في معبد باخوس من دون جمهور حيث أضيئت أعمدة قلعة بعلبك مع حفل واحد بعنوان “صوت الصمود”، وفي العام 2021 أقيم حفل بعنوان “شمس لبنان لا تغيب” لمجموعة من المواهب الموسيقية الشابة، وتمّ بثّ الحفلتين عبر شاشات التلفزة؛ علمًا أن تاريخ المهرجان يعود للعام 1955 وشهد على أعمال موسيقية ضخمة على الصعيد العربي والعالمي ولم يتوقف إلا مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 حتى العام 1997، لأن بعلبك هي المدينة التي تؤثّث للفرح والموسيقى والجمال رغم كل مآسي هذا اللبنان الصغير.

أول مدينة في العالم؟

تقع مدينة بعلبك في شمال شرقي لبنان على بُعد 85 كيلومترًا من بيروت، وعلى بُعد 56 كيلومترًا من دمشق. يحكي المؤرخون أن النقوش المحفورة على جدران المعابد القديمة بالمدينة تُظهر أنها كانت مأهولة قبل أكثر من عشرة آلاف عام، وأن الفينيقيين بنوا أول هيكل في المدينة لإله الشمس الموجود خلف أعمدة “معبد جوبيتير” في المنطقة الأثرية. كما تم العثور على مغارة للطحين تعود لآلاف السنين. وثمة حكايا وقصص كثيرة عن مدينة بعلبك؛ إحدى الحكايا تقول إن قابيل هو من أنشأ مدينة بعلبك، وأنها أول مدينة في العالم وأسماها “أخنوع” على اسم ابنه، وهي المدينة الوحيدة التي نجت من “طوفان نوح”، كما يُعتقد أن “جبل سعيد” في المدينة هو الجبل الذي كان النبي إبراهيم سيذبح فيه ابنه إسماعيل. كما أن هناك بعض الآثار في المدينة التي يُقال إنها تعود لقصر النبي سليمان ودير النبي إلياس، وفي المدينة أيضًا قبر النبي نوح، وقد ذُكرت المدينة في سفر يشوع بـ”بعلغاد” وفي سفر الملوك بـ”ببعلاث” المُدرجة ضمن مدن النبي سليمان. كما أن موقعها جعل منها ممرًا للقوافل التجارية القديمة فكانت تقع على مفترق طرق بين سورية وفلسطين والساحل المتوسطي.

وتأتي تسمية بعلبك من “بعل” و”بك”؛ وكان الفينيقيون يطلقون اسم “بعل” على إله الشمس كما أن “بك” تعني البيت. ويذكر الكاتب أنيس بن فريحة في كتابه “معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية” أن “بعل” يعني الرب، و”بك” تعود لسهل البقاع الذي يمتد على طول 120 كيلومترًا بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، وأنّ الاسم يعني إله وادي البقاع. عندما غزا الإغريق مدينة بعلبك في العام 332 ق.م أطلقوا عليها اسم “هليوبوليس” وتعني “مدينة الشمس” في إشارة إلى عبادة الإغريقيين للشمس. كما أطلقوا على المدينة اسم “أهراءات روما” لوفرة محاصيلها الزراعية. وقد أمر يوليوس قيصر ببناء الثالوث الروماني “معبد جوبيتير” وهو إله السماء أو أب السماء، و”معبد باخوس”، وباخوس هو إله الخمرة، وهذا المعبد أصغر حجمَا من معبد جوبيتير ولكن ما يميزه أنه لا يزال محافظًا على معالمه رغم الزلازل والحروب التي مرت على المدينة، و”معبد فينوس” إلهة الحب والجمال. واستمر التوسع في بناء الهياكل الرومانية من عام 64 قبل الميلاد حتى عام 305 ميلادي على أيدي أكثر من 25 ألف عامل كما يذكر المؤرخون، كما أنه تم استقدام مهندسين ونحاتين، ويُقال إن النحاتين كانوا يستوحون تماثيلهم من صور عشيقاتهم وينحتونها بالصخر على شكل آلهة أو أنصاف آلهة. كما تبيّن لعلماء الأثار أن معبد جوبيتير تم بناؤه على أنقاض معبد قديم. وتتميز هذه الهياكل بضخامتها وبنقوشها الرائعة. وكانت بعلبك في المرحلة الرومانية مستعمرة وكان سكانها يتمتعون بنفس حقوق السكان في روما وعليهم نفس الواجبات، وقد أهدى “يوليوس قيصر” المدينة لابنته “جوليا دومنا” وسُميت وقتها “هيليوبولس جوليا دومنا كولني”، وقد صُكّت عملة تحت هذا الاسم.

