على عكس ما نظن.. الحريري لا زال حياً في نيجيريا

Spread the love
image_pdfimage_print

يعتقد البعض أن المقامات العربية هي مجرد نمط أدبي كلاسيكي يرجع إلى القرن العاشر الميلادي، وبالتحديد إلى بديع الزمان الهمَذاني (ت. 358/969) المعروف بأنه أوَّل من ألف في المقامات وفتح باب هذا الفن. وربما يعتقد البعض أيضاً أن المقامة، وهي قصة بليغة مسجوعة يرويها راوٍ مُتخيَّل ولها أغراض اجتماعية وتعليمية، لم يعد لها وجود قوي على ساحة الأدب العربي.

ربما يكون الأمر قريباً من ذلك في عالمنا العربي، لأن للمقامات وجوداً قليلاً خافتاً لا يكان يبين. ففي العقد الأخير تخرج علينا مقامة كل فترة، مثلاً المقامة الأتوبيسية لصلاح عبدالله التي ألقاها من خلال برنامج تلفزيوني قبل ما يقرب من أكثر من عشر سنوات، ومؤخراً ألقى تميم البرغوثي مقامته المعنونة بالمقامة المنسفية. ولكن الأمر غير ذلك في نيجيريا. فالمقامات العربية هناك هي جزء مهم من الأدبي العربي النيجيري.

نداهة المقامات

وقعت المقامات العربية في طريقه وهو طالب ثم وجد بالصدفة أمامه نسخة من مقامات الحريري عند عمه، فانجذب سليمان الأفنجون إليها ووجد ثمة تقاليد وحياة يحياها هذا النمط الأدبي العربي القديم-الحديث في بلده نيجيريا. قرر سليمان بعد ذلك تتبع مسار هذا التقليد الأدبي وكيف جاء وانتشر في بلده وكيف تعيش المقامات وما هو سوقها بين الناس الآن.

فأثناء دراسته للأدب العربي في مدرسة لدراسة الأدب العربي الكلاسيكي في مدينة إبادن في نيجيريا سنة 2004، وكانت “مقامات الحريري” تُدرَّس للطلاب المتقدمين آنذاك، بدأ سليمان كطالب جديد في المدرسة يحضر تلك الدروس كطالب مستمعٍ.

لم يكن سليمان وقتها مُلْزماً بالمشاركة النشطة في تلك الدروس عن طريق متابعة النص وشروحه، بل ولم يكن حتى شرطاً أن يقتني نسخة من المقامات الحريرية. وبعد ذلك، وأثناء زيارة أحد أعمامه، لاحظ الأفنجون وجود “مقامات الحريري” على أحد رفوف مكتبة عمه المنزلية. يقول سليمان إن اقتناء هذه النسخة من “مقامات الحريري” ليست فقط لأغراض الديكور، بل أيضاً لها دلالة على المكانة العلمية الرفيعة. فاقتناء نسخة من هذه المقامات، في هذا السياق الثقافي العربي الإسلامي في منطقة اليوروبا Yourobaland يشير إلى أن صاحبه قد تلقَّى تعليماً رفيعاً في العلوم العربية، وأنه صاحب مكانة علمية مميزة في هذا الميدان.

سليمان الأفنجون

المهم أن هذه النسخة من “مقامات الحريري” لفتت نظر سليمان لما رآها، فانجذب إليها وأخد يُقلِّب في صفحاتها حتى وقع على المقامة التي قد استمع مؤخراً إلى تلاوتها في المدرسة التي يتلقى فيها دروس الثقافة العربية. شرع سليمان يقرأ هذه المقامة، وتعجَّب من نفسه أنه قرأها واستوعبها! لذلك حمل سليمان معه نسخة “مقامات الحريري” إلى مدرسة الثقافة العربية التي يتردد عليها مستمعاً (المستمع خلاف المشارك الفعلي في الصفوف الدراسية).

وبعد أن طلب الإذن من معلمه الذي سأله بدافع الفضول إذا كان قادراً على التعامل مع المقامة رغم أنه طالباً صغيراً، أُذن لسليمان بأن يكون طالباً مشاركاً في فصل دراسة المقامات الحريرية. وهكذا بدأت رحلة سليمان مع المقامات. وعن بداية قصته مع المقالات يتحدث سليمان الأفنجون لرصيف22: “بدأ اهتمامي بالمقامات منذ نعومة أظفاري، نشأت في بيت علم وتعليم، وقد كنت منذ الصغر أسمع عن مقامات الحريري عند الكبار من الطلاب وكيف كان الكتاب من أعجب مصادر اللغة العربية والفكاهة والحكم وعلوم تتسم بآداب فائقة. وفي عام 2004 بدأ لقائي الأول مع مقامات الحريري، وذلك عندما سَجَّلتُ في كلية عبد البارئ للدراسات العربية والإسلامية في أولومي إبادن نيجيريا، لمؤسسها الدكتور عبد البارئ أديتنجي. منذ ذلك العام، ما زلت أزاول وأمارس مقامات شتى عربية ومحلية نيجيرية حتى أنني لا يمر بي أسبوع إلا والمقامات معي”.

