شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب السياسي

Spread the love
image_pdfimage_print

يُراجِع البروفيسور مانويل كاستلز العلاقة بين شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الأيديولوجي، ويُحدد أشكال التفاعل بين المتغيرين، وكذلك أهمية دور العامل الاجتماعي والاتصالي في عملية الاستقطاب؛ حيث فرضت شبكات التواصل الاجتماعي هيمنتها على فضاءات التواصل الجماهيري. ويرى كاستلز، في المحاضرة التي ألقاها عبر تقنية الزوم، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العلمي “شبكات التواصل الاجتماعي والاستقطاب الأيديولوجي: علاقات القوة والتأثير الثقافي والاجتماعي”، الذي نظَّمه مركز الجزيرة للدراسات وقسم الإعلام بجامعة قطر، يومي 1 و2 مارس/آذار 2023، أن للاستقطاب جذورًا أعمق تكمن في أزمة الثقة والشرعية السياسية حول العالم، وأن هذه الأزمة نفسها نتاج سمات السياسة الإعلامية والبيروقراطية وتعاظم الفساد. لذلك يفترض، مؤسس نموذج المجتمع الشبكي في عصر المعلومات، أن شبكات التواصل الاجتماعي تُعزِّز دور الجهات المُسْتَقْطِبَة في المجتمع، ولكنها ليست السبب الذي يدفع لتطرُّفها.


تُعد موازين القوى -في جميع المجتمعات- مُنْتِجَة للمعايير الاجتماعية إلى حدِّ أن البعض يعتبرها الحمض النووي للمجتمعات. ويُعزى السبب في ذلك إلى أن أولئك الذين هم في مواقع النفوذ يحاولون أن يُشكِّلوا المؤسسات والقوانين وفقًا لمصالحهم واهتماماتهم. وفي الوقت نفسه كل من يطعن في هذه الموازين القائمة أيضًا يقوم بالطعن في ممارسات هذه المؤسسات. إذن، هناك علاقات القوة، والعلاقات المضادة لموازين القوى القائمة التي تؤثر في المجتمعات، وتظهر هذه العلاقات -علاقات موازين القوى- بشكل أساسي في الإعلام. ويوجد النفوذ في القدرة على الاتصالات والتواصل ويؤثر ذلك في المجتمعات بأسرها. هذا مفهوم بسيط، لأننا -نحن البشر- أشخاص اجتماعيون، أي كائنات اجتماعية، نرغب في الاتصال بالآخرين على مستوى عال وهو التواصل. وهذا يؤثر في طريقة حياتنا وتصرفاتنا وتضامننا وحتى المواجهة التي قد تحدث بين بعضنا البعض. ويؤدي هذا التفاعل بين الناس إلى الاستقطاب فيما بينهم وبين المؤسسات. ويعتمد ذلك على التوافق وقدرة الناس على قبول هذه المعايير التي تحدثنا عنها لكي نستطيع جميعًا التعايش. ولذلك، فإن نظام المؤسسات قد يُعتبَر مشروعًا، لكن جميع المؤسسات هي جهات فاعلة تحاول أن تُعزِّز من فهمها من خلال إعادة النظر في هذه المفاهيم أو الطعن فيها. 

هناك عدة جهات فاعلة، ولاعبون يتفاعلون بشدة مما قد يطرح مسألة المشروعية. كما أن بعض المجتمعات تعتبر هذه المؤسسات غير عادلة بالنسبة إليها، وتحاول الطعن فيها وأن تطرح قيمًا إضافية. إذن، هناك أزمة الشرعية التي تعاني منها هذه المؤسسات وتؤثر في مجتمعاتنا، والعامل الأساسي في ذلك هو الديناميات التي تحدث في مجال التواصل الذي يُعد أساسيًّا للقوى والنفوذ وأيضًا للمجتمعات. فهو (التواصل) يُنَظَّمُ ويُجْمَعُ لكي يُصبِح مكوِّنًا أساسيًّا للشرعية السياسية، وفي الوقت ذاته تؤثر هذه الأزمة (أزمة الشرعية) على مساحة التواصل، بينما تؤثر مساحة التواصل نفسها في المؤسسات والقيم. وبالتالي نحن في أزمة مُؤَسَّسِية مستمرة. وفي التاريخ الإنساني، نجد أن تكنولوجيا الاتصالات تُتيح تشكيل مؤسسات الإعلام والتواصل التي تُسيطر عليها المؤسسات السياسية، أي الدول، أو العلاقات التجارية، أو الأجهزة الأيديولوجية.