ويعزو الكثير الفضل في الإعلام عن أهمية هياكل بعلبك في أوروبا إلى المعماري الأيرلندي روبرت وود (1717 – 1771)، وزميله جايمس داوكينز (1722 – 1757)، إثر زيارتهما إلى بعلبك بعدما زارا مدينة تدمر في سورية سنة 1751، وأصدرا كتابهما “أطلال بعلبك أو هليوبوليس في سوريا المجوفة” في لندن سنة 1757. وزوّدا كتابيهما برسوم عن القلعة وأعمدتها التسعة، وكان ذلك قبل أن يضرب زلزال عنيف بعلبك بقوة 9 ريختر في 19 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1759 فتسقط ثلاثة أعمدة، وقد أرسل الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني عام 1904 بعد زيارته للمدينة وفدًا من علماء الآثار للقيام بعمليات الترميم، وكذلك أرسلت فرنسا في العام 1930 وفدًا لمتابعة الحفر وإجراء الدراسات عن هياكل بعلبك. وفي العام 1984 تم ضمّ هذه المنطقة الأثرية إلى قائمة التراث العالمي لليونيسكو.

في العام 2021 تم إطلاق تطبيق “بعلبك ريبورن” Baalbeck Reborn أي “بعلبك تولد من جديد”، بالتعاون بين المديرية العامة للآثار اللبنانية والمعهد الألماني للآثار وشركة “فلاي أوفر زوون” الأميركية للتعرّف على القلعة الأثرية قبل تغيّرها عبر الزمن وذلك من خلال محاكاة بصرية ثلاثية الأبعاد صدمت المشاهدين. وكان هذا التطبيق ثمرة عمل استغرق عامين وشارك فيه مؤرخون وعلماء آثار ومهندسون، ويُظهر التطبيق أن الأعمدة المتبقية من هياكل بعلبك ويعرفها حاليًا زوار القلعة ليست سوى جزء صغير من هياكل كبيرة بناها الرومان تقوم على أعمدة كثيرة تهدّمت عبر العصور. 

كتبوا عنها

لم تكن مدينة بعلبك وهياكلها الأثرية عنصرًا جاذبًا لعلماء الآثار والمهندسين المعماريين فقط، فقد كتب عنها الأدباء منذ امرؤ القيس والمتنبي حتى يومنا هذا، ونعرض هنا لعدد منها.

للشاعر خليل مطران (1872- 1949) وهو من مدينة بعلبك قصيدة طويلة عن مدينته بعنوان “روائع الآثار” نختار منها هذه الأبيات: 

