انتشرت أديان كثيرة في بلاد الرافدين على مرّ القرون، وتمكّن أصحاب كل دين منها من الاحتفاظ بشعائرهم وعقائدهم داخل الوسط الخاص بهم، بينما شكّل الجميع صورةً فسيفسائيةً مميزةً لتنوع ديني-فكري ندر وجوده في أي من المجتمعات الإنسانية التي عرفها العالم عبر العصور. تُعدّ طقوس استقبال المولود الجديد من الطقوس المميزة للطوائف الدينية العراقية. ما هي تلك الطقوس؟ وكيف تشابهت في الكثير من شعائرها؟
الإسلام
توجد العديد من الطقوس الشعبية التي اعتاد العراقيون المسلمون ممارستها قديماً، عندما يولد لهم طفل. من ذلك أن أمّ الطفل كانت تخيط له طاقيةً، كان يُطلَق عليها “كبع”، وتخيط بهذه الطاقية من أعلاها، عرفاً مصنوعاً من جلد الذئب. وتعتقد الأم أن جلد الذئب سوف يجعل ابنها شجاعاً جريئاً. أما بالنسبة على الأنثى، فإن الأم تقوم بوضع عرف من الريش في الطاقية، وذلك لكي تشبّ البنت رقيقة القلب، وناعمةً بنعومة الريش.
بحسب الموروثات العراقية، يوضع الطفل في قماط ليشدّ عوده، ويمنع لين عظامه. وتهتم الأسرة بتعليق بعض الأحجار الكريمة على هذا القماط. تفسر إحدى الأمهات العراقيات أهمية تلك الأحجار بقولها: “الخرز كما نسميه له فوائد متعددة للطفل، فنحن نعلّق على قماطه عدداً من أنواع الخرز مثل حجر الكهرب، وهو ذو رائحة مميزة ‘ويحفظ الطفل’، وأيضاً لدينا العقيق اليماني الذي يُلبَس للصلاة، وهو أيضاً ‘لحفظ الطفل’ ولكي يكون إنساناً مؤمناً في المستقبل، وكذلك هناك الخرز الخاص بالحليب، وهو حجر أبيض يُعلّق مع باقي الخرز، وفائدته تكمن في زيادة الحليب في صدر الأم، بالإضافة إلى الخرز الذي يقيه من الحسد، ويكون لونه أزرق، كذلك تُعلّق قطعة من الذهب كخاتم زواج الأم مثلاً، ‘لتحفظه من العين’، اعتقاداً بأن من يراه سيلمح الذهب فيغض النظر عنه، ويهتم بمنظر الذهب. وهذا الخرز هو من بعض المعتقدات التي توارثناها عن أمهاتنا وجداتنا، وما زلنا نطبّقها مع بناتنا وأحفادنا”.
يبدأ الأقارب والجيران بتقديم التهاني للأسرة التي وُلد فيها الطفل عند عودة الأم إلى منزلها مع وليدها. تقدّم المهنئات قطعاً من الذهب يتم تعليقها بدبوس على غطاء الطفل بحيث يمتلئ بالمجوهرات ويتم الاحتفاظ بها إلى الأبد. في بعض الأحيان، يقوم بعض الميسورين بوزن هذا الغطاء ويوزعون قيمته مالاً على الفقراء. وتقدّم الأسرة أطباق الطعام ضيافةً للمهنئين. ويكون معظم تلك الأطباق من التمر.
يقوم الأب بعد ذلك بإقامة حفل ختان للمولود الجديد. تُذبح الخراف في هذا الحفل لإطعام الأهل والأقارب والجيران والفقراء، وفي بعض الأحيان يُدعى المطربون والموسيقيون لإحياء الحفل. وفي أحيان أخرى، يُستغَلّ هذا النوع من الاحتفالات في الترويج لأسماء بعض المرشحين في الانتخابات المحلية. وكثيراً ما تُقام تلك الاحتفالات في الأحياء الشعبية والأكثر فقراً. من الجدير ذكره، أن العديد من تلك الاحتفالات تُقام في شهر شعبان على وجه الخصوص، وذلك تزامناً مع ليلة النصف من شعبان التي تحظى بمقام معتبر في الثقافة الشيعية الإمامية.
