يتجه العالم إلى التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، بوصفه السبيل الرئيس للحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري، وتحقيق أهداف الحياد الكربوني لمواجهة تغير المناخ.
ومع ذلك، تبدو الحرب على الوقود الأحفوري أخطر بكثير من تغير المناخ نفسه، نظرًا للمخاطر التي ستتكبدها الإنسانية حال التخلي عن هذه المصادر بشكل كامل.
وسلّط مقال حديث -نشرته مجلة “سبايكد” (Spiked) البريطانية- الضوء على سياسات الغرب الخضراء، التي أظهرت تناقضها عندما اصطدمت بالواقع، نتيجة لتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، وفق ما طالعته منصة الطاقة المتخصصة.
وأكد المقال أنه يُمكن تحقيق هدف الحياد الكربوني بحلول عام 2050، لكن التخلي السريع عن الوقود الأحفوري الذي يتطلبه ذلك، سيتسبب في البؤس والمصاعب لمليارات البشر.
اختراع “نفسي” وليس كهربائيًا
استشهد كاتب المقال، رالف شويلهامر -وهو أستاذ مساعد في الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة ويبستر في فيينا- باختراع إرميا ثورونكا في عام 2021، إذ اخترع طالب الماجستير في جامعة دورهام، البالغ من العمر 21 عامًا، جهازًا يستعمل الطاقة الحركية من حركة المرور والمشاة لتوليد الكهرباء.
وفي مشروع تجريبي في سيراليون -موطن ثورونكا الأصلي-، يبدو أن جهازين وفّرا الكهرباء المجانية لـ150 أسرة و15 مدرسة، بحسب ما رصدته منصة الطاقة المتخصصة.
وقد استمرت الجوائز تتدفق على “ثورونكا” منذ ذلك الحين، حتى فاز في الشهر الماضي بجائزة “أفضل شاب أخضر” لعام 2023 في مهرجان “غرين تك” ببرلين، ما دفع الصحفيين إلى البحث عن اختراع “ثورونكا”، دون التوصل إلى أيّ معلومات توثّقه.
من الواضح أن النخب الخضراء الغربية تريد أن تؤمّن بنجاح جهاز “ثورونكا”؛ فقد خلص الصحفي ألكسندر وندت، إلى أن عبقرية “ثورونكا” ربما لا تكمن في مجال الكهرباء الانضغاطية -تحويل الطاقة الحركية إلى كهرباء- ولكن في “الهندسة النفسية”.
وأكد كاتب المقال أن “ثورونكا” يخبر المؤسسة الخضراء في الغرب بما تريد أن تسمعه؛ فهي تريد أن تصدّق أنه من الممكن تلبية احتياجات أفريقيا المتزايدة من الكهرباء دون الوقود الأحفوري أو الطاقة النووية، ومن ثم فإن جهاز الطاقة الحركية هذا يلبي تخيلاتهم البيئية.
وشدد على أن هذه هي وجهة نظر جزء كبير من النخب السياسية والإعلامية، هم يتحدثون عن الانتقال إلى الطاقة النظيفة، ويضعون أهدافًا مذهلة للحياد الكربوني، ويشجعون على شيطنة ووقف استعمال الوقود الأحفوري، لكن كل مخططاتهم الخضراء ستأتي بكلفة بشرية ضخمة.
ويوضح الإنفوغرافيك التالي -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- المسار الصحيح في مواجهة تغير المناخ:
أمثلة “وهمية” لانتقال الطاقة
أكد كاتب المقال، رالف شويلهامر، أن النخب الغربية ستدّعي أن انتقال الطاقة ضروري للغاية، من أجل تجنّب كارثة من تغير المناخ.
في الحقيقة، السياسيون الغربيون أنفسهم لا يأخذون حقًا هذه الكارثة على محمل الجدّ؛ فهم يعرفون أن الحديث عن إنهاء الوقود الأحفوري يروق لبعض الناخبين، لكنهم يعرفون أيضًا أن معظم الناس لن يكونوا مستعدين لتحمُّل عواقب النهاية الفعلية للوقود الأحفوري.
على سبيل المثال، يدرك الرئيس الأميركي جو بايدن جيدًا أن أسعار البنزين لها تأثير مباشر في احتمالات إعادة انتخابه، وهذا هو السبب في أنه لم يُظهر أيّ تردّد في استنزاف احتياطي النفط الإستراتيجي لأميركا لإبقاء الأسعار منخفضة.
وأشار “شويلهامر” إلى أن سوء النية نفسه ينتشر بين السياسيين الأوروبيين أيضًا؛ فهم يروجون لـ”حالة الطوارئ المناخية” ويجذبون الانتباه لأهداف الحياد الكربوني، لكن عندما يحين وقت الحسم، فإنهم يعودون في قرارهم.
ألمانيا -على سبيل المثال- تحب أن تقدم نفسها بوصفها قائدة للتحول العالمي في مجال الطاقة، بحسب ما جاء في المقال الذي اطّلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة.
ومع ذلك، فور أن بدأت أزمة الطاقة في الظهور العام الماضي (2022)، أعادت الحكومة الألمانية تشغيل محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم لتغذية شبكة الكهرباء، عن طريق حرق الفحم البني، أكثر أنواع الفحم تلويثًا للبيئة.
وهناك النرويج -خامس أغنى دولة في العالم- والتي تنعم بالموارد الطبيعية الوفيرة والطاقة الكهرومائية، أصبحت بمثابة “الطفل المدلل” لإدخال السيارات الكهربائية، وقيل، إنها توضح للعالم كيفية إدارة انتقال الطاقة.
إلّا إن الاستهلاك المحلي للنفط في النرويج اليوم مرتفع تقريبًا كما كان في عام 1985، وانتقال الطاقة في البلاد يسير بشكل أبطأ بكثير من الإعلانات المستمرة.
في الواقع، وافقت أوسلو للتوّ على تمويل بقيمة 18 مليار دولار للمساعدة في تطوير 19 حقلًا آخر للنفط والغاز.
الوقود الأحفوري لا غنى عنه
أشار كاتب المقال، رالف شويلهامر، إلى أن النفاق الأخضر للحكومات الغربية ينكشف؛ فهم يتخذون موقفًا حول الحياد الكربوني، وينغمسون في الأوهام حول انتقال الطاقة.
ومع ذلك، لا يمكنهم الهروب من حقيقة أن الوقود الأحفوري جزء لا يتجزأ من رفاهية مجتمعاتهم.
وقد صنّف عالم السياسة الكندي فاكلاف سميل الأسمنت والصلب والبلاستيك والأمونيا بوصفها 4 مكونات تجعل العالم الحديث ممكنًا.
على سبيل المثال، تحتاج أنظمة الرعاية الصحية الحديثة إلى كميات هائلة من البلاستيك (لكل شيء من الأنابيب المرنة إلى التعبئة المعقمة)، ما يجعلها عنصرًا مهمًا آخر في رفاهية البشرية.
دون الحديد والأسمنت، لا يمكن بناء أيّ شيء، لا طرق ولا منازل ولا موانٍ ولا مطارات، كما يتطلب إنتاج البلاستيك والصلب والأسمنت أنواعًا من الوقود الأحفوري، وفق ما أورده كاتب المقال، الذي طالعته منصة الطاقة المتخصصة.
الشيء نفسه ينطبق على الزراعة الحديثة، التي تعتمد على الأسمدة الاصطناعية، ودون هذه الأسمدة، فإن نصف سكان العالم الحاليين سيصبحون دون غذاء.
ويعتمد إنتاج هذه الأسمدة على ما يُسمى بعملية هابر بوش، وهي طريقة لإنتاج الأمونيا من النيتروجين والهيدروجين، والتي اختُرِعَت في أوائل القرن الـ20.
مشكلة أولئك الذين يطالبون بالتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري هي أن الهيدروجين المطلوب لإنتاج الأمونيا، ومن ثم الأسمدة الاصطناعية، مشتق بالكامل تقريبًا من الوقود الأحفوري.
ويوضح الرسم البياني التالي -الذي أعدّته منصة الطاقة المتخصصة- الدعم السنوي لاستهلاك الوقود الأحفوري عالميًا، منذ عام 2012 حتى عام 2022:
التعدين.. عقبة أمام الطاقة النظيفة
ليست الأسمدة فقط هي التي تتطلب الوقود الأحفوري؛ إذ تعمل 75% من جميع المعدّات الزراعية في الولايات المتحدة بالديزل.
قد يقترح المتفائل الصديق للبيئة استبدال مركبات كهربائية صناعية بكل هذه الآلات التي تعمل بالديزل، على حدّ تعبير كاتب المقال.
ومع ذلك، فإن تصنيع البطاريات لجميع هذه المركبات الكهربائية يتطلب توسعًا هائلًا في التعدين كثيف الطاقة للمعادن، مثل الكوبالت والليثيوم والمنغنيز والنيكل، وتتطلب المركبات الكهربائية -أيضًا- مصادر كهرباء نظيفة لشحنها.
في الواقع، كل خطوة من خطوات انتقال الطاقة المقترحة تعتمد في حدّ ذاتها على الوقود الأحفوري.
لا يمكنك بناء توربينات الرياح دون مواد تشحيم من النفط وأساس خرساني وكميات وفيرة من الفولاذ، كما لا يمكنك صنع الألواح الشمسية دون البولي سيليكون، وهو مكون يتطلب طاقة هائلة لإنتاجه، لأنه يتطلب درجات حرارة تتجاوز 1150 درجة مئوية.
ولذلك، يُعدّ التوسع في أنشطة التعدين اللازمة لبناء المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح مشكلة خاصة بالنسبة لمؤيدي التكنولوجيا النظيفة.
كما أن قطاع تعدين المعادن كثيف الطاقة، وينتج كمية هائلة من انبعاثات الكربون، وهو مسؤول عن 38% من إجمالي استعمال الطاقة الصناعية العالمية؛ ما يعني أنه حتى لو كانت كهربة جميع المركبات ممكنة، فلن يؤدي ذلك إلى القضاء على انبعاثات الكربون.
علاوةً على ذلك، تريد الحركة البيئية تضييق الخناق على التعدين، وقد حُظِرت تصاريح التعدين في أوروبا والولايات المتحدة.
وهذا يعني أن المعادن المستعملة في إنتاج المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح من المرجح أن تأتي من الدول الفقيرة مع قيود أقلّ على التعدين وظروف العمل المروعة.
دينا قدري
المصدر: منصة الطاقة