إِيهِ آثَارَ بَعْلَبَكَّ سَلاَمٌ/ بَعْدَ طولِ النَّوَى وَبُعْدِ المزَار../ ذَكَرِيني طُفُولَتِي وَأَعِيدِي/ رَسْمَ عَهْدٍ عَنْ أَعْيُنِي مُتَوَارِي…/ حَبَّذَا هِـنْدُ ذِلكَ العَهْـــدُ لَكِنْ/ كُلُّ شَيءٍ إِلَى الرَّدَى وَالبَوَارِ/ هَدَّ عَزْمِي النَّوَى وَقَــوَّضَ جِسْـمِي/ فَدَمَارٌ يَمشِي بِدَارِ دَمَارِ/ خِرَبٌ حَارَتِ الْبَرِيَّة فِيهَا/ فتْنة السَّامعِينَ وَالنُّظارِ/ مُعْجِزَاتٌ مِــنَ البِنَاءِ كِبَارٌ/ لأُنَاسٍ مِلْءَ الزَّمَانِ كِبَارِ…/ مَعْبَدٌ لِلأَسْرَارِ قَامَ وَلَكِنْ/ صنْعُهُ كَانَ أَعْـظَمَ الأَسْرَارِ/ مثّل القَوْمُ كُلَّ شَيء عَجِيبٍ/ فِيهِ تَـمْثِيلَ حِكْمَةٍ وَاقْتِدَار/ صنَعُوا مِنْ جَمَادِهِ ثَمَرًا يُجْنَى/ وَلَكِنْ بالعـقلِ وَالأَبـصارِ/ وَشُمُـوسًا مُـضِـيئَةً وَشِعَاعـًا/ بَاهِـرَاتٍ لَكِنَّهـَا مِنْ حِجَار/ وَطُيُورًا ذَوَاهِـبـًا آيِبَاتٍ/ خَالِدَاتِ الغَدُوِّ وَالإِبكار/ في جنانٍ معَلَّقاتٍ زَوَاهٍ/ بِـصُـنُوفِ النُّجـُومِ وَالأَنْوَارِ/ وَأُسُودًا يُخْـشَى التَّحـَفـزُ منها/ ويروعُ السَّكوتُ كالتَّزْآر/ عَابِـساتِ الوُجوهِ غَيرَ غِـضابٍ/ بَـادِيَاتِ الأَنْيَابِ غَيرَ ضوَارِي…/ تـلْكَ آيَاتُهُم وَما بَـرِحتْ فِي/ كلِّ آنٍ رَوَائِعَ الزُّوَّارِ/ ضمَّهـا كُلَّهَا بَدِيعُ نِظَامٍ/ دَقَّ حَتَّى كَأَنَّها في انْتِثارِ/ فِي مقامٍ لِلحُسْـنِ يُـعْـبَـدُ بَـعْـدَ/ العَـقْـلِ فِـيـهِ وَالعَقْلُ بَعْدَ الْبَارِي/ منْـتَهَـى ما يُجادُ رَسْـمـًا وَأَبْهَـى/ ما تَحُجُّ الْقُـلُوبُ فِـي الأَنْـظَـارِ/ أَهلَ فِيـنيقِيا سَـلاَمٌ عَـلَيْكُم/ يَوْمَ تَفْنَى بَقِيَّة الأَدْهَارِ/ لَكُمُ الأَرْضُ خَالِدِينَ عَلَيْهَا/ بِعَظيمِ الأَعمال والآثار/ خضتم البحر يوم كان عَصيـًا/ لم يُـسخَّر لقوَّةٍ مِن بُخارِ/ وَرَكِـبتُمْ منهُ جوادًا حرُونـًا/ قلقـًا بِالمُمَرَّسِ المِغوَارِ/ إِنْ تمَادَى عدْوًا بِهمْ كَبَـحُوهُ/ وَأَقالُوهُ إِنْ كـبا مِنْ عِثَارِ/ وَإِذَا مَا طغى بِهِـمْ أَوْشَـكوا أَنْ/ يأْخذُوا لاَعبِينَ بالأَقْـمَارِ/ غَـيْـرُ صَعْـبٍ تَخلِيدُ ذِكْرٍ عَلَى الأَرْ/ ضِ لِمنْ خَلَّدُوهُ فَـوْقَ البِحَارِ/ شَيَّدُوها لِلشَّمـسِ دَارَ صَلاَةٍ/ وَأَتَـمِّ الرُّومانُ حَلْيَ الدَّار/ هُـم دُعاةُ الفَلاحِ في ذلِكَ/ العَصْرِ وَأَهْلُ العُمْرَانِ فِي الأَمصارِ/ نحـتوا الرَّاسِـيَـاتِ تَـحْـتَ صُـخُـورٍ/ وَأَبانُوا دَقائِقَ الأَفكَارِ/ وَأَجادُوا الدمَى فَجَازَ عَـلَيْهِـمْ/ أَنَّها الآمِـرَاتُ في الأَقدَارِ/ سَجَدُوا لِلَّذِي همُ صَنَعُوهُ/ سجَـدَاتِ الإِجلاَلِ وَالإِكـبارِ…