المسيحية
عرف العراق المسيحية منذ القرون الأولى للميلاد. انتشرت الكنائس والأديرة في شتى أنحاء بلاد الرافدين. حالياً، ينتشر المسيحيون العراقيون في الكثير من مناطق العراق، ويشكلون تجمعات كبيرةً في كل من الموصل وأربيل وبغداد والبصرة.
يعرف المسيحيون العراقيون العديد من الطقوس المرتبطة بميلاد طفل جديد. يُعدّ طقس المعمودية أهم تلك الطقوس على الإطلاق. يذكر الباحثان عاصم حاكم عباس الجبوري وعلي طالب عبيد السلطاني، في بحثهما “العادات والتقاليد في المجتمع النسطوري في القرن التاسع عشر”، أن المسيحيين العراقيين اعتادوا منذ قرون تعميد أطفالهم في عيد الدنح/الغطاس، الذي يحين موعده في شهر كانون الثاني/يناير من كل سنة، وذلك لما يحيط بهذا العيد من البركة والقداسة.
بحسب الأعراف والتقاليد التي يمارسها المسيحيون العراقيون، من المعتاد أن يتم اختيار أحد أقارب الطفل في أثناء تأدية طقس المعمودية ليكون “الشبين” (كلمة سريانية الأصل بمعنى وصي أو حارس)، الخاص به. يقوم الشبين بحمل الطفل في أثناء التعميد، ويكون في ما بعد بمثابة الأب الروحي للمُعمّد.
حالياً، يحتفل المسيحيون بمعمودية أطفالهم بطرائق شتى. من الطرائق المتوارثة، وضع الأطفال على الخشبة المسماة “كوجا”، ورش الجوز واللوز والحلويات الموضوعة في الغربال فوق رؤوسهم. يتشابه هذا الطقس الاحتفالي إلى حد بعيد مع طقوس “السبوع” في الفلكلور المصري.
المندائية
يذكر الباحث عزيز سباهي في كتابه “أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية”، أن هناك آراءً مختلفةً في ما يخص تحديد الأصول الأولى للدين المندائي.
يذهب البعض إلى أن المندائيين ظهروا في منطقة جنوب العراق، وأنهم تأثروا بالثقافات البابلية والسومرية المحيطة بهم، في حين يذهب آخرون إلى أن المندائيين الأوائل ظهروا في أرض فلسطين، وأنهم اضطروا إلى الهجرة إلى العراق بعد نشوب الصراع بينهم وبين اليهود هناك.
في السنوات الأخيرة هاجر الآلاف من الصابئة المندائيين من العراق بعد اجتياح تنظيم داعش لمناطق واسعة في البلاد في سنة 2014 م. ويعيش من بقي منهم في العراق الآن في مدن بغداد، وميسان، والناصرية، والديوانية.
يحظى طقس الصباغة/التعميد بأهمية كبرى في بنية الشعائر المندائية. جاء في الكتاب المندائي المقدس المعروف باسم كنز ربا” “اصبغوا نفوسكم بالصبغة الحية التي أنزلها عليكم ربكم من أكوان النور، والتي اصطبغ بها كل الكاملين المؤمنين. من وسم بوسم الحي، وذكر اسم ملك النور عليه، ثم ثبت وتمسّك بصبغته وعمل صالحاً، فلن يؤخّره يوم الحساب مؤخّر”.
يذكر التقليد المندائي أن يوهانا موصبانا -وهو نفسه النبي يحيى/يوحنا المعمدان في الديانات الإبراهيمية- اصطبغ -تعمّد- بعد ثلاثين يوماً من ولادته، وصار لزاماً على جميع المولودين الجدد أن يصطبغوا اقتداءً به وذلك حتى يُسمح لهم بالمرور من العالم المادي السفلي إلى العالم العلوي النوراني.
