ذات مرة، تحدث نقيب أصحاب الفنادق في لبنان، بيار الأشقر، عن الأزمة قائلاً: «لبنان يحكمه مجلس إدارة يضم الجميع. كانت الأمور تسير بشكل جيد. كانت هناك أخطاء، وكانت هناك مراعاة لمصالح ومطالب هذا العضو أو ذاك، لكن، فجأة، قرر أحد أعضاء مجلس الإدارة قلب الطاولة». وعندما سُئل عمّن يقصد، أجاب بصوت منخفض: حزب الله!
الكلام العلني للأشقر، يمكن أن يُسمع مثله مع تفاصيل إضافية في الجلسات المغلقة. وهو نقاش يختصر أزمة البلاد بما يعانيه قطاع الخدمات السياحية، باعتباره كان دوماً أساسياً في الناتج القومي، قبل أن يصبح هذا الناتج، في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، معتمداً في شكل شبه حصري على السياحة، بعدما أدّت السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي اعتُمدت مع الراحل رفيق الحريري الى تراجع بقية القطاعات الإنتاجية، كالصناعة والزراعة والصناعات التحويلية، وارتضى لبنان أن يكون المتعلّمون فيه موظفين في مؤسسات غنية خارجه، مع محاولات خجولة لإنتاج محلي يستقطب خبرات لبنانية متطورة في العلوم الحديثة.
وفق تفسيرات الأشقر، تبدو الأمور منطقية. الرجل يقول إن السياحة تقوم على ما توفّره من خدمات تستقطب الراغبين بالمجيء الى لبنان طلباً للراحة والترفيه. ويركّز أصحاب هذا الرأي على أبناء الخليج العربي، والأثرياء العرب من بقية الدول العربية، وقسم من غير العرب. وفي كل مرة يستعيد فيها أصحاب هذا القطاع سردية «الزمن الجميل»، يقدّمون لنا روايات وحكايات عن السيّاح الخليجيين الذين ينفقون أموالاً كثيرة، وعن النشاط العقاري والخدماتي الذي يرافق قدومهم الى لبنان.
وفق نظرية الأشقر، فإن امتناع الخليجيين عن القدوم الى لبنان سببه أعمال المقاومة في لبنان وخارجه. وهو تحدث عن ذلك في ذروة الغضب الخليجي على لبنان ربطاً بما اعتُبر «تدخل» المقاومة في سوريا والعراق واليمن. وما قاله الأشقر ينطبق على قطاعات أخرى كانت عمود اقتصاد الريع الذي قام بعد الحرب الأهلية، وخصوصاً القطاع المصرفي. إذ يرى النافذون فيه أن المشكلة السياسية سببها المقاومة التي تسبّبت بهروب الرساميل العربية والخليجية على وجه الخصوص من مصارف لبنان، وفي إجراءات حدّت من تدفق الرساميل، سواء من خلال العقوبات المباشرة التي فرضتها واشنطن باسم مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، أو عبر الانقطاع الخليجي العربي عن لبنان.
في الحالتين، يخال المرء أن إعلان المقاومة اعتزالها عن العمل سيقلب الأمور في لبنان رأساً على عقب. ويمكن تخيّل دعاية تلفزيونية هوليودية، فيها متاجر تتوسّع، ومطار يكبر، وطرقات تُشقّ، ومئات الآلاف يتدفقون عبر المعابر، واكتظاظ في خزائن المصارف اللبنانية، ونموّ صاروخي للاقتصاد، وارتفاع في حجم السيولة بالعملات الصعبة. تصبح القصة كلها على طريقة صناعة الأمل في الأفلام الأميركية.
لكن اللافت أن هؤلاء يتجاهلون، عن عمد، عشر سنوات من التعايش بين مشروع الحريري والمقاومة. وما من أحد منهم يتحدّث عن سر تدفق الأموال والسيّاح وعودة المهاجرين في السنوات حين كانت المعارك على أشدّها بين المقاومة وقوات الاحتلال، وحين شنّ العدوّ حربين قاسيتين عامَي 1993 و1996، ولم تسلم مناطق ولا منشآت لبنانية مدنية من جنونه. رغم ذلك، لم يكن أحد يرفع الصوت اعتراضاً، ولم يشر هؤلاء إلى مشكلات تواجه النموذج الاقتصادي الاستهلاكي الذي كرّسته سياسات الحريري ومعه كل من تعاقبوا على الحكم، لا بل كان بينهم من يشيد – ولو رياءً – ببطولات المقاومين وتضحياتهم، وكانت الأمور «ماشية» طالما أنّ أحداً لا يتحدث عن عناصر الأزمة البنيوية في النموذج الاقتصادي نفسه… حتى إذا ما وقعت الأزمة، رفض كل من استفادوا من «سنوات الرخاء» فكرة أن النموذج «خربان» من داخله، وألقوا باللوم على «السياسيين الطمّاعين الذين فرضوا على المصرف المركزي والمصارف استعمال ودائع الناس».
مشكلة هؤلاء ليست في أنهم لا يريدون تحمّل كلفة خيار المقاومة، وهذا حقهم، بل في أنهم يفترضون أن بقية اللبنانيين يريدون تحمّل كلفة خيارهم الاقتصادي بعدما كانت نتيجته دماراً شاملاً، ويعتقدون بأن غالبية لبنانية ستقبل بحلول تناسب أقلية كانت، ولا تزال، تمسك بمفاصل القطاعين المالي والاقتصادي، وتتحكم بـ«سوق المضاربة» الذي يحكم لبنان اليوم، ويقضي على بقية ودائع الناس.
اليوم، يأخذ النقاش حول الرئاسة استراحة نتيجة الاستعصاء العام، داخلياً وخارجياً. مع ذلك، لا يريد أحد الدخول في نقاش فعلي حول النموذج المفترض أن يأتي الرئيس الجديد للعمل على تقديمه بديلاً عما كان قائماً. وهو نقاش غائب حتى عن البديل المفترض من رياض سلامة بعد خروجه من حاكمية مصرف لبنان، ولا أحد يتطرّق الى آلية الفصل بين إدارة السياسة النقدية وإدارة السياسة المالية للدولة. بل يتركز البحث حول ما إذا كانت الولايات المتحدة راضية عن البديل الذي ينبغي أن يكون «ابن سوق»، يعرف كيف يتعامل مع «الزعران من السياسيين والمصرفيين والصرافين». حتى صار المرء يتوقع أن التوصيف الوظيفي لمنصب الحاكم مناسب لحارس على باب ملهي ليلي.
عملياً، كلما اقترب النقاش الحقيقي من أصل المشكلة ظهرت عوارض الأمراض اللبنانية التي لم تعالج يوماً. من حقّ كثيرين أن يطرحوا سؤالاً حول أيّ نظام يريده اللبنانيون اليوم. وهو سؤال لا تفرض الإجابات عنه انقساماً في الرأي يقود الى تقسيم للبلاد، بل تفرضه تطوّرات حصلت في كل العالم، وكانت هناك إجابات أبقت على البلاد موحّدة، وفتحت باب العلاجات الحقيقية.
إبراهيم الأمين
المصدر: صحيفة الأخبار