ويكتب الشاعر اللبناني وديع عقل (1882-1933) في قصيدته عن بعلبك:

يا بعلبك أطوف فيك كأنني/ شبحٌ يطوف بمدفن الأجيالِ/ وأطلُّ منك على الوجود فلا أرى/ في الشرق غير مفاخر الأطلال/ ذهب التليد ولا طريف بعده/ وعفا الجديدُ فكل شيءٍ بال/ لم يبقَ للأحفاد من أجدادهم/ إلا رسوم معاقل ومعالي/ هممٌ طوينَ وما ولدن نظائرًا/ وأماثلٌ درجوا بلا أمثال/ وحقيقة مرت وما تركت لنا/ إلا مجال توهّمٍ وخيال/ إن الأُولى في بعلبك تزاحموا/ لعبادة الأوثان والأبعال/ بلغوا من الدين المسفه فوق ما/ بلغ الأولى عبدوا الاله العالي/ فلو أن دين الشرق دين واحد/ لوقفت لا أرثي الزمان الخالي.

ولجبران خليل جبران (1883- 1931) قصيدة “كم وقفة في بعلبك وقفتها” يقول فيها:

كم وقفة في بعلبك وقفتها/ أرمي الجهات بناظر رواد/ بينا أعيد الطرف عنها راويا/ عجبًا وإعجابًا إذا هو صاد/ أرنو ومربأتي بقايا هيكل/ من أعجب الآثار والأبلاد/ الروضة الخضراء تحت مظلة/ من ناصع النوار في الأعواد/ والسهل يبسط للنواظر بعدها/ طرفًا روائعها بلا تعداد/ لطف التناسق بينها حتى انتفى/ ما بينها من شاسع الأبعاد.

ويقول الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897-1977):

جــئت أطـلال بـعـلبـك أنـاجي/ ذكريات لها بقـلبـي انتفاض/ زرتها والشـباب غـضٌّ وباقٍ/ مني اليوم مثلها أنقاض/ لسـت أفنى وليـس تـفـنـى كلانا/ جوهـر لا تزيله الأعراض/ يشتهي الشعر وصفها والخيال الـ/ نـسـر قـصّـت جـناحـه الأمراض.

أما إيتيل عدنان (1925- 2021) فكانت لها مطوّلة شعرية بعنوان “بعلبك” نختار مقتطفات منها:

من “أورفيوس” إلى “ماياكوفسكي”/ دارت الشمسُ حول رأسي/ تتوهّج كتلةَ من ذَهَبٍ ونُور/ هي الألوهة الأولى/ التي انتصبتْ/ من أجلها/ معابدٌ من حجر/ تزورني/ وهي الأخيرة بالتأكيد/ بين الأنصاب والأعمدة الأعلى منها/ أدركتُ، طفلةَ/ أن مملكتي ستكون/ من هذه الحجارة/ ومن لَيلها.

أمسكني الجفافُ/ من حلقي/ لن أغني/ المعبدُ موجود، حقًا موجود/ ومدرجاته صلدة/ والآلهة/ كي لا يبارحنه، رقصوا/ ثم قرروا ان يموتوا/ خلّفوا وراءهم شمسًا/ أحببناها/ مع أنها همجية.

الجدول الجاري/ تحت المعبد/ هو سِلك “آريان”/ الذي يقودني إلى “المينوتور”/ قبل أن يغور في مزارع القطن..

هنا الهواء جاف/ والأحياء يهربون/ مثل خيول جامحة/ تعدو في البعيد/ بين سلسلة لبنان الغربية/ وسلسلة لبنان الشرقية.

يتمتّع العالم بذكاءٍ تام/ ونحن لنا/ كل الأعمدة المنتصبة/ أينما كانت/ لأننا الوحيدون الذين نعتني بها.

