تعمل هذه الورقة على توضيح جذور هذا الخلاف المرتبطة بالاستعمار الأوروبي وإرثه في المنطقة، مستعرضة دورات العنف والتوتر الرئيسية بين الطرفين، والأبعاد المختلفة لهذا النزاع، لتجيب في النهاية عن سؤال: هل ينفجر الصراع الحدودي بين كل من جيبوتي وإريتريا من جديد؟
يعد الخلاف الجيبوتي-الإريتري حول عائدية كل من رأس دميرة وجزيرة دميرة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر إحدى القضايا العالقة في القرن الإفريقي منذ قرابة عقد ونصف العقد من الزمان، حيث بلغ الخلاف ذروته صيف عام 2008 في اشتباكات دامية بين الطرفين، ولم يتمكن العديد من الأطراف التي حاولت الوساطة بينهما من إحداث اختراقات نهائية يتفق الطرفان بمقتضاها على آلية نهائية لحل النزاع بينهما.
تعمل هذه الورقة على توضيح جذور هذا الخلاف المرتبطة بالاستعمار الأوروبي وإرثه في المنطقة، مستعرضة دورات العنف والتوتر الرئيسية بين الطرفين، والأبعاد المختلفة لهذا النزاع، لتجيب في النهاية عن سؤال: هل ينفجر الصراع الحدودي بين كل من جيبوتي وإريتريا من جديد؟
أولًا: الإرث الاستعماري ودوره في خلق النزاع بين البلدين
النزاع الحدودي الإريتري-الجيبوتي نتيجة للتشكل غير الطبيعي لدول المنطقة خلال الحقبة الاستعمارية لإفريقيا؛ حيث ظهرت النواة الأولى لدولة إريتريا الحديثة إبان الاستعمار الإيطالي للبلاد وإنشائه مستعمرة “إريتريا الإيطالية”، عام 1890(1)، في حين أن جيبوتي بدورها كانت نتاجًا لاستيلاء فرنسا على أوبوك وتاجورا وأمياد وتسميتها “الصومال الفرنسي” معلنة الحماية عليها، عام 1888(2).
وهكذا فقد نشأت الحدود الإقليمية للدولتين نتيجة توافقات ومعاهدات بين كل من فرنسا وإيطاليا، بدأت باتفاقية روما، عام 1900، حيث تم تحديد الجزء الشمالي الشرقي من الحدود من أقصى الطرف الشمالي لرأس دميرة على ساحل البحر الأحمر، عبر مستجمعات المياه على طول شبه الجزيرة لحوالي 15 كيلومترًا، ثم على طول خط مستقيم باتجاه الجنوب الغربي إلى بسيدرو على ضفاف نهر ويعما، ونصت المادة 3 من الاتفاقية المذكورة على امتناع الدولتين عن السيطرة على جزيرة دميرة قبل الوصول إلى اتفاق حول أيهما لها السيادة عليها(3).
وفي اتفاقية عام 1901، في روما أيضًا، تم الاتفاق على أن الحدود بين المستعمرتين تمتد من رأس دميرة لمسافة 15 كيلومترًا، وبعد ذلك تتبع خطًّا مستقيمًا باتجاه بسيدرو على ضفاف نهر ويعما(4).
غير أن تغييرًا على هذه الحدود طرأ في اتفاقية يناير/كانون الثاني 1935 المعروفة باتفاقية موسوليني-نافال، والتي تنازلت فيها فرنسا عن بعض الأراضي لمصلحة إريتريا الإيطالية؛ حيث أعادت، وفقًا للمادة 4 من الاتفاقية، تعديل الحدود التي كان من المفترض أن تسير على خط مستقيم من دير علوا إلى دادعتو على نهر ويعما. علاوة على ذلك اعترفت فرنسا، في المادة 6، بسيادة إيطاليا على جزيرة دميرة(5).