مع نشوء التكنولوجيات الجديدة في مجال التواصل -وأشير هنا إلى أن الإنترنت بدأت في الظهور في العام 1969 وباتت الآن مُمَكِّنة للتواصل بين البلدان، وهناك تقريبًا 5.5 مليارات مستخدم للإنترنت، وأيضًا عدد يقارب 2 مليار من الأشخاص الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي- فإن ما شهدناه بشكل متزايد خلال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية هو تشكيل لشبكات التواصل فيما بين الناس، والتي أدت إلى نوع من السيطرة. فهذا التفاعل لهذا النوع من التواصل من دون أي حدود ومن دون أي وسيط أدى إلى مَأْسَسَة التأثير. لذلك نجد بعض الأشخاص ينادي بالحرية، والبعض الآخر يحاول التفلت من أي سيطرة عليه، وقد أدى ذلك إلى ظهور وسائط جديدة في عالم الإنترنت، بعضها يستخدم للعمل التجاري. وبفعل الاهتمام بهذه الشركات، سيؤدي ذلك إلى تفعيل التواصل والاتصال بدرجة أكبر. وهنا يمكن القول: إن التواصل هو مسألة تسيطر عليها شركات الاتصالات الكبرى باعتبارها مالكة ومسيطرة على منصات التواصل الاجتماعي؛ إذ تتيح للناس التواصل فيما بينهم بالقدر الذي يرغبون فيه ووفقًا لما تتيحه هذه المؤسسات.

في ظل هذه الظروف هناك لوم على التنوع في مجال وسائل التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي مما يطرح مجددًا مسألة الشرعية. ومن ثم فإن إلقاء اللوم على شبكات التواصل الاجتماعي فيما يخص الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي المتزايد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وبالنسبة لعدد من العوامل الأخرى فإنها تهدد وجود الديمقراطية الليبرالية. هناك ادعاءات كثيرة في هذا السياق يمكن استعراض بعضها؛ إذ بصرف النظر عن شبكات التواصل الاجتماعي فقد باتت المجتمعات أكثر استقطابًا سياسيًّا في أي مكان، ويحصل هذا الاستقطاب في عدة مجالات من الحياة الاجتماعية، وقد أثَّرت الصراعات الكبرى في معتقداتنا. نحن لا نراها بالطريقة نفسها بعد الآن، ويمكن أن يُنظَر إليها من خلال العنصرية، أو معاداة الأشخاص المختلفين عنَّا، أو الأجانب، أو أشخاص من إثنيات مختلفة. لن أطيل التعمق في هذا الموضوع، ولكن يمكن أن أشير إلى البيانات التي أوردتها في كتابي عن أزمة مؤسسات التواصل التي أعرضها بشكل تفصيلي. كل هذه التعابير المتعلقة بالقيم والقيم المضادة باتت حتمية. إن ما يؤثر في الاستقطاب هو مسألة الثقة في المؤسسات والجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية. نحن وثَّقنا أن المؤسسات الإعلامية قادرة على إدارة بعض الصراعات، وقد أدى هذا الاهتمام من كافة أقطاب المجتمع إلى نهاية بعض أوجه الثقة، ولكن ما الدور الأساسي -وليس المزعوم- لشبكات التواصل الاجتماعي في موضوع الاستقطاب؟

لا يتعلق الأمر تحديدًا بوجود شبكات التواصل الاجتماعي التي على أساسها نصبح استقطابيين، بل أظهرت البحوث المتخصصة أن هناك استقطابًا منذ الأصل، وتنامى تحديدًا في القرن الحادي والعشرين. لذلك فإن الفكرة هنا لا تعود إلى الجهات الفاعلة السياسية أو المؤسسات السياسية القائمة، وإنما الشرعية السياسية مسؤولة بعض الشيء في هذا الموضوع؛ إذ إن ثلثي الأشخاص في العالم -بحسب أبحاثنا- لا يثقون في القادة السياسيين والأحزاب السياسية والمؤسسات السياسية. إن أزمة الثقة هنا تؤثر في كافة المجالات: في النظام المالي والمؤسسات المالية، وفي الجهات الفاعلة اقتصاديًّا، وفي معظم الأحيان في القادة الدينيين أيضًا مع بعض الاستثناءات في بعض البلدان، وأيضًا انعدام الثقة في بعض القضايا الصحفية، وحتى في العلم، مثل أزمة الثقة في اللقاح الذي جعلنا ننجو بحياتنا خلال جائحة كوفيد-19. هناك عدد كبير من الأشخاص الذين كانوا يعارضون هذا اللقاح جرَّاء انعدام الثقة بالعلم نفسه. ومن ثم فإن مسألة الثقة باتت ظاهرة بشكل كبير، وهنا تُطرَح مسألة الشرعية في هذا الفعل، وطبعًا انعدام التكافؤ من الناحية السياسية، والدعم المقدم من النظم؛ الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من البيروقراطية وتعاظم الفساد وغير ذلك؛ مما يؤثر في الدول نفسها.