الحريري لا زال حيّاً في نيجيريا

يتخذ دارسو وكاتبو المقالات مقامات محمد الحريري البصري (ت. 516 /1122م) مثالاً يُحتذى به. ويسلط سليمان الضوء على حضور الحريري في نيجيريا: “للمقامات قصة طويلة في هذه البلاد، وتمتد لمدة أكثر من سبعة قرون. وذلك لأن لمقامات الحريري خاصة قيمة عند العلماء منذ وقت طويل، وقد درسوها ثم علّموها للطلاب. وكانت تدرس منذ الوقت المبكر عند العلماء القدامى في البلاد التي تسمى بوسطى بلاد السودان، وهي اليوم تشمل جمهورية نيجر، وتشاد، ونيجيريا.

وما زالت مقامات الحريري عبر العصور والقرون مرجعاً مهماً لعلوم اللغة العربية وآدابها. وفي الوقت الحاضر، لا تزال المقامات وجه إعجاب عند العلماء وعنصراً جللاً، بل ومصدراً أساساً في التعليم العربي. والاهتمام التعليمي بالمقامات لا يختص بالمقلِّدين من العلماء، بل يعم المحدثين منهم كذلك. واليوم رأينا المقامات تدرس في المدارس الحديثة كما تدرس في الحلقات الدراسية المحلية. وبالتالي، فقد أصبح للمقامات سوق ناضر بين عامة المعلّمين والمتعلّمين المستعربين في نيجيريا لغرض تعليمي والذي تطوّر وتحوّل بعد حين إلى غرض أدبي كما رأينا في تأليف عدد من المقامات عندهم اليوم”.

الهمذاني واليازجي يلتحقان بالحريري في نيجيريا

ليس الحريري وحده من يؤثِّر في كُتَّاب المقامات في نيجيريا كما بيّنَ الأفنجون في حديثه عن تأثير المقامات العربية الكلاسيكية ومدى تأثر المقامات النيجيرية بها: “للاهتمام بالمقامات في نيجيريا عنصران، أولاً: الاهتمام بالمقامات العربية القديمة وخاصة مقامات الحريري والهمذاني ومجمع البحرين لليازجي ومقامات علامة الدنيا للزمخشري من خلال التعليم في المدرسة. وإذا كانت مادة المقامات التي تعلمنا في المدرسة تركز أكثر على مقامات الحريري بقراءتها من أولها إلى آخرها، فإن كتب المقامات الأخرى نناقشها من خلال الدرس. وقد كان لكل واحد من المقامات المذكورة رواج في حلقات علمية في نيجيريا بين العلماء والأساتذة والطلاب، لكن كلها تابع لسمعة مقامات الحريري.

مزامير القرآن... كيف استفاد "العظماء السبعة" لـدولة التلاوة من المقامات الصوتية والموسيقى؟

مزامير القرآن… كيف استفاد “العظماء السبعة” لـدولة التلاوة من المقامات الصوتية والموسيقى؟

ثانياً: العلاقة البحثية مع الأساتذة في حقل البحث العلمي ساعدت ونمت باهتمام الناس للمقامات التي صدرت من كُتاب نيجيريين. مثلاً، عملتُ كباحث مساعد لمديرنا الدكتور عبد البارئ أديتنجي ولابنه النجيب الدكتور عز الدين أديتنجي حينما كتبا بحثهما عن جوانب دراسة المقامات في نيجيرية، وعرّضني عملهما لما يجري من التطور للأدب العربي النيجيري من كتابة المقامات. ومنهما تعرّفت بأولى كتب المقامات من علماء نيجيريا. وإذا المقامات العربية القديمة قد أثارت إعجاب الناس والنيجيريين يحذون حذوها، وطفق الناس يتتبعون آثار كتاب نيجيريا المستعربين، للبحث عن الجدد من المقامات في نيجيريا، وهذا مثلاً ما أوصلني إلى بحثي للدكتوراه عن المقامات في نيجيريا”.