يشرف أحد رجال الدين المندائيين على عملية الصباغة، ويرتّل مجموعةً من التراتيل المقدسة التي يرددها أبو الطفل وراءه، وتتم الصباغة بعد أن يضع رجل الدين كفوفاً ثلاثة من الماء على رأس وجسد الطفل. بموجب ذلك الطقس ينضم الطفل إلى المجتمع المندائي وذلك بحسب ما يذكر قيس مغشغش السعدي، في كتابه “طقوس الصابئة المندائيين… رموز ومعانٍ”.
من الجدير بالذكر أن التقاليد المندائية تحرّم إجراء عملية الختان للطفل سواء كان ذكراً أو أنثى، وتفسر ذلك بأن الإنسان يولد مكتملاً في أفضل صورة، ولا يجوز قطع أي جزء من جسده.
الإيزيدية
يعتقد الإيزيديون بأن دينهم ظهر في فترة موغلة في القدم، وأن عمره يزيد عن أربعة آلاف سنة. ينتشر الإيزيديون الآن -بنسب متفاوتة- في كل من سوريا ولبنان وتركيا وإيران. ويوجد اختلاف حول سبب تسمية الدين الإيزيدي بهذا الاسم. ويؤمن الإيزيديون بإله واحد، ويعتقدون بوجود سبعة ملائكة، أهمهم الملك طاووس.
وينقسم المجتمع الإيزيدي إلى ثلاث طبقات متمايزة، وهي الشيوخ، والدعاة، والمريدون. ومن المعروف أن الدين الإيزيدي دين منغلق، وغير تبشيري. ينتشر الإيزيديون في العراق في سنجار، وبعشيقة، وبحزاني، وتلعفر.
تُحاط ولادة الطفل الجديد في الديانة الإيزيدية بمجموعة من الطقوس المهمة، الواجب اتّباعها. يلقي عبد الرزاق الحسني، في كتابه “اليزيديون في حاضرهم وماضيهم”، الضوء على أهم تلك الطقوس. يُعدّ التعميد الطقس الأول. يجري هذا الطقس بعد أسبوع من ولادة الطفل في أغلب الأحيان. يصطحب الوالدان المولود الجديد إلى معبد لالش الذي يقع على مسافة 60 كم شمال غرب مدينة الموصل، ويصلان به إلى كانيا سبي/العين البيضاء، وهي البئر المقدسة التي تفيض بالمياه منذ آلاف السنين بحسب التقليد الإيزيدي.
يقوم رجل الدين بتغطيس الطفل ثلاث مرات في مياه تلك البئر، لتكتمل عملية التعميد على الوجه الأمثل. يتمثل ثاني تلك الطقوس في عملية الختان. يخضع كل مولود ذكر للختان بشكل إلزامي بحسب التقاليد الإيزيدية. ومن الشائع أن ترتبط عملية الختان بطقس “الكرافة”. في هذا الطقس يختار الأب لابنه الوليد “كريفاً”. من المفترض أن يكون هذا “الكريف” مناصراً ومعاوناً للطفل الصغير في المستقبل.
تحدث “الكرافة” عندما يتم ختان الطفل وهو في حضن “الكريف”. تنعقد الصلة بين الشخصين مع سقوط أول قطرة من دماء الختان على ثوب “الكريف”. من الجدير بالذكر أن “الكريف” يُختار في الكثير من الأحيان من خارج الطائفة الإيزيدية، وأنه يحرّم الزواج بين “الكرفاء” لأجيال عديدة.
أما الطقس الإيزيدي الثالث المرتبط بالولادة فهو طقس “البسك”. في هذا الطقس يقوم أحد الشيوخ بقص خصلة من شعر الطفل الذكر بعد مرور 40 يوماً من ولادته. يتلو الشيخ بعدها دعاءً لمباركة الطفل، وتُقام حفلة ووليمة يُدعى إليهما أقرباء الطفل وأصدقاء أبويه، وتُقدَّم الهدايا للمولود.
محمد يسري
المصدر: موقع رصيف 22