هناك أيضًا عوامل أخرى غير مُؤَسَّسِية، فنحن على شفير تحول تكنولوجي، وثمة أشخاص يخافون من هذا التسارع التكنولوجي في العالم. لذلك فالناس ببساطة خائفون، ويُعد الخوف أكثر المشاعر قوة وفعالية. إذن، هناك هذا الخوف الكبير الذي يؤثر في التواصل لدينا، وليست هناك بِنَى للوساطة، لأن الناس ليس لديهم ثقة في الكثير من هذه المؤسسات، ولأن العالم أيضًا دخل في نوع من دوامة العنف في حياتهم اليومية، ونجد في معظم البلدان هذا الخوف من العنف في أذهان الناس. علاوة على ذلك، ثمة الوعي بأزمة المناخ التي تؤثر في الكائنات الحية بكوكبنا؛ ففي الولايات المتحدة -كما نقول- تتشكَّل العاصفة من دون أن تكون هناك إمكانية للسيطرة عليها من قبل كافة الفاعلين.

وبخصوص استخدام الإنترنت، يمكن القول: إن هناك بثًّا للمعلومات المُضَلِّلَة والمعلومات الزائفة وغير ذلك، وهكذا دخلنا حقبة اللاحقيقة، كما أصبحنا في واقع تتحول فيه هذه الحقائق. والسؤال: لماذا يحصل ذلك؟ كما ذكرت سابقًا، فإن شركات التكنولوجيا التي تملك منصات التواصل تقوم على نموذج تجاري يهدف إلى زيادة التفاعلات، وكلما زاد ذلك زاد الكره بين الناس، وباتوا أكثر نشاطًا في عملية التفاعل بشأن هذه المعلومات. إذن، نظام التواصل الجديد لدينا يعتمد على السرعة العالية من خلال التطور التكنولوجي، كما أن التواصل الشامل المقسم يجعل الأمور مُشَخْصَنَة ومن ثم تصبح الأمور ضمن سحابة غير مفهومة. ولكن هناك شيء آخر، ما هو في الحقيقة دور الممارسات اليومية على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي ضمن هذا الإطار الاستقطابي السياسي والثقافي؟ هذا أمر مهم جدًّا.

نبدأ بواقع يتمثَّل في وجود استقطاب أيديولوجي وسياسي ينتشر ويشيع في كل مكان، وهو ليس خفيًّا بل يوجد عبر مصادر مختلفة ذكرتُ بعضها. بالنظر إلى هذا السياق: ما الدور المحدد والتأثير المحدد لمواقع التواصل في هذا الاستقطاب؟ قد تكون لدينا وجهات نظر بالنسبة لهذه الأسئلة، ولكن هنا يبرز دور العلوم الاجتماعية التي قد تساعدنا في الإجابة عن هذه الأسئلة الوجودية الأساسية. بالنظر إلى إطار الاستقطاب السياسي والأيديولوجي ومع علمنا بوجود هذا السياق الاستقطابي: ما دور شبكات التواصل الاجتماعي في التصدي لهذا الاستقطاب؟

بالنسبة لمن يعملون في كبرى المؤسسات يجب أن يتنبهوا لهذا الموضوع طبعًا. نحاول جميعًا أن نتوجه إلى مصادر المعلومات، والمواقع على شبكات التواصل، تُشبِه ما نُفَكِّر به وتعكس وجهة نظرنا نحن لكي نؤكد ما نُفَكِّر به وليس لكي ندحضه. وهذا ما توصل إليه باحثو علم النفس من خلاصات في دراستهم لمواقع التواصل، لأننا عادة نميل إلى التشكيك في كافة الآراء ووجهات النظر وحتى المعلومات التي تعارض آراءنا؛ إذ ترفض أغلبية الناس أن تُغيِّر رأيها؛ لذلك ترفض ما يتحدى رأيها. وهذا ما أشار إليه الباحثون والخبراء بعد ملاحظاتهم ومراقبتهم للواقع. فهذه طريقة السلوك الإنساني بصورة عامة. فالأشخاص المحافظون يرفضون أن يطلعوا على وسائل الإعلام والقنوات الإعلامية الليبرالية، والعكس صحيح. إذن، يرفضون الاطلاع على المعلومات التي تنقلها وسائل الإعلام من الطرف الآخر، وهذا ما توصل إليه مُحلِّلو البيانات. والأمر سيان بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ تتشكَّل في العادة هذه الآراء في مواقع التواصل بحسب تماهينا مع السلوكيات، وانعكاس هذه السلوكيات يحصل بما نُسمِّيه غرفة الصدى، صدى الصوت، حيث يسعى الجميع لسماع صدى صوته، إن صح القول، أي أن يسمع وجهة نظر تُفَصِّل وتَدْعَم وجهة نظره. البروفيسور باربرا من خلال إحدى الأوراق البحثية، وهناك الكثير من المراجع التي تؤكد ما أتحدث عنه، ترى أن الاستقطاب الموجود في المجتمع هو الذي يُملي ويُؤطِّر هذا الاستقطاب في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وليس العكس صحيحًا. طبعًا مواقع التواصل لديها بعض التأثير.  

