البحث عن الحقيقة تحت سقف المبادئ القانونيّة الإجرائيّة

Spread the love
image_pdfimage_print

تمثيل الجريمة إجراء كَرَّسه الواقع العملي في التحقيق الجزائي، خصوصاً في جرائم القتل، بحيث يَنتقِل القائم بالتحقيق إلى مسرح الجريمة ومعه الأشخاص الذين اعترفوا بارتكابها لتمثيل الأفعال التي قاموا بها أثناء تنفيذها. هذا ما يحصل عادةً، لكن، يمكن اللجوء إلى هذا الإجراء أيضاً في حالة إنكار المشتبه فيه أو المُدَّعى عليه، مساهمته في الجريمة، فيتم تمثيلها من قِبَل الشهود وأحياناً من مشتبه فيهم أو مدّعى عليهم آخرين بحضوره، وذلك لمواجهته في مسرح الجريمة، بما هو متوافر في حقّه من معطيات وقرائن. هذا الواقع يفرض التساؤل عن السند القانوني لهذا الإجراء، وغايته، وكيفيّة تنفيذه ليكون منسجماً مع المبادئ القانونيّة الإجرائيّة.

لم يُقَيِّد المشترع سُلطات التحقيق بإجراءات محددة حصراً في معرض جمع الأدلّة، فقد ذَكَر بعضها كالتفتيش، والاستعانة بالخبرة الفنيّة والكشوفات الحسيّة على أماكن وقوع الجرائم على سبيل المثال، مُفسِحاً المجال أمام هذه السُّلطات، في أكثر من مكان في قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، للقيام بأي إجراءات تحقيقيّة ضروريّة لجمع الأدلة، شرط الالتزام بالمشروعيّة، وإثبات هذه الإجراءات خطياً.
تمثيل الجريمة إذاً، إجراء يجيزه القانون، متى كان ذلك لازماً لجمع الأدلّة. ويخضع هذا الأمر لتقدير المرجع القضائي الذي يتولّى التحقيق أو الإشراف عليه. قد يكون هذا الإجراء فعلاً وسيلة لتوفير دليل حاسم، وأعرض هنا مثلاً من إحدى القضايا، حيث أصرَّ المشتبه فيه على أنه نفَّذ جريمة القتل بمفرده، ونقل الجثة إلى المكان الذي عُثِر عليها فيه ودَفَنها تحت التراب. وعند «تمثيل الجريمة» تبيّن أنه يتعذّر عليه أن يحمل ما يساوي وزن الجثة بمفرده من مكان القتل إلى مكان الدفن، الذي يقع في مرتفعٍ جبلي، والحفر في ذلك المكان، ما وفّر دليلاً أكيداً على وجود أشخاص آخرين ساهموا معه في الجريمة، فاتّجه التحقيق إلى البحث عمّن تتوافر بحقهم شبهة المساهمة. 

في المقابل، يحصل تمثيل الجريمة في بعض الحالات بعد اكتمال التحقيق، ويكون الهدف منه غير مرتبط بجمع الأدلّة، إنما يُبرَّر بطمأنة الرأي العام حول جلاء ملابسات الجريمة التي تكون إجراءات التحقيق فيها موضِع متابعة منه. هذه الغاية مهمة، إلّا أنه يمكن بلوغها بوسائل أخرى غير تمثيل الجريمة، الذي يجب أن يبقى إجراءً تحقيقياً يهدف إلى جمع الأدلّة. في هذا الخصوص، من المهم الأخذ في الاعتبار ما اقترحه الدكتور سمير عالية لجهة استحداث مركز «الناطق باسم النيابة العامة»، المنوط به إصدار البيانات اللازمة، لإطلاع الرأي العام على مجريات التحقيقات التي يكون مُهتماً بالاطّلاع عليها، من دون الغوص في تفاصيلها حفاظاً على سريّة التحقيق.

إن أهميّة تمثيل الجريمة، متى كان لازماً، على صعيد نتائج التحقيق أمرٌ يفرض أن يُنفّذ مع التقيّد التام بالمبادئ القانونيّة الإجرائيّة. فمن جهة أولى، لا يجوز أن يُفرَض على المشتبه فيه، أو المدّعى عليه، تمثيل الجريمة خلافاً لإرادته، لأن القانون يوجِب صراحةً ألّا تكون إجراءات التحقيق مشوبة بعيوب الإكراه المعنوي أو المادي. فضلاً عن ذلك، يتمتَّع الأشخاص الخاضعون للإجراءات الجزائيّة بحق الصمت، فلا يجوز إلزامهم بالإجابة عن أي سؤال، لغاية تنفيذ تمثيل الجريمة إن هم اختاروا عدم الجواب.

من جهة ثانية، يفترض التنبُّه إلى أنه في معرض تمثيل الجريمة يحصل استجواب للمشتبه فيه، أو المدّعى عليه، إذ تُوجّه إليه الأسئلة ويُواجه بالأدلّة، ويكون له الحق بالاستفادة من جميع حقوقه الإجرائيّة المُلازمة للاستجواب، ومنها الحق في الاستعانة بمحامٍ. وينبغي إعلامه بحقوقه هذه، وتمكينه من ممارستها في حال رغب بذلك. 

من جهة ثالثة، أهمية التقيُّد بمبدأ سريّة التحقيق في المرحلة السابقة للمحاكمة الجزائيّة. ففي الكثير من الأحيان تُنقل إجراءات تمثيل الجريمة عبر شاشات التلفزة، ولا شك أن ظهور المشتبه فيه أو المدّعى عليه، على هذا النحو، وهو يُجيب على أسئلة القاضي ويُمثّل الجريمة يتناقض مع هذا المبدأ. كما يُشكّل هذا الظهور مساساً بمبدأ أصل البراءة المُتعارف على تسميته «قرينة البراءة»، إذ يُقدّم المُشتبه فيه، أو المدّعى عليه، بشكل جازم على أنه الفاعل، في حين أن قرينة البراءة لا تزول إلّا بصدور حكم جزائي مبرم بالإدانة. ولا يُغَيّر في ذلك أن يكون المشتبه فيه، أو المدّعى عليه، قد اعترف بارتكاب الجريمة، إذ إن الاعتراف في سياق الإجراءات الجزائيّة، بخلاف الإجراءات المدنيّة، لا يتمتّع بقوة ثبوتيّة مطلقة، بل هو دليل، يخضع لتقدير القاضي الذي يهمله إذا تبيّن له أنه غير مُطابق للواقع، مثل أي دليل آخر. والأمثلة كثيرة في الأحكام والقرارات القضائيّة التي انتهت إلى إعلان براءة الأشخاص المُلاحَقين، أو منع المحاكمة عنهم رغم اعترافاتهم، بعدما تبيّن أنها غير صحيحة، وقد حصلت لعدّة أسباب، منها قبض الأموال والتغطية على الفاعل الحقيقي.

في ما خصّ إثبات تنفيذ تمثيل الجريمة، يفترض تنظيم محضر خطّي يشتمل على دقائق التنفيذ، على أن يُذكَر فيه الأشخاص الذين حضروا هذا التنفيذ، وصفة كلّ منهم، ودوره في التحقيق. يقتضي أيضاً تسجيل تنفيذ هذا الإجراء بالصوت والصورة، إذ إن التدوين الخطي، لا يمكنه أن ينقل ما حصل بدقة لجهة وصف وقائع التمثيل وتفاعل الأشخاص المعنييّن، ولا سيّما للمراجع القضائية التي ستنظر في القضيّة في مراحل لاحقة.
خُلاصة القول: إن تمثيل الجريمة هو إجراء قانوني غايته خدمة مصلحة التحقيق عبر توفير الأدلّة اللازمة في معرض البحث عن الحقيقة. وبالنظر إلى أهميّته، يفترض عند تنفيذه الالتزام الكامل بالمبادئ القانونيّة التي ترعى الإجراءات الجزائيّة، وإلّا أصبحت نتائجه عرضة للبطلان، ما ينعكس سلباً على هذه المصلحة. 

زياد مكنا – دكتور في الحقوق ومحامٍ

المصدر: ملحق القوس بصحيفة الأخبار