عند منقلب الجبل/ يمتد البحر الأبيض المتوسط/ ينفخ في مراكب/ تخترق جسدَه/ مع أنه بقي على قيد الحياة/ بعد قرطاجة وأفلاطون/ والمتنبي/ مثلنا/ هل إن هؤلاء متفردون/ أم متحاورون؟/ من أين لنا أن نعرف؟

ما شأن الذاكرة/ بين هذه الحجارة/ التي تتكرر أبدًا/ وهي الأعتق من الخليقة/ وتصرّ على قول ذلك/ “أورفيوس” يتنّزه في ساحة القرية/ لهذا، الريح في براءتها/ تُبعِثر الشموسَ التي تغيب/ وتلتحق بلهاثنا/ لتقودنا إلى هذه الأمكنة، حيث “التاريخ” و”العدم” يمزجان مياههما العظيمة.

كان الأسد/ أولَ حيوان أحببته/ منحوتًا على جدار من حجرٍ/ وبَرْد/ أما الثاني/ فقد كشف لي/ عُمقَ البَشَرة المذهل/ والعطرَ الذي تختزنه/ كان الحجر/ في الشرق/ أما الحُب/ ففي مكان آخر.

إحذروا الماضي/ إنه سُمُّ/ حقولنا الجافة/ إحذروا أعمدته/ إنها أشجار بلا/ ربيع ولا شتاء/ يتآكلها هي أيضًا/ القلقُ في مواجهة القَدَر.

عادت الحجارة إلى حواراتها/ لكي نعترف بأن المادة/ تتجاوز مداركنا/ الأشياء هي أطفال ظلالها.

في بعلبك/ معبدٌ لمجد “باخوس” و”بوليناس”/ هو “قصر الليل”/ الذي تحرسه “جوان كيغر” بأشعارها/ فقد شاهدتهما بعيون طفولتي التي كانت/ تجذب صغار ماسحي الأحذية/ في أزقة بيروت/ فيما البحر يتفجّر بالنُور والقيظ.

من تحت أقدامنا/ ترتفع ذكرى خفيفة/ لا تلبث أن تتبخّر/ ضاجةً أو هامسةً/ لأن بلادنا لن تلبث/ أن تتبدّد في دخان.

أود أن ألقاني وسط بدايات تلك الآثار/ في نوع من جنون سائل/ يتحوّل إلى سماء/ فوق رأسي/ في وتيرة متسارعة/ لا اسم لها.

نعم، أنا في جوع إلى تلك الحجارة التي أركض بينها/ في زمنٍ سابق على ما قبل التاريخ/ الرغبات والأفكار المودعة في الذاكرة/ تنطفئ/ واحدة بعد أخرى/ سوف أسافر طوال ذلك الليل/ دون حراك.

صعدتُ مدرّجات الغرانيت الوردي/ ومن ذلك الارتفاع/ شاهدتُ ولادة آسيا/ أعظم القارات/ حيث اجتمع التاريخ واللازمن/ ثم توقّف كل شيء/ لم يبقَ غير السماء/ قاسية، نائية، خالدة/ فجأةً/ بدا أن كل شيء صار أليفًا/ يسهم في نظام واحد:/ لا شيء أقرب إلى المقدّس من العدم.

لن أعود لاسمع غناء “إلّلا فيتزجيرالد”/ ينداح فوق الأعمدة/ ولا هي سوف تعود.

لآثار ذخائر ونحن أنسباؤها/  بغض النظر عن السلالة.

طلال حيدر أقرب إلى الحقيقة مني/ ما دام ينتمي إلى هذا المكان/ كان يلتقط القمر بين الحجارة/ ويحمله إلى سريره وهو ينحني، في هذه الأيام/ ليلتقط زهرة/ فيعثر على خيط دَم.

وكتب الأخوان رحباني لبعلبك قصيدة “بعلبك أنا شمعة على دراجك”، وغنتها فيروز:

بعلبك/ أنا شمعة على دراجك/ وردة على سياجك/ أنا نقطة زيت بسراجك/ بعلبك/ يا قصّة عزّ عليانة/ بالبال حليانة/ يا معمّرة بقلوب وغناني/ هون نحنا هون/ لوين بدنا نروح/ يا قلب يا مشبّك/ بحجارة بعلبك/ عالدهر/ عَ سنين العمر/ هون نحنا هون/ وضوّ القمر مشلوح/ عا أهلنا الحلوين/ عَ بيوت غرقانين/ بالعطر/ بغمار الزهر/ هون رح نبقى نسعد ونشقى/ نزرع السجرة، وحدّا الغنّية/ وللدني نحكي حكاية إلهية/ وبعلبك بهالدهر مضوية/ وعَ إسمها السهرات مسمية.