إذن، الآراء الاجتماعية تُوجِّه مواقع التواصل وليس العكس صحيحًا بالضرورة. كل ذلك منوط بكيفية بناء مواقع التواصل لهذا التفاعل. البروفيسور تاكل وغيره حلَّلوا هذه المسائل وقدَّموا ثلاث خلاصات أساسية:

– أولًا: إن تعاظم الانقسام في مواقع التواصل الاجتماعي يعكس الانقسام والتشرذم الاجتماعي؛ الأمر الذي من شأنه أن يخفض من جودة المعلومات السياسية.

– ثانيًا: بالنسبة لمن يستهلكون المعلومات السياسية في مواقع التواصل الاجتماعي بصورة عامة فهم معرضون أكثر لتنوع وجهات النظر من قِبَل أشخاص غير مُسْتَقْطَبِين. في الحقيقة، إن استخدام مواقع التواصل يُعزِّز من التسامح والانفتاح على النقاش لمن ليسوا مُسْتَقْطَبِين، كما أن غالبية الناس في العالم ليست مُسْتَقْطَبَة، ولكن من هم مُسْتَقْطَبون واضحون ونشطون جدًّا في مواقع التواصل الاجتماعي.

– ثالثًا: تبادل الآراء ووجهات النظر السياسية والأيديولوجية على مواقع التواصل الاجتماعي غالبًا ما يكون منتشرًا، وهذا يُسهم في الاستقطاب السياسي أكثر. 

في هذا السياق، أشير إلى أن البروفيسور باربرا، أكبر الباحثين في هذا المجال، تقول إنها مسألة نزاع على الهوية وليس بالضرورة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تؤثر في الاستقطاب. فأقل من 20% من التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي يتضمن مكونًا أو عنصرًا أيديولوجيًّا أو سياسيًّا. وقد يكون الموضوع رياضيًّا أو اجتماعيًّا أو فنيًّا وليس بالضرورة حكرًا على النقاشات السياسية والأيديولوجية، ولكن المُسْتَقْطَبِين في هذا المجال هم الأكثر نشاطًا في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما أظهرته البحوث من دون أن يكون هناك ترابط وثيق بين استخدام الإنترنت والاستقطاب. إذن، استخدام الإنترنت ليس مرتبطًا بالاستقطاب السياسي في عدد من الفئات الديمغرافية، مثلًا بين الأعوام 1996 و2016، تزايد الاستقطاب السياسي في كافة الفئات العمرية، ولكنه تضاعف لدى الفئة العمرية فوق 65 عامًا، وهم الأشخاص الأقل استخدامًا للإنترنت، والأقل نشاطًا على مواقع التواصل الاجتماعي. أما الفئة العمرية الشابة التي تستخدم الإنترنت فكانت الأقل استقطابًا في الولايات المتحدة، فهي الأكثر نشاطًا والأقل استقطابًا، ولكن بالنسبة لمن هم مُسْتَقْطَبون سياسيًّا فإن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يُعزِّز من راديكاليتهم، لاسيما إذا كانوا في اليمين المتطرف، وذلك لأنهم الأكثر حضورًا والأعلى صوتًا، إضافة إلى أن كثرة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي تُدْخِلُهُم في حالة إدمان. إن كثرة استخدام التعليقات والتعليقات المضادة، والنزاعات الأيديولوجية على مواقع التواصل الاجتماعي، تجعلهم مدمنين يبحثون عن جرعة دوبامين مستمرة، ويتحمسون وينفعلون ويخرجون عن طورهم، وذلك بمنزلة مادة مخدرة ترضيهم وتشبعهم. إذن، كلما نشطوا في مواقع التواصل الاجتماعي نشطت هذه الخلايا العصبية التي تعمل على الدوبامين. وهذا نوع من المخدر الذي يُعزِّز النزاعات والإشكاليات، ويُعزِّز أيضًا انتشار المعلومات الخاطئة التي يتقبلها المستخدمون الذين يتماهون مع هذا الخط السياسي أو الأيديولوجي. أخيرًا، بالنسبة للحملات السياسية التي تستهدف إيجابًا أو سلبًا إرسال بعض الرسائل عن السياسيين فإنها تتعزز وتتعاظم من خلال استخدام الروبوتات والذباب الإلكتروني الذي يُعزِّز انتشار الرسالة.   