تضمنت هذه الاتفاقية أيضًا تنازلات فرنسية لإيطاليا في شمال إفريقيا، ويعزى هذا السلوك الفرنسي إلى رغبة باريس في تجنب الصدام مع إيطاليا والحفاظ على مصالحها الاقتصادية المرتبطة باستعمارها لتونس وجيبوتي من خلال التوافق مع روما على بعض البنود كالسماح لها بغزو إثيوبيا، وكذلك للحصول على دعم إيطاليا في مواجهة التهديدات المتصاعدة من ألمانيا النازية(6).
ورغم توقيع هذه الاتفاقية كقانون بواسطة الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، في 26 مارس/آذار 1935، فإنها لم تُقبل أبدًا من قبل البرلمان الإيطالي الذي اعتبر أنها أدنى مما تتوقعه إيطاليا إذ لم تتضمن أي شيء لإيطاليا من تونس الفرنسية وكوريسكا وNizza(7)، وبالتالي لم يتم تبادل وثائق التصديق على المعاهدة بين البلدين.
ومن هذه النقطة ينشأ الخلاف الإريتري-الجيبوتي حيث تعتبر الأخيرة أن عدم موافقة البرلمان الإيطالي في حينه على المعاهدة يعني بقاء الحال وفقًا لاتفاقيات 1900 و1901، في حين ترى إريتريا أن التنازل الفرنسي وفق اتفاقية 1935 يعني تبعية الأرض لمستعمرة إريتريا الإيطالية بغض النظر عن تبادل وثائق التصديق من عدمه(8).
ثانيًا: مراحل تطور النزاع بين إريتريا وجيبوتي
رغم أن النزاع بين الطرفين بلغ ذروته عام 2008، فإن مؤشراته ظهرت مبكرًا بعد 3 سنوات تقريبًا من استقلال إريتريا، حيث اتهمت الحكومة الجيبوتية، في أبريل/نيسان 1996، القوات الإريترية بالتوغل داخل أراضيها إثر اشتباك في نقطة رأس دميرة الحدودية.
وكان من اللافت أن هذه الاتهامات ظهرت فجأة بعد الإعلان عن زيارة وزير الخارجية الإريتري في حينه، بطرس سلومون، لجيبوتي؛ حيث فوجئ بالادعاءات الجيبوتية في اجتماعه مع وزير الخارجية الجيبوتي، محمد موسى شحيم، والرئيس الجيبوتي، حسن جوليد. أنكر سلومون معرفته بهذه التطورات واتصل بعد انتهاء الاجتماعات بوزير الدفاع الإريتري، سبحت إفريم، متسائلًا عن أي توغل إريتري في المنطقة المذكورة لكن الأخير أنكر وقوع ذلك، فأعلن سلومون في بيان صحفي أنه لم يكن هناك اشتباك حدودي بين البلدين وأن الحكومة الإريترية فوجئت واستاءت من المزاعم الجيبوتية(9).
ويبدو أن أطرافًا إقليمية تدخلت لتحريض جيبوتي على إريتريا نتيجة الصراعات في المنطقة في ذلك الحين، محذرة جيبوتي من نيات إريترية للاستيلاء على مناطق حدودية بين الطرفين، ومن وجود خرائط إريترية ضمت تلك المناطق، لكن فعليًّا لم يقع أي اشتباك بين القوات الإريترية ونظيرتها الجيبوتية في تلك المرحلة(10)، وفي مايو/أيار، تراجعت جيبوتي عن ادعاءاتها(11).
ووفقًا لوثائق أممية، لاحظت السلطات الجيبوتية، في فبراير/شباط 2008، أعمال حفر تقوم بها إريتريا بالقرب من الحدود على سلسلة جبال رأس دميرة. ومع عبور البناء الحدود، سعت الحكومة الجيبوتية إلى إشراك حكومة إريتريا في حوار لحل أي مشاكل دون نجاح يذكر. وفي 17 أبريل/نيسان، اتخذت وحدات من القوات المسلحة الجيبوتية مواقع على بعد أمتار من المواقع الإريترية، واستمرت هذه المواجهة حتى يونيو/حزيران وخلال هذه الفترة فر عدد من المقاتلين الإريتريين إلى جيبوتي مستفيدين من قرب المسافة من خطوط الطرفين، وتجاهل الجيبوتيون مطالب القادة الإريتريين المحليين بإعادة الفارين رغم تهديد الأخيرين بإجراءات انتقامية.