كما كتب الأخوان رحباني قصيدة “يا قلبي لا تتعب قلبك” وغنتها فيروز، ومنها:

يا قلبي لا تتعب قلبك/ بحبك على طول بحبك/ بتروح كثير وبتغيب كثير/ وبترجع ع دراج بعلبك/ يا قلبي لا تتعب قلبك/ ماشي والقمر ماشي .. تبْعَتْ مَرَاسيلْ/ يا قلبي الْـ متل فراشِة .. حَوْل القناديلْ/ لا بتعرف وَهْج النار .. ولا بتكَفّي المشوارْ، وملبَّك بالحبّ ملبَّك/ وتروح وترجع عَ بْعَلْبَك…

وللشاعر عبد الغني طليس (مواليد 1955)، وهو من بلدة بريتال (من قرى قضاء بعلبك)، قصيدة “كأني سوف أرثي بعلبك” نختار مقتطفًا منها:

الصُّبْحُ في عرشِهِ الأنقى يؤاخيها/ والليل مجنون موسيقى يُناجيها/ تلك الجميلةُ تُدْعى بعلَبَكَّ ولِي/ نبعٌ منَ الحبِّ قد أَجرَيتُهُ فيها/ يا بَعْلَبَكُّ هنا أهلي أُسلّمُهُمْ/ روحي، وأطلِقها والربُّ راعيها/ وكلّما جئتُ رأسَ العين يخنِقُني/ الحنينُ، يُبعَثُ حيًّا إذ أُحَيّيها/ أنا تَنَشّقتُ عطرًا منْ بنفسَجِها/ أنا حفَظتُ صلاتي في فَيافِيها/ وعندَ قلعتِها سَلّمْتُ أسلِحتي/ لكي تُزوّدَني  تيجانُها  تِيها/ أجِيئُها اليوم ..لا أدري لِمَ انْفتَحَتْ/ بيَ الجروحُ ..كأني سوف أرْثيها/ مِنْ بَعْلَبَكّ، أنا الطيرُ ارتَفَعْتُ غِوىً/ وما قَبلْتُ لصوتِ الريحِ تَنبيها/ يا خُبزَ تَنُّورِ سِتّي ما أكلْتُ أنا/ مِنْ بَعدِكَ الخبزَ  إلّا كانَ تَمويها…/ يا بعْلَبَكُّ وقد كنا على طَرَبٍ/ نُغوي حبيباتنا بالبدرِ تَشبيها/ وما تذكّرتُ حبًّا فيكِ مَرْمَرَني/ إلّا طلبْتُ لنفسي مَن يُداويها/ و”خَولةٌ” في “مقامٍ”  فَقْرُهُ مَلِكٌ/ تُعطيكَ من قبلِ أن تَبْدَا تَرجّيها/ وذاكَ خَطُّ قطارٍ ضاعَ سائقُهُ/ في السهلِ بين حكايا، ضاعَ حاكيها/ أينَ البساتينُ، هل ما زال يغمُرُها/ ثلْجٌ يُسَطّرُ أشعارًا ويُلقيها/ وليلةُ العِيدِ؟، لا نَومٌ، وأسألُكُمْ/ هل كانَ أطولَ يومُ العيدِ تَرفيها؟/ وجَمْعةُ الأهلِ والوِلْدانِ أينَ خَبَتْ/ والدارُ مِنْ حسَدٍ ضاقت نَواحيها/ وكيفَ حالُ الرّفاقِ الحاملينَ معي/ كأسَ الطفولةِ في أبهى معانيها/ لِلسيفِ أنت ولِلضيفِ الكريمِ ولِلْ/ رِجالِ خاضوا من الدنيا دَواهيها…/ إذا السياسةُ لا عَقلٌ يُحاسِبُها/ إذن سيطلُبُ أهلُ الكهفِ تَنويها!/ ما هكذا الأرضُ كانت، بَعْلَبَكُّ أنا/ عَرَفْتُها إذ تُنادي الحَقّ يأتيها/ كانت بروعةِ ما كنّا  نُدلِّلُها/ بالشوقِ نُطعِمُها، بالصبرِ نَسقيها/ لكنها الآنَ لا نَهرٌ  يُسامِرُها/ ولا رفيقٌ على البَلْوى يُواسيها/ يا بَعْلَبَكُّ أعِيدينا إلى لُغةٍ/ فيها نُعيدُ الأماني مِنْ مَنافيها/ وعلّمينا بأنّ اللهَ ليس لنا/ لِوَحدِنا، وبنا الأكوانَ يُنْهيها/ كنتِ العروبةَ لمّا لمْ يكنْ عربٌ/ وتلك راياتُ عِزٍّ  ليس نُخفيها/ وكنتِ أنشودةَ الإسلامِ ما رُفِعَتْ/ فيكِ المصاحفُ تَدْلِيسًا وتَسْفيها/ وكنتِ صوتَ فلسطينٍ وفِتْيَتِها/ وغيرُنا عاشَ حاميها حَراميها!…

امرؤ القيس والمتنبي

ويذكر امرؤ القيس بعلبك في قصيدته “لك شوق بعدما كان أقصر” يقول فيها:

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها/ وجوًّا فَرَوّى نخل قيس بن شمّرا.

أما المتنبي فقد أقام في عدة أماكن لبنانية ومنها قرية نحلة من قرى قضاء بعلبك حيث كان في ضيافة صديقه أبي علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي (الكاتب الذي كان يذهب إلى التصوف)، والذي مدحه المتنبي في قصيدة أخرى في ديوانه. يقول المتنبي:

ما مقامي بأرض نحلة إلا/ كمقام المسيح بين اليهود/ مفرشي صهوة الحصان ولكنّ/ قميصي مسرودة من حديدِ/ وفي هذه القصيدة أبيات في الفخر مشهورة، هي/ لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي/ وبنفسي فخرتُ لا بجدودي/ وبهم فخرُ كل من نطق الضادَ/ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريدِ/ إن أكن معجبًا فعجبُ عجيبٍ/ لم يجد فوق نفسه من مزيد/ أنا تربُ الندى وربُّ القوافي/ وسمامُ العدى وغيظُ الحسود/ أنا في أمة تداركها الله/ غريبٌ كصالح في ثمود.

وفي قصيدته الأخرى يقول المتنبي:

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت/ وإذا نطقتُ فإنني الجوزاءُ/ وإذا خليتُ على الغبيّ فعاذرٌ/ أن لا تراني مقلة عمياءُ/ بيني وبين أبي عليّ مثلُهُ/ شمُّ الجبالِ ومثلهنّ رجاءُ/ وعقاب لبنان وكيف بقطعها/ وهو الشتاءُ وصيفهن شتاءُ/ لبس الثلوج بها عليّ مسالكي/ فكأنها ببياضها سوداءُ/ وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ/ سال النضارُ بها وقام الماءُ.

لوحات تشكيلية

أما تشكيليًا فقد كان لبعلبك نصيب من الحب من فنانين بارزين في العالم، نختار هنا ستة أعمال فنية لفنانين من العالم صوّروا القلعة في أوقات مختلفة وهم:

لويس فرانسوا كاساس  Louis-François Cassas‏ (1756- 1827) هو رسام مناظر طبيعية ومعماري وأثري وجامع تحف فرنسي. تجول في الشرق ورسم العديد من الآثار والمناظر في كل من سورية وفلسطين ولبنان ومصر. عام 1785، زار كاساس مصر، حيث رسم آثار الإسكندرية والأهرامات ومساجد القاهرة، كما زار تدمر ورسم آثارها، وزار فلسطين ورسم بعض آثارها ورسم هياكل مدينة بعلبك. وعند اندلاع الثورة الفرنسية، عاد كاساس إلى فرنسا سنة 1792. وفي سنة 1799، نشر أعماله في كتاب “رحلة تصويرية في سورية وفينيقيا وفلسطين ومصر السفلى”  وقد أودعت أصول لوحاته الزيتية التي أنجزها في هذه الرحلات بالمكتبة الملكية الفرنسية. لوحته عن بعلبك بعنوان “بعلبك: معبد جوبيتير” ويتخيل فيها هياكل بعلبك قبل تعرّضها للدمار بسبب الحروب ومرور الزمن.

ديفيد روبرتس David Roberts (1796-1864)  وعمله بعنوان “مدخل قلعة بعلبك الذهبية”، وديفيد روبرتس هو رسام سكتلندي. اشتهر بمجموعة لوحاته التوثيقية عن مصر وعدد من بلدان الشرق الأوسط، أنتجها خلال فترة أربعينيات القرن التاسع عشر في رحلاته الاستكشافية عن المنطقة جاعلة منه من أهم المستشرقين البارزين.

فاسيلي بولينوف Vasily Polenov (1844-1927)  رسام روسي يهتم برسم المناظر الطبيعية. أطلق عليه معاصروه لقب “فارس الجمال” لأنه جسّد التقاليد الأوروبية والروسية للرسم. تم تلخيص رؤيته للحياة على النحو التالي: “يجب أن يعزز الفن السعادة والفرح”. كان يؤمن بالمهمة الحضارية للفن والثقافة والتعليم. عام 1881 قام برحلة إلى الشرق الأوسط فكانت له عدد من اللوحات عن الأماكن الأثرية في الشرق الأوسط، ورسم عن بعلبك عددًا من اللوحات منها لوحة “معبد جوبيتير- معبد الشمس” ينقل فيها رسمًا حيًا للقلعة وللمكان الذي يحيط بها، ولوحة “بعلبك” يرسم فيها مدخل القلعة.

إرنست كارل يوجين كورنر Ernest Karl Eugen Koerner  (1846-1927) وهو فنان تشكيلي ألماني عُرف برسمه للمناظر الطبيعية. أمضى معظم أيام حياته في السفر إلى بحر الشمال ودول البلطيق وجبال هارز وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا واسكتلندا وإسبانيا. من عام 1873 إلى 1886، قام برحلات عديدة إلى مصر والشرق الأوسط، حيث رسم بعضًا من أشهر لوحاته ومنها لوحاته عن العمارة المصرية ولوحته الشهيرة عن بعلبك بعنوان “الساعة الذهبية بين المناظر الطبيعية” حيث رسم قلعة بعلبك قبيل غروب الشمس.

جورج ماكو George Macco (1863-1933) كان رسامًا ألمانيًا اهتم برسم المناظر الطبيعية، واشتهر في المقام الأول بأعماله الاستشراقية، فقد سافر في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، اسطنبول وبعلبك والقدس والقاهرة ومكة. أصبحت الأعمال التي أنتجها نتيجة لهذه الأسفار أكثر أعماله شعبية. عمله “بعلبك-لبنان” يصوّر فيه القلعة وخلفها يبدو جانب من سلسلة جبال لبنان الغربية المكسوة بالثلوج.

ألكسندر كريسويل Alexander Creswell (مواليد 1957) فنان بريطاني مشهور بمهاراته الفنية في الرسم بالألوان المائية. يجمع أسلوبه المميز في الألوان المائية بين التلوين الخفيف والبراعة الماهرة في الرسم جنبًا إلى جنب مع عمق الضوء الطبيعي. رسخ كريسويل مكانته في الرسم المعماري وهو معروف عالميًا بقدرته الاستثنائية على التقاط روح المكان. يعد السفر عنصرًا أساسيًا في عمل كريسويل، فهو يرسم باستمرار في رحلاته العديدة ويعيد المواد إلى الاستوديو الخاص به في المملكة المتحدة. رسم على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وروسيا ومصر والشرق الأقصى والشرق الأوسط. قام مؤخرًا بإنشاء مجموعة من اللوحات من طريق الحرير في أوزبكستان، ويعمل حاليًا على سلسلة أعمال عن القدس والأراضي المقدسة. عمله “قلعة بعلبك” يرسم فيه معبد باخوس بدقة لامتناهية وكأننا أمام صورة حية للمكان.

دارين حوماني

المصدر: موقع ضفة ثالثة