المقامات نمط أدبي مفضَّل في نيجيريا

وعن رواج وانتشار المقامات في نيجيريا يستطرد الأفنجون: “عموماً، إن للمقامات رواجاً عند علماء اللغة العربية والعلوم الإسلامية. ولا بد أن تكون لمعظم العلماء معرفة بالمقامات، ولو سطحياً. وذلك لأنها، كما أشرت سابقاً، من ضمن المقررات في بعض المدارس حتى اليوم؛ فقد حافظت المقامات على مكانتها السامقة في حقل التعليم والمساهمات الأدبية العربية. أما عن قراءتها، فإن جمهور الذين لهم ميل إلى علوم اللغة العربية وآدابها يدارسونها قديما وحديثا بل ويعلّموها الناس. وقد رأينا منهم من حفظ المقامات كاملا كتحفيظهم للقرآن كما رأينا من يقرأها كل يوم كرُوتين. فطبيعة جمهور قراء المقامات خارج المدارس والحلقات الدراسية إذن مبنية على الخيار والذوق الأدبي”.

أما سبب الاهتمام بالمقامات في نيجيريا فهو “لأن الناس يهتمون بالمادة المتعلقة بها في حقل التعليم، وذلك لمزاولتهم اللغة العربية وعلومها، وفنون الأدب وأنماطها. والسبب الرئيسي لإلمامهم بالمقامات هو غرض تعليمي. وكيف لا وقد ساعدتهم على ترميم مناهجهم الأدبية والكتابية وتعلّمهم للغة العربية واستعمالها في الكتابة من جميع أنواعها، وصار في أقصى الحالات جزءاً لا يتجزّأ عن تصرفاتهم الأدبية”.

كسوة العاري والنجم الجاري ومقامات أخرى وُلدت في نيجيريا

شهدت الساحة الأدبية في نيجيريا إنتاجاً غزيراً للمقامات العربية. بدأت كتابة المقامات في نيجيريا بالمرحوم إمام مسعود عبد الغني أديبايو هو الإمام لبلدة أويو في غربي الجنوب من نيجيريا لمدة عشرين عاماً حتى وفاته في كانون الثاني/يناير هذا العام، وكان من خريجي جامعة الأزهر عام 1983 وقد أقام بعد دراسته في الأزهر مدة تسعة أعوام كإذاعي في القاهرة. وله كتب في المسرحية العربية والخطب المنبرية والدينية وفرائد اللغة العربية. وصف بلدته أويو وسياسة مملكة أويو في تنصيب الإمامة العامة لمسجد البلدة الجامع في مقاماته الوحيدة المسماة بـ”المقامة الأويوية”، وما زالت المقامة مخطوطة حتى اليوم.

كتاب “مقامات الألوريوية”

أما “مقامات الإلوري” الذي طُبع عدة مرات في نيجيريا ولبنان لمؤلفه محمد الأول بن عبد السلام الملقب بصاحب القرآن الإلوري من إلورن نيجيريا، فهو أول كتاب شامل في فن المقامات في نيجريا. يحتوي على خمسين مقامة أُلِّفت لمدة أربعة عشر عاماً من 2003 إلى 2017 حين صدرت الطبعة الأخيرة بدار القدس ببيروت. ومضمون مقامات الإلوري يتسم بأغراض لغوية أدبية ودينية وأمور اجتماعية. ولرحلات المؤلف الشخصية أثر في بعض مقاماته.

والكتاب الآخر المميز في المقامة ما أصدره أحمد بن يوسف أجيغنلي عام 2013 بعنوان “مقامات ابن يوسف”، وهذا بعد عشرة أعوام مضت على إعلان الطبعة الأولى من مقامات الإلوري. ومقامات ابن يوسف تشتمل على ثلاثين مقامة مضمون أكثرها أشبه شيء ببعض مقامات من مقامات الحريري، وبالتالي اتسم “مقامات ابن يوسف” بنوع من المعارضة الأدبية لعمل الحريري الذي هو المصدر الوحيد المعتمد عليه فيها.

كتاب “نيل الكرامات في فن المقامات”

والذي كان له باع أطول في كتابة المقامة في السنوات الأخيرة هو الدكتور عبد البارئ أديتنجي، وله ثلاثة كتب في المقامات، أوله كتاب “كسوة العاري في مقامات عبد البارئ” الذي طبع بدار البيدخ إبادن نيجيريا عام 2017، وفيه ثلاثون مقامة في الوعظ والإرشاد، والكدية، والفرائد اللغوية. وقد أضاف كتابين آخرين إلى خزانته الأدبية للمقامة حدثياً، وهما “النجم الجاري في مقامات عبد الباري” (2021) و “نَيل الكرامات في فن المقامات” (2022). “النجم الجاري” يتضمن اثنتي عشرة مقامة، بعدد الشهور، كما أشار إليه المؤلف في مقدمة الكتاب، و”نيل الكرامات” يتضمن سبع مقامات. اتَّصف جميع كتب الدكتور عبد البارئ في المقامة بجزالة اللفظ وانسجام المعنى، لكن الملامح الدينية الإسلامية تتغلب فيها على الظواهر الفنية الأخرى.

كتاب “كسوة العاري في مقامات عبد الباري”

عدد كتاب المقامات في نيجيريا يزداد حيناً إلى آخر. وقد بلغ اليوم أكثر من عشر مقامات فردية ومجموعة صدرت من كتاب نيجيريين، ونضيف إلى المذكورة آنفاً “المقامة السعادية” للمرحوم محمد سعيد الغزالي (ت: 2015) و”مقامات الأييبوي” (مجموعة أربع مقامات طبع 2018) لعبد القادر عبد العزيز باباتندى، و”المقامة الأولوريوية” (2021) للقمان أولاليكن ألاغنفن، و”بحر المعاني في مقامات أحمد التيجاني” (ثلاث مقامات، 2022) لأحمد التيجاني. بعض هذه المقامات منشور وبعضها مخطوط.

المقامات النيجيرية ليست مجرد تقليد للحريرية

يوضح الأفنجون أنَّ جوهر فن المقامات هي حفظها على تقليد وعدم قابليتها للتجديد، وقد يكون عسيراً أن نرى عملاً يدَّعي “المقامية” ولم يتقلد بشيء من ميزات المقامات السابقة، وخاصة مقامات الحريري والهمذاني، فهما عبر العصور نموذجان أساسيان لمن جاء بعدهما من أصحاب المقامات، وقد رأينا أن الذين كتبوا المقامات عبر العصور والأمكنة إنما كتبوها في أغلب الحالات على نمط كتابيهما. وهذا حق بلا شك في المقامات النيجيرية.

وقد جعل الكتاب مقامات الحريري الهمذاني نصب أعينهم وجعلوها منهجا مثالاً لمقاماتهم. وبالتالي فإننا لا نتوقع من مقاماتهم أن تترك كثيراً من سمات سابقتها من المقامات؛ فمن حيث الأسلوب والهيكل فإن المقامات النيجيرية كما في سواها قديماً وحديثاً تشتمل الإسناد والأداء والكُدْيَة (من شدة الدهر) والبطولية والرواية واستخدام الفرائد اللغوية والتصنع في الاستعمال والتنسيق.

ولكلّ منها بطلها وراويها اللذان دار عليهما الحوار والحركات ضمن المقامات؛ مثلاً راوي “مقامات الإلوري” هو جبريل بن خالد وبطلها أبو اللبيب الفلاني، كما أن راوي “كسوة العاري في مقامات عبد الباري” هو المجاهد بن الهادي وبطلها أبو خالد الإبادني. أما “مقامات ابن يوسف” فقد تأثَّرت بمقامات الحريري في تسمية بطله أبو عمرو البدنلوري في حين أن راويها هو دينار بن درهم. فأوجه الشبه فيها كثيرة وتتفق بنمط أصيل عرف للمقامات عبر العصور.

كتاب “مقامات ابن يوسف”

وبرغم التأثر بالمقامات الحريرية، فإن في المقامات النيجيرية اختلافاتٍ كثيرةً تميزها، وهناك تجديد في شتى موضوعاتها. ونجد معظم هذه الاختلافات في مضمونها وكميّة ما حواها من المعلومات والأخبار والأحداث، لا في تنظيمها.

كُتَّاب نيحيريا للمقامة يتكلمون بمقاماتهم مع جمهور حديث لكن بأسلوب قديم؛ فمثلاً كتبوا مقامات عن الأحوال السياسية المعاصرة في نيجيريا وعن الأمور الاجتماعية التي تخص الجمهور النيجيري، ورأينا منهم من كتب مقامة يصف فيها سيارة مشهورة في المجتمع النيجيري تسمى “تويوتا كمري” على سبيل ما فعله بيرم التونسي، المصري الجليل الذي كتب مقامات عن الآلات والأجهزة المشهورة في وقته بمصر.

ففي رحلته مع المقامات عايش سليمان ما تلعبه المقامات إلى الآن من دورٍ في الثقافة الدراسية والبحثية كصانعة للمكانة الاجتماعية والثقافية في منطقة اليوروبا في نيجيريا. ففي أطروحته للدكتوراه التي أنجزها في برلين، وستنشر قريباً لدى الناشر الشهير بريل Brill، درس سليمان دور المقامة كنمط أدبي أدبي نشأ وتطور منذ الحريري، وركزَّ بشكل خاص على تقاليد تأليف ودراسة المقامات العربية في نيجيريا، وبالتحديد في آخر عقدين، واللذين بُذلت فيهما جهود كبير لإنعاش المقامات ونشرها بين جمهور القراء كنمط أدبي عربي نيجيري.

يسري السعداوي

المصدر: موقع رصيف 22