وخلال إحدى حوادث الفرار هذه، في 10 يونيو/حزيران، تم تبادل إطلاق النار، واندلعت مناوشات استمرت يومين حيث سقط نحو 44 جنديًّا جيبوتيًّا قتلى، وفُقد 19، في حين أن عدد الضحايا الإريتريين غير محدد(12).
الجولة الثالثة من التوتر بين الطرفين وقعت في يونيو/حزيران من عام 2017، إثر سحب قطر قوات حفظ السلام التابعة لها من الحدود بين البلدين؛ حيث كانت الوساطة القطرية قد نجحت سابقًا (2010) في إقناع الإريتريين بالانسحاب من بعض المناطق المتنازع عليها وحلول قوات قطرية محلها(13)، ومع اتخاذ كل من أسمرة وجيبوتي قرارًا بالانضمام إلى المحور المناوئ لقطر مع بداية الحصار على الأخيرة عمدت الدوحة إلى سحب جنودها، وأعلنت جيبوتي أن إريتريا حشدت قواتها وأعادت سيطرتها على تلك الأراضي من جديد(14).
ثالثًا: أبعاد النزاع الحدودي الإريتري-الجيبوتي
للنزاع الحدودي على رأس وجزيرة دميرة العديد من الأبعاد المتداخلة، ويمكن إيجازها على الشكل التالي:
أ- الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة المتنازع عليها
تتمتع المنطقة محل النزاع بين البلدين بأهمية فائقة نظرًا للميزات التي تتصف بها، فرغم أن رأس دميرة لا يعدو كونه تلًّا صغيرًا يشكِّل رأسًا صخريًّا بطول كيلومتر وعرض 500 متر تقريبًا فإنه يهيمن مباشرة على جزيرة دميرة، ويطل على باب المندب، كما أنهما قريبان من جزيرة ميون اليمنية الإستراتيجية، بجانب قربه من مثلت الحدود بين إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا المعروف بمثلث العفر(15).
وتبدو حساسية هذا الموقع الإستراتيجي بالنسبة لإريتريا بشكل خاص، فمصير جزيرة دميرة مرتبط بالتبعية بمصير رأس دميرة، وكلاهما قادران على رسم علاقة إريتريا بمنطقة باب المندب، وبالتالي التأثير على مصير الموقع الإستراتيجي لإريتريا(16).
ب- البعد الإقليمي للنزاع
من الصعوبة بمكان فصل النزاع الإريتري-الجيبوتي عن الصراعات التي دارت في القرن الإفريقي خلال ربع القرن المنصرم؛ حيث أثَّرت الحرب الحدودية الإريترية-الإثيوبية (1998-2000) وتداعياتها في تشكيل صورة العلاقات داخل الإقليم لقرابة العقدين من الزمان.
وتعد جيبوتي أكبر المستفيدين من الحرب الإريترية-الإثيوبية وما تلاها من حالة اللاحرب واللاسلام بين البلدين؛ حيث أُغلقت الموانئ الإريترية في وجه إثيوبيا وهو ما أتاح لجيبوتي فرصة التحول إلى المنفذ الرئيسي للتجارة الإثيوبية حيث يمر عبرها 95% من الصادرات والواردات الإثيوبية، وهو ما وفر للخزينة الجيبوتية قرابة مليار دولار سنويًّا(17)، كما شهدت العلاقات بين جيبوتي وأديس أبابا تطورًا كبيرًا على العديد من الأصعدة(18).
بدا تأثير حرب بادمي على العلاقات الإريترية-الجيبوتية مبكرًا، فاتهمت أسمرة جيبوتي، عام 1998، بالسماح لإثيوبيا باستخدام مينائها لاستيراد معدات عسكرية لاستخدامها في الحرب، وزادت العلاقات توترًا مع نشر جيبوتي، في يونيو/حزيران 1998، قواتها العسكرية لتسيير دوريات على حدودها مع إريتريا ومنع أي توغل بدعم ومساندة مباشرة من فرنسا؛ حيث قامت فرقاطتان فرنسيتان بدوريات على الساحل لمنع التوغل العسكري من إثيوبيا أو إريتريا(19).
وعندما عرض الرئيس الجيبوتي، حسن غوليد، الوساطة بين البلدين رفضت أسمرة واعتبرته وسيطًا غير محايد، كما قطعت جيبوتي في هذا الوقت علاقاتها مع أسمرة واستدعت سفيرها هناك، ومنعت لاحقًا تخستي غبراي، السكرتير التنفيذي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) في حينه، وهو مواطن إريتري، من دخول جيبوتي، التي تستضيف مقر الإيغاد(20).
التحسن الذي شهدته العلاقة بين البلدين لاحقًا وكان من أبرز معالمه رفض جيبوتي الانضمام إلى تجمع صنعاء الذي ضم كلًّا من إثيوبيا والسودان واليمن(21)، لم يكن مرضيًا لأديس أبابا وفقًا لوجهة النظر الإريترية التي ترى أن ما حدث عام 2008 هو اختلاق كامل تقف وراءه إثيوبيا ضمن حروبها بالوكالة ضد أسمرة، وذلك لتحقيق هدفين رئيسيين: دفع جيبوتي إلى التخلي عن علاقتها المتوازنة بكل من إريتريا وإثيوبيا، وعزل إريتريا دبلوماسيًّا نتيجة دعمها المفترض لحرب بالوكالة ضد الحكومة الإثيوبية في الصومال، وهو ما يؤدي إلى ضمان اصطفاف جيبوتي إلى جانب أديس أبابا في صراعها مع إريتريا(22).
وكان للتدخل الإثيوبي العسكري في الصومال دور في تدهور العلاقة بين الثلاثي وتصعيد النزاع الإريتري-الجيبوتي، حيث عارضت إريتريا الغزو الإثيوبي للصومال وإسقاط حكم المحاكم الإسلامية هناك بذريعة مكافحة الإرهاب (2006) في حين كان موقف جيبوتي مساندًا للتحرك الإثيوبي المدعوم أميركيًّا.
لكن القشة التي قصمت ظهر علاقات أسمرة وجيبوتي كانت استضافة الأخيرة لمباحثات سلام بين “تحالف تحرير الصومال” والحكومة الانتقالية الصومالية المدعومة إثيوبيًّا التي انتهت إلى هدنة وفرت الغطاء لعملية سياسية صومالية ولخروج القوات الإثيوبية من المستنقع الصومالي، وكان من اللافت رفض الجناح الموالي لأسمرة في التحالف المشاركة في هذه المفاوضات، على خلاف الجناح الآخر الموالي لجيبوتي والذي توصل إلى الاتفاق(23).
ولذا يربط البعض بين اشتباكات 2008 التي تلت إعلان الهدنة في الصومال بخمسة أيام فقط ورغبة أسمرة في إرسال رسالة لجيبوتي مفادها “أن لا تلعب دورًا أكبر من حجمها، وأن لا تميل لصالح اثيوبيا أكثر من اللازم”(24)، خاصة أن التوتر بين جيبوتي وأسمرة بدأ منذ أبريل/نيسان والذي شهد تعبير المعارضة الصومالية المتمركزة في أسمرة عن استعدادها لخوض محادثات مع الحكومة الصومالية في جيبوتي(25).
لكن الباحث يذهب إلى أن ما سبق قد يحدد جانبًا فقط من الدوافع الإريترية، فموقف أسمرة كان من البداية ينكر وجود أي تنازع على الأراضي وأن الجيش الإريتري يتحرك ضمن ترابه الوطني.