في هذه الظروف، فإن أي محاولة للتصدي لهذه المعلومات من خلال تقديم الوقائع تضيع بسبب حجم وكثرة المعلومات المُضَلِّلَة والخاطئة، ومن ثم يلغي هذا الاستقطاب الموضوعية للأسف. ومسكين هو هذا الصحفي الذي يحاول التمسك بالوقائع والحقيقة، لأن صوته يضيع في خضم هذه الحملة والبروباغندا. إذن، استخدام هذا الذباب الإلكتروني قد يكون عنصرًا أساسيًّا في هذه الحملات السياسية كما تابعنا مع جايير بولسونارو، ودونالد ترامب، وأيضًا حملة خروج بريطانيا (بريكست) من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تعاظم تأثير حملات اليمين المتطرف في السويد وفرنسا وألمانيا…إلخ، وتحظى هذه الحملات بدعم مالي، ولذلك ليست المسألة فقط أن نرى شبكات التواصل الاجتماعي تبدأ بسحر ساحر العمل على الاستقطاب، بل هناك من يدعمها ماليًّا.

إذن، شبكات التواصل الاجتماعي قد تُعزِّز الاستقطاب ولكنها ليست مُسَبِّبًا له. هناك جهات سياسية فاعلة، ومجموعات محافظة أيضًا، وجهات يسارية متطرفة في بعض الأحيان، تدعم ماليًّا هذه الحملات الاستقطابية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتدخل في هذه المواقع للسيطرة على الرأي العام عبر بث المعلومات الخاطئة والمُضَلِّلَة، وهذا ما نُسمِّيه بالتزييف. وتتحول هذه الأكاذيب في الحقيقة إلى أخبار؛ حيث نرى بطريقة خاطئة ومُضَلِّلَة وغير صحيحة سياسيًّا يقول شيئًا ما، وهو لم يقله في الواقع، بل يتم ذلك من خلال برمجية على الكومبيوتر؛ حيث يوضع هذا الكلام على لسانه وتخرج هذه المعلومات المُفَبْرَكَة والمُضَلِّلَة. هذه الحلقة قد تكون أُقْفِلَت. إذن، الاستقطاب السياسي والأيديولوجي يتركز على أنشطة الأقليات، التي تحاول أن تقف وتتصدى لهذا الخطاب الاستقطابي، وهذا يُعزِّز النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي، وتستفيد منه منصات التواصل التي لا تريد أن تحمل سيف الأخلاق والتوجيه الصحيح، لأنها في النهاية قد تخسر من انحسار التفاعل الذي تتربح منه.

باختصار، شبكات التواصل الاجتماعي لا تخلق الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، بل وسائل تعكس ما يحصل في المجتمع. هذا النظام السياسي صار مُسْتَقْطَبًا ومُسْتَقْطِبًا وليس هناك تدخل كبير من المؤسسات ولكن ضمن هذا الإطار فإن شبكات التواصل الاجتماعي تُعزِّز وتُعظِّم وتُوسِّع وتنشر هذا الاستقطاب من خلال وجودها في الفضاء الرقمي.


مانويل كاستلز

أستاذ جامعي، ورئيس واليس أننبرغ لتكنولوجيا الاتصالات والمجتمع بجامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس. عمل أستاذًا لعلم الاجتماع والتخطيط بجامعة كاليفورنيا في بركلي بين عامي 1979 و2003. ودرَّس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكذلك في جامعة كامبريدج، حيث كان زميلًا في كلية سانت جون. نشر كاستلز 32 كتابًا، بما في ذلك ثلاثيته: “عصر المعلومات: الاقتصاد والمجتمع والثقافة” (1996-2000)، التي تُرجمت إلى 22 لغة. حصل على جائزة هولبرغ، وجائزة بالزان الدولية، وميدالية إيراسموس.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات