خاص الوطنية
في ظروف أزمة الغذاء المستعرة، وتحت وطأة تأثير الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يكتسب التعاون الدولي أهمية حاسمة، ولا سيما أنه في كل عام يزداد عدد البلدان المعرضة للخطر الغذائي. فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة مذهلة بنسبة 83 % في نقص التغذية العالمي مقارنة بمتوسط الفترة من 2015 إلى 2022.
المكان الأكثر تأثراً بهذه الأزمة هي القارة الأفريقية. وفقًا للأمم المتحدة، يمكن أن تصل أزمة الأمن الغذائي وسوء التغذية في غرب ووسط إفريقيا خلال هذا العام إلى أعلى مستوى لها في 10 سنوات.
وحسب آخر تحليل أجراه Cadre Harmonisé ، من المتوقع أن يصل عدد الأشخاص في أفريقيا الذين ليس لديهم وصول منتظم إلى الغذاء الآمن إلى 48 مليونًا خلال موسم العجاف من يونيو/ تموز إلى أغسطس/ آب. كما أظهرت البيانات أن 16.5 مليون طفل دون سن الخامسة يواجهون سوء تغذية حاد هذا العام، بما في ذلك ما يقرب من خمسة ملايين طفل معرضين لخطر سوء التغذية الحاد المنهك.
تفاقم أزمة الغذاء على الصعيد العالمي ليس مرتبطاً فقط بالعوامل الطبيعية مثل تغير المناخ، بل كذلك بالصراعات بين القوى العالمية، وسياسات الدول وانقساماتها الحادة بين محاور وتحالفات عدائية لا تتورع عن تنفيذ إجراءات قاسية ومجحفة تنعكس سلباً على الدول الأكثر فقراً في العالم.
فصفقة حبوب البحر الأسود المزعومة التي انسحبت منها روسيا مؤخراً لا تضمن توزيعاً متكافئاً لإمدادات الحبوب. ذلك أن الشركات الغربية كانت قد عملت على توجيه معظم إمدادات الحبوب من دول البحر الأسود الى أسواق أوروبا الغربية، في حين حصلت الدول الأفريقية والشرق أوسطية على نسبة ضئيلة فقط، مع أنها الأكثر احتياجاً لها بما لا يقاس مع دول أوروبا الغربية.
هذا وتزيد العقوبات المفروضة على الصادرات الروسية من تعقيدات الوضع، وخاصة على الدول الفقيرة غير المعنية بالصراعات بين القوى العظمى وتوازناتها. في هذا السياق، ينبغي على الدول الأفريقية ودول الشرق الأوسط أن تعمل على إقامة تعاون مباشر مع روسيا لضمان خطوط إمدادات أكثر استدامة للحبوب وغيرها، فموسكو لديها إمكانات هائلة على صعيد تصدير المواد الغذائية.
علاوة على ذلك، فإن أزمة الغذاء لديها تأثيرات أكثر قسوة على البلدان الأفريقية، فقد تسببت بانهيار قيم العملات الوطنية فيها، وصارت الأسواق المحلية فيها تعتمد على احتياطيات الدولار، مما يضع البلدان الأفريقية في موقف ضعيف جداً، وهذا ما يبدو متعمداً من قبل أميركا وحلفائها من أجل إخضاع البلدان الأفريقية والتأثير في توجهاتها، وصولاً الى منعها من التعامل مع روسيا والصين.
لقد كانت القارة الأفريقية ذات يوم في طليعة عملية إزالة الدولرة، حيث جسد مشروع معمر القذافي “الدينار الذهبي” محاولة التحرر من الاعتماد على الدولار، ودمج اقتصادات دول القارة ، وتبسيط التجارة المتبادلة.
اليوم، تُظهر روسيا والصين والهند مثالاً على التحول في الحسابات إلى العملات الوطنية. في ظل ظروف أقلمة الاقتصاد العالمي، سيزداد دور عملات مثل “الروبل” و”اليوان” و”الروبية”. علاوة على ذلك، في مواجهة ضغوط العقوبات، تقدم روسيا آليات فعالة لإزالة الدولرة وضمان سيادة الاقتصاد الوطني. يمكننا ملاحظة أن الديون الخارجية لروسيا انخفضت مؤخراً عدة مرات.
ينبغي على صناع القرار في الدول الأفريقية دراسة هذه التجربة الرائدة والتعلم منها، ولا سيما أن روسيا منفتحة دائماً على التعاون. علاوة على ذلك، فإن العلاقات بين الدول الأفريقية وروسيا لها تقاليد عريقة. فقد دعم الاتحاد السوفياتي، الذي يشكل الاتحاد الروسي وريثه الشرعي، دول المنطقة في النضال من أجل حقها في تقرير المصير والاستقلال. كما سبق أن نفذت موسكو مشاريع ضخمة في القارة السمراء، وكان لها على الدوام تعاون اقتصادي وإنساني وعسكري وصناعي وثيق مع العديد من الدول فيها.
لم تحافظ روسيا الحديثة على هذه التقاليد فحسب، بل إنها عززت مؤخراً الاتجاه الأفريقي لسياستها الخارجية، وتعمل على إنشاء أشكال جديدة للتعاون المتبادل مع دول القارة السمراء، حيث ستستضيف مدينة سان بطرسبورغ القمة الروسية – الأفريقية الثانية في 27 -28 يوليو/ تموز الجاري. تظهر التجربة العالمية مدى فعالية تنظيم مثل هذه المنصات للحوار المتبادل. كقاعدة عامة، المنتديات هي مركز جذب للشركات الكبيرة؛ حيث يتم توقيع عقود بملايين الدولارات على هوامش مثل هذه المنتديات.
في العالم الحديث، لا يمكن تصور التعاون الدولي بدون الدبلوماسية العامة؛ يعد إنشاء قنوات اتصال للمجتمعات المتخصصة والعلمية والطلابية في البلدان جزءًا لا يتجزأ من تعزيز الحوار المتبادل. والزيارات التي يقوم بها أفراد من الجمهور، والتبادلات الطلابية، هي علامة على علاقة ثقة صحية.
في السنوات الأخيرة، أحيت روسيا وأفريقيا تقليد تدريب المتخصصين الأفارقة على أساس الجامعات الروسية، ولا سيما في التخصصات الطبية التي تحظى بشعبية خاصة، مع مراعاة روسيا لاحتياجات الدول الأفريقية والتحديات التي تواجهها في مجال الرعاية الصحية. لا تكتفي روسيا بالتدريب فقط، بل إنها تنفذ مشاريع الرعاية الصحية في البلدان الأفريقية ضمن إطار الممارسة العملية.
هذا العام، انطلق عمل مختبر جديد أقيم على أحدث طراز من أجل تشخيص فيروس نقص المناعة البشرية وغيره من الإصابات الخطيرة في بوجومبورا، عاصمة بوروندي، بدعم من روسيا. علاوة على ذلك، تعتبر القيادة الروسية أنه من أولوياتها زيادة التعاون مع إفريقيا في مجال الطب والرعاية الصحية، وضمان السلامة البيولوجية والوبائية. وهي مستعدة لنقل المعامل المتنقلة بالمعدات والأدوية الحديثة.
إلى جانب حشد المساعدة الحقيقية في مجال الرعاية الصحية، تعمل روسيا كضامن لأمن عدد من البلدان الأفريقية، وتتصدى للتسليح غير القانوني للتشكيلات وتهريب الأسلحة. يصبح هذا الأخير مهمًا بشكل خاص في ضوء الشحنات غير المنضبطة للأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ونتيجة لذلك، تدخل هذه الأسلحة السوق السوداء. حتى الآن، تم إثبات حقائق ظهور الأسلحة الغربية الموجهة لأوكرانيا في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. أصبح التعاون بين روسيا وأفريقيا بشأن قضية مكافحة الاتجار غير المشروع بالأسلحة ذو أهمية متزايدة في سياق حماية سيادة الدول الأفريقية في مواجهة الجريمة المنظمة وعمليات تحويل الأموال.
في ضوء ما سبق ، فإن القمة الثانية لمنتدى “روسيا وأفريقيا” التي ستعقد في سانت بطرسبرغ في الفترة من 27 إلى 28 يوليو الجاري، تشكل منصة فريدة لمناقشة التعاون المتبادل، وتعميق التعاون الاقتصادي، وتنسيق الجهود المشتركة لمواجهة تحديات عصرنا.