وذلك مدفوع في تقديري بأحد أمرين: إما قناعة إريترية راسخة بعائدية الأراضي المتنازع عليها، ولذلك فقد ضمت الخرائط التي قدمتها أسمرة إبان النزاع مع اليمن على جزر حنيش(26) (1995) هذه المناطق داخل الحدود الإريترية(27) وذلك قبل بروز أي خلاف عليها مع جيبوتي. وإما رغبة إريتريا بالاحتفاظ بهذه الأراضي بالنظر إلى الأهمية الجيوستراتيجية الفائقة لرأس وجزيرة دميرة كما تقدم ذكره في الفقرة السابقة.
ولعل هذا ما يفسر الجمود الذي أصاب عملية المصالحة الإريترية-الجيبوتية التي كانت متوقعة بعد توقيع اتفاقيات السلام الإريترية-الإثيوبية والوساطة السعودية بين أسمرة وجيبوتي، والتي أسفرت عن لقاء بين الرئيسين، آسياس أفورقي وإسماعيل عمر غيله، في جدة، في سبتمبر/أيلول 2018(28)، حيث يبدو التباعد كبيرًا بين مواقف الطرفين وعمقت سنوات اللاحرب واللاسلم الطويلة بينهما حالة من التشكك وعدم الثقة(29).
وهكذا، دأبت جيبوتي على اتهام أسمرة بدعم متمردين جيبوتيين ينشطون على حدودها، وصولًا إلى محاولة قلب نظام الحكم فيها(30)، وهو ما تنفيه إريتريا مؤكدة أن المعارضة المسلحة في جيبوتي موجودة منذ ظهورها كدولة عام 1977(31).
ج- البعد الدولي
وهذا البعد حاضر بشكل أكبر في السردية الإريترية للنزاع؛ حيث تتهم أسمرة الولايات المتحدة الأميركية باستخدام حلفائها في المنطقة لاستهداف السيادة الإريترية من خلال افتعال الصراعات والحروب معها، ووفقًا للرئيس الإريتري، آسياس أفورقي، “لم تكن هذه القضية لتظهر لو لم تكن هناك أجندة خارجية. نظرًا للأهمية الجغرافية لجيبوتي، فقد تبنَّت الأجندة الخارجية خطة في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، آخذة جيبوتي نقطة انطلاق”(32).
بل إن الرئيس أفورقي يعتبر سلسلة النزاعات الحدودية التي شهدتها بلاده منذ استقلالها، بما فيها تلك التي مع جيبوتي، جزءًا من مؤامرة أميركية ضد إريتريا(33)، في حين يذهب بيان للسفارة الإريترية في واشنطن إلى أن النزاع الحدودي مع جيبوتي افتُعل ذريعةً لفرض عقوبات أممية على أسمرة نتيجة موقفها الرافض للغزو الإثيوبي للصومال (2006) لإسقاط حكم المحاكم الإسلامية في مقديشو، والذي تم “تحت ضغط من الإدارة الأميركية”، في حين أن القوات الإريترية “لم تعبر حدود جيبوتي قط”(34).
جيبوتي من جانبها ترفض هذه السردية الإريترية وتؤكد أن القوات الإريترية تسيطر على مناطق حدودية داخل الأراضي الجيبوتية، وأن هناك حاجة إلى حل هذا النزاع وفق الأسس السلمية من خلال المؤسسات المعنية كالاتحاد الإفريقي أو الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) أو الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو حتى رفع القضية إلى محكمة العدل الدولية(35).
رابعًا: هل تنفجر الحرب بين جيبوتي وإريتريا؟
تؤكد التصريحات التي أدلى بها الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر غيله، لصحيفة جون أفريك الفرنسية مخاوف بلاده من أن تزيد نهاية الحرب في تيغراي من إمكانية تحركات للجيش الإريتري تستهدف بلاده(36)، بالنظر إلى أن الطرفين ما زالا يعيشان حالة من اللاسلم واللاحرب منذ 2008، وربما زاد من هذه المخاوف الهجمات التي قامت بها “جبهة استعادة الوحدة والديمقراطية” المعروفة اختصارًا بـ”فرود” على ثكنات تابعة للجيش الجيبوتي، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وأدت إلى سقوط عدد من الجنود قتلى(37).
وفي هذا الإطار من الممكن أيضًا تفسير دوافع انضمام جيبوتي إلى المنظومة الأمنية الإقليمية الناتجة عن قمة مقديشو المنعقدة في فبراير/شباط الماضي، بأنها في أحد جوانبها تمثل رغبة جيبوتي في تقوية روابطها الإقليمية تحسبًا لأي تحرك إريتري ضدها(38).
كذلك يتسق هذا التصور الجيبوتي مع الرأي الذي يقول بأن الحروب التي تخوضها أسمرة هي نتيجة جزئية لرغبتها في عدم الشروع في برنامج الإصلاحات الداخلية(39)، والذي يبدو ملحًّا الآن بعد أن دمرت الحرب في تيغراي القوة العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي مثَّلت خطرًا وجوديًّا عليها، وكان التحسب لأي اعتداء منها على السيادة الإريترية خلف تجميد الإصلاحات السياسية في البلاد لأكثر من عقدين من الزمان.
ووفق هذه الرؤية تبدو جيبوتي غير معنية بالاشتباك العسكري مع القوات الإريترية مؤكدة على الحل السلمي من خلال المؤسسات الإقليمية أو القارية أو الدولية ذات الصلة، غير أنه في المقابل تبدو الرغبة الإريترية في اتخاذ أي خطوة عسكرية تجاه جيبوتي مستبعدة للأسباب التالية:
1- أن القوات الإريترية تفرض سيطرتها على المناطق المتنازع عليها، وبالتالي فليست بحاجة لشن هجمات على الأراضي الجيبوتية.
2- السياسة الإريترية في المرحلة الحالية تنحو إلى التهدئة والمصالحة، والمؤشرات على ذلك مختلفة كقبولها غير المعلن لاتفاقية بريتوريا وما تلاها من خلال سحب قواتها من تيغراي، وزيارة وفد أمني عسكري رفيع المستوى إلى أديس أبابا مؤخرًا(40)، ودعم الصومال في محاربة الإرهاب، والانفتاح على كينيا، كما أنها عادت إلى منظمة الإيغاد مؤخرًا(41).
3- الإنهاك الاقتصادي الذي أصاب إريتريا نتيجة ثلاث جولات دامية من الحرب في تيغراي، ونتيجة سنوات طويلة من العقوبات والعزل؛ حيث قال يماني قبرآب، المستشار السياسي للرئيس الإريتري، آسياس أفورقي: إن تأثير العقوبات الأممية التي تم رفعها عام 2018 على الاقتصاد “كان كبيرًا”، كما اعتبر أن تأثيرات العقوبات الأميركية التي فُرضت من قبل واشنطن، عام 2021، لا تختلف عن آثار العقوبات الأممية(42).
4- المزاج الشعبي غير المرحب بأي انخراط في أعمال عسكرية جديدة بعد الانتهاء من حرب التيغراي، والرغبة الشعبية في العودة إلى الحياة الطبيعية بعد أكثر من عقدين من الاستنفار والعسكرة المستمرة، خاصة أن جيبوتي لا تمثل تهديدًا خطيرًا على عكس الحال مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي خارج وداخل السلطة في إثيوبيا.
ولذلك يبدو السيناريو الأرجح هو ألا تشهد الحدود بين البلدين أي تدهور، وأن تستمر القطيعة بين البلدين، ولعل التطورات الإيجابية في القرن الإفريقي تفتح الباب لمحاولة وساطة بين الطرفين لكنها ستواجه بصعوبات جمة نتيجة التباعد الكبير بين مواقفهما.
عبد القادر محمد علي – صحافي وباحث